اللغة العربية تئنُّ تحت وطأة اللغات الأجنبية بين أهلها

د. الطيب عطاوي


اللغة مهما كان نوعها رمزُ اعتزاز الأمة وفخرها، ومصدر عنوانها وحقيقة وجودها ، وبدونها فالشعوب فارغة المحتوى ولا أساس لقيامها وتطورها ، فالشعوب لا ترضى للغاتها أن تُهان خارج ديارها ؛ فكيف بها داخل الديار ؟ إذ لا تجد شعباً يحترم تاريخه ومسيرة تطوره يولِّي ظهره للغته ويفضِّل عليها لغة أخرى ؛ لأنه يدرك تمام الإدراك أن ذلك مهانة لقوميته وشخصيته ؛ بل نخوته وعِرضه ، وفِعْلُ ذلك أوانٌ لنهايته وزوال لوجوده . .

والأمر غير ذلك تماماً عند الأمة العربية (طبعاً هناك تفاوتٌ في درجة الاهتمام بالعربية من بلد عربي إلى آخر) ؛ حيث الالتفاف حول اللغات الأجنبية والتسابق إلى تعلمها وتعليمها بدأ يأخذ منحى آخر في السنوات الأخيرة ، فصارت العربية في عقر دارها تعيش غربة بين أهلها وبين مثقفيها الذين كان لزاماً عليهم أن يحملوها فوق الأعناق ويتكلموا بها في بلدانهم وخارج بلدانهم ، لكن للأسف صرنا نرى العجب العُجاب في التحدث والتخاطب بها في المدارس والإدارات والمحافل الوطنية والدولية ، فلا تكاد تعثر على رئيس قوم يحسن التكلم بالعربية السليمة حتى لا نقول الفصحى إلا جاهداً كأنه يتعلمها لأول مرة ، والأدهى من ذلك أن يتكلم آخرون على مستوى عالٍ بغيرها لأنهم يرون فيها نقصاً لا تسدُّه عباراتها وألفاظها ، فتجدهم يخاطبون بني جلدتهم بغير لسانهم العربي .
إن الأمة التي تخاطب شعوبها بغير لغتها الأم لَهِيَ أمة مريضة يُستوجَبُ مداواتها ، فأيُّ أمةٍ ترضى بذا الهوان ؟! .. يا لها من مهزلةٍ عظيمة تلك الأمة التي تراسل مواطنيها بغير لسانهم العربي وتدَّعي أنها تساير الحداثة ، والتطور يكمن في القدرة على مجاراة الأمم الأخرى في لغاتها كما تدَّعي ! 
للأسف .. فمثل هؤلاء كمثل الذي ينعق بما لا يسمع ، فالعربية في عُرفهم لا تساير الحضارة وهي سبب تخلفنا ، وهذا أمرٌ في نظرنا قاصرٌ لا يبصر حقائق الأمور ولا يعي ما معنى الحضارة ، فمن غير المعقول أن   » نعود إلى اتهام اللغة العربية على أنها سبب التخلف ؛ بل إن العائق في ذويها الخاملين الذين لم يعملوا على ترقيتها ، ولم يجعلوها تعيش المعاصرة ، أولئك الشُّداة المقصِّرين العاجزين عن العمل ، والذين عسعس فيهم التردُّد والتراجع ، وعشعش فيهم الخمول والتكاسل ، وقد كان هذا سبباً في أنها أبعدوها من الجوانب العلمية في المنظومات العربية ، وقصروها على الجانب الأدبي والتاريخي والديني ، ورسَّخوا فينا شعار : العربية لغة التآبين والأدب الفصيح والشعر « (1) .
يا لهذه السخرية كيف أضحى وأصبح وأمسى وبات أفراد المجتمعات العربية المثقفون وأشباه المثقفين ينظرون من طرفٍ خفيٍّ للغتهم العربية ويحتقرون كل من يخاطبهم بها ، وكأنهم رضوا لأنفسهم أن يكونوا تبعاً للآخر ، فهم حينما يرونه يخاطبهم بلغته هو يهرعون لمنافسته في لغته فينبهر بهم ويحترمهم ، في حين هو يلعنهم ويحطُّ من قدرهم وقيمتهم ، لذلك ترانا في جامعاتنا ومدارسنا ومعاهدنا ومراكزنا نتأفَّفُ حينما نسمع شخصاً يوصينا بتصحيح خطأ نحوي أو الوقوف عند ميزان صرفي أو حُسْنِ الاستشهاد ببيتٍ شعري فصيح ونحو ذلك ، فقد » أصبح مألوفاً جداً أن المتخرِّج في الجامعة لا يحسن التكلم بالعربية ، ولا يحسن كتابة صفحة بالعربية الفصحى الصحيحة . ثم تغلغل هذا الإلف في نفوسنا حتى صار أمراً طبيعياً لا ندرك أخطاره ... وحين ينتهي الطلَّابُ من الدراسة الثانوية يتنفسون الصعداء أنهم تخلَّصوا من مقررات اللغة العربية إلى الأبد . ويعزف الطلَّابُ عن الالتحاق بأقسام اللغة العربية في الجامعات ، فلا يدخلها في الأغلب إلا المضطرُّون ... وتكون النتيجة مستوى متدنياً عند المتخرِّجين في أقسام اللغة العربية ، وهؤلاء يُعيَّنون لتعلم العربية في التعليم العام ، وهكذا تكتمل الدائرة المغلقة ؛ يصبح السبب نتيجة ، والنتيجة سبباً ، والضعف لا يلد إلا ضعفا « (2) .
إن الاهتمام باللغات الأجنبية ليس أمراً سيِّئاً ؛ بل هو أمرٌ محمود ولا بد منه في عصرنا اليوم كي نواجه سيل العولمة الخانق ، لكن هذه المواجهة لا تتمُّ إلا بالحفاظ على اللغة الأم (العربية) وتعميمها عبر وسائل الإعلام والإدارة ، وكذا التخاطب بها بين أفراد المجتمع العربي ، وجعلها خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه ، ومن أراد إهانتها تؤخذ ضده الإجراءات اللازمة ، ثم الرفع من قيمتها داخل المدارس والجامعات بمخطط عام يضمن لها البقاء والديمومة ، ومن ثَمَّة نحفظ لها كينونتها وتبقى رمزاً في عُرف كل فرد منتمي إلى الأمة العربية ، وتكتمل صورة البناء الحضاري بمفهومه العام ؛ إذ لا حضارة لأمة خارج لغتها ، ومن أراد التطور خارج لغته فحاله كحال التائه في الصحراء يجري وراء سراب وما هو ببالغه ! 
إن العربية محفوظة عبر التاريخ بمخلصيها الأوفياء الذين وهبوا أنفسهم وسخَّروها للرفع من شأن هذه اللغة المعطاءة ، لغة وجد فيها الأقارب والأباعد على حد سواء ما يبحثون عنه من جمال العبارة وسلامة الخطاب وحسن التصوير وبراعة المنطق ما لم يجدوه في غيرها من اللغات ، وعدّوها لغة المستقبل دون منازع ، فهذا المستشرق الأمريكي "ريتشارد كوتهيل" يقول عنها : قلَّ منا نحن الغربيين من يقدِّر اللغة العربية حق قدرها .. لقد كان للعربية ماضٍ مجيد ، وفي تقديري سيكون لها مستقبل باهر  .
كما كتب القصَّاص المشهور " جون فيرن " في إحدى قصصه الخيالية عن قوم شقُّوا في أعماق الأرض طريقاً إلى جوفها ، فلما خرجوا سجَّلوا أسماءهم بالعربية ، فلما سُئل عن ذلك قال : لأنها لغة المستقبل (3) .
إن اللغات الأجنبية في بلاد العرب أضحت نوراً يُهتدى به ، ومن لا يحسن الرطانة بها فهو متخلف وأحمق ، في حين لغتنا العربية لا ضير إن لم تحسن الحديث بها والتعبير بها داخل المؤتمرات والمحافل ؛ فنحن أمة في كثير من الأحيان نتغافل عن حقائق باهرة في لغتنا ولا نؤمن بها إطلاقاً إلا عندما نسمعها من غيرنا ، فعند ذاك نخرج من قمقمنا كأنَّ يداً حكَّت هذا القمقم وجعلتنا نسبح في الهواء ننفذ ما يمليه علينا الآخر !  فهيهات هيهات للغة العربية أن ترى النور ويعلو شأنها في المحافل والمؤتمرات وأهلها نائمون في وديانهم سكارى ، هيهات هيهات لها أن تتنفس خارج ديارها وهي مجثوم عليها في عقر دارها ! 
لغتنا العربية الشريفة تئنُّ في هذا العصر وترثي حالها وتستغيث علَّ جيلًا قادماً سوف يظهرُ ، وينطلق من جديد أدباؤه وعلماؤه وفنَّانوه ومبدعوه وسياسيوه واقتصاديوه وغيرهم ينهلون من بحر لغتهم ويحذون حذو من كان قبلهم رافعين رايتها عالياً ، ويجوبون بها آفاق الدنيا شرقاً وغرباً ، ويضربون أروع الأمثال في جمالها وحِكمها ومنطقها وفلسفتها وعلمها وأدبها ، فينالون بذلك شرف الانتماء لها .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ـ في النهوض باللغة العربية ، صالح بلعيد ، دار هومة ، الجزائر ، 2008 ، ص 103 .
(2) ـ علم اللغة التطبيقي وتعليم العربية ، عبده الراجحي ، دار المعرفة الجامعية ، الإسكندرية (مصر) ، 1995 ، ص 88 ـ 89 .
(3) ـ اللغة العربية وفلاسفة الغرب ، شدري معمر علي ، جريدة القدس العربي ، سبتمبر 2015 م .