إنها لغة خالدة ومحفوظة .. ودعوات هدمها باطلة ومرفوضة

أ. خالد خليل الصيحي

 

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة يوسف: (الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ. إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) .. أي لعلكم تفهمون وتفقهون وتتدبرون معانيه.
ويقول الحق تبارك وتعالى في سورة الدخان: (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) .. أي فإنما سهلنا القرآن وبيناه بلسانك العربي لعل قومك يتفهمون ويعلمون ويتعظون.
ومعلوم أن لغتنا العربية هي أفصح اللغات وأبينها على الإطلاق، وأوسعها وأجلاها، وأحلاها وأعلاها، وأكثرها تأدية لمعاني العلوم، وأدقها تعبيراً عما يجول داخل الصدور أو في أعماق النفوس .. وما نزل القرآن كمعجزة إلا بأطيب لغة.
فلغة الضاد هي عروس اللغات في شتى الأنحاء، إننا نستمتع بها في القرن الواحد والعشرين حينما نقرأ أو نستمع إلى القرآن الكريم، أو إلى الحديث الشريف، أو حين نستمع إلى الخطب المنبرية، أو إلى النشرات والقناوات الإخبارية، أو حين نقرأ كتاباً أدبياً أو آخر علمياً، أو صحيفة يومية أو مجلة دورية.
إنها لغة القرآن الكريم، ولغة الحديث الشريف، ولغة الثقافة والمثقفين، ولغة العلم والعلماء، ولغة الأدب والأدباء، ولغة الصحافة والإعلام .. فهي لغة التعبير بفن بديع، وتعد مناسبة للألفية الثالثة مثلما كانت مناسبة للألفيتين الأولى والثانية .. وهي خيط مسبحة بلادنا وعمود خيمة حضارتنا.
يكاد الجدل أن يمزق حالياً المملكة المغربية بسبب قضية إدراج ألفاظ دارجة عامية بمناهج التعليم في المرحلة الابتدائية .. جدل بين مؤيدين يرون أن لا بأس من اعتماد العامية في المراحل التعليمية!، ومعارضين يرون أن هذه الخطوة التي خطتها وزارة التربية الوطنية هي بمثابة تهميش للغة العربية.
وقد أعرب نور الدين عيوش عضو المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي بالمغرب وعضو اللجنة الدائمة للمناهج والبرامج والتكوينات والوسائط التعليمية بالمجلس عن سعادته لقرار وزارة التربية الوطنية بتوظيف بعض الكلمات الدارجة في المقررات الدراسية للمرحلة الابتدائية!، وقال أنه يطمح لأكثر من هذا، وهو أن تصبح اللغة الدارجة لغة المستقبل! .. وذكر أنه بصدد التفكير في إقامة مؤتمر يجمع بين مختصين من المغرب وتونس والجزائر لمناقشة “كيفية إخراج قواعد نحوية وقاموس للغة العامية”!
(كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ) البقرة 118 .. فهذا الجدل الدائر في المملكة المغربية بشأن تهميش لغتنا (العربية) سبق أن حدث في أكثر من دولة (عربية)، ومنها جمهورية مصر (العربية)!
فمنذ أكثر من قرن حتى اليوم يحدث في بلادنا من وقت لوقت أن يتهم بعضنا ممن يتكلمون بلساننا لغتَنا ولغة آبائنا وأجدادنا بأنها جامدة متحجرة، وكلماتها رنانة فارغة من أي محتوي، وقواعدها معقدة وعالية المستوى!، ويقولون: لا معنى لجناسها وطباقها، ولا جمال في صورها البلاغية وألوانها البديعية!، ويطالبون بتدمير بعض قواعدها النحوية على سبيل التطوير بحجة أنها لغة اصطلاحية أي من صنع الإنسان وليست لغة توقيفية أي هابطة من السماء!،  ويقولون: إن المثنى في لغتنا الفصحى ديناصور انقرض منذ دهر ولم يعد له وجود في كل لغات الأرض!، ويقولون: يجب إلغاء نون النسوة وتاء التأنيث على اعتبار أنهما ليستا لهما في اللغات الأخرى مثيل!، ولا يسلم من قولهم الظالم جمع المذكر السالم .. الذي يقولون عنه: يجب الاكتفاء بصورة نصبه - التي هي نفسها صورة جره - وإلغاء صورة رفعه!، ويقولون: يجب أن نوحد الأرقام فنقول: تسع رجال وتسع نساء!، ويطالبون بإلغاء التشكيل وإلغاء الإعراب!، ويتبنون دعوة طه حسين بأن ما ينطق يجب أن يكتب، ومن ثم فإن اسم طه حسين الأول ينبغي حسب اقتراحه أن يكتب:  طاها!
بل ولم يقتصر الأمر على تلك الدعوات الهدامة وإنما امتد إلى مطالبة البعض بغرابة بأن تكتب العامية بالحروف اللاتينية بدلاً من الحروف العربية! .. مع أن الخط العربي أشاد بجماله ويحسدنا على امتلاكه رواد الفن التشكيلي الغربي!
ومن العجيب أن يدافع بعضنا عن دعاة التطوير المعيب قائلين: المقصود من الدعوة هو التقريب بين الفصحى العربية ولغاتنا العامية، ويجب أن نتأمل في تلك الدعوة ونتدبر بدلاً من أن نرهب من اجتهد وفكر وتحدث بالمنطق في أمر يعتقد البعضُ أن الحديث فيه محرم، مع أن القرآن الكريم والحديث الشريف ليس فيهما نص هذا التحريم!. ويستطردون قائلين: الخطأ المشهور يكون أحياناً خيراً من الصحيح المهجور، كما أن لخير المرسلين حديث يقول: (مَن اجتهد ولم يصب فله أجر واحد ومَن اجتهد وأصاب فله أجران)! 
أقول لهؤلاء في كل بلادنا العربية: ليس تطويراً للغتنا العربية أن نطعمها بكلماتنا الدارجة أو العامية، وأن نجردها من كل أو من بعض قواعدها النحوية.
إن لغاتنا العامية في أقطارنا العربية هي صورة حقيقية وواقعية متردية لهذا التدمير المقصود أو التطوير المزعوم، فحين تخلينا تدريجياً عن قواعد  لغتنا العربية ومفرداتها الغنية وأصولها البلاغية .. هوينا بمستوى لغتنا الفصحى السامية إلى مستوى لغاتنا العامية، ولولا أن القرآن الكريم المنَزَّل من رب العالمين حفظ لغتنا العربية على مَرِّ القرون الماضية من ذوبانها في لغاتنا العامية لتعذر اليوم على أبناء وطننا المطلين على المحيط فهم ما يقوله إخوانُهم المطلون على الخليج، ولكان هذا الأمر في بلادنا بمثابة تكريس لعوامل الانفصال والعزلة والتفتيت.
ونحن ما عزفنا عن لغتنا الفصحى وأقبلنا على لغات عاميتنا إلا حينما تمزقنا وتشرزمنا في عصور ضعفنا وانحطاطنا التي تداعت فيها علينا الأمم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وأكلت خيراتنا وفرقتنا.
لن تموت لغتنا العربية بمرور الدهر كما يدعي البعض طالما يزين رأسها تاج جميل ليس له مثيل اسمه القرآن الكريم، يحفظها من الهرم على مَرِّ الزمن، ويغنيها بالتأكيد عن أي عملية تجميل أو تحديث أو تطوير.
إذا تخلينا عن رفع جمع المذكر السالم أياً كان موضعه من الإعراب، واكتفينا بشكله في حالتي النصب والجر كما يطالب البعض، فكيف يفهم – بضم الياء -  قول الله سبحانه وتعالى في سورة الأحزاب: (وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًاً).
ستُقرأ الآية باللغة المطورة كالتالي: ولما رأى (المؤمنين) الأحزاب قالوا ............إلخ، وسيُفهم طبقاً لأصول اللغة العربية الفصحى التي نزل بها القرآن أن الفاعل هو(الأحزاب) والمفعول به هو (المؤمنين) مقدم على الفاعل، وبالتالي ينسب قول المؤمنين في الآية الكريمة إلى الأحزاب الذين هم كفار!
وإن تخلصنا من صيغة المثنى في لغتنا الفصحى، فكيف يُفهم – بضم الياء - قول الحق تبارك وتعالى في سورة النساء: (يُوصِيكُمُ اللّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ).
ولو ألغينا نون النسوة وتاء التأنيث كما يطالب دعاة التطوير، فكيف يفهم – بضم الياء -  قول الملك القدوس في سورة النور: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ).
وإن ألغينا التشكيل والإعراب فكيف ستفهم – بضم التاء - آيات القرآن، ومنها الآية التالية في سورة البقرة على سبيل المثال: (وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا).
إنهم يبيحون أن تُفهم الآية على أن إبراهيم  هو (الفاعل) – والعياذ بالله -  الذي ابتلى ربه (المفعول به) طبقاً لما أبيح .. في حين أن العكس هو الصحيح الذي يجب أن يُفهم من الآية.
إن مثل دعوة هؤلاء كمثل الدعوة لإلغاء الميزان في أسواق الذهب والماس!، وسأضرب مثلاً لخطأ لغوي مشهور وقع فيه مصحح اللغة بإحدى الصحف العربية يمكن أن يؤثر – أي الخطأ - بسبب شهرته على فهمنا لآية قرآنية:
(لماذا لا نستبدل الحوار بالرصاص والمتفجرات؟) .. كان هذا نص سؤال ضمن مقال كتبته منذ سنوات لإحدى الصحف العربية أندد فيه بالعمليات الإرهابية، وحين نُشِر المقالُ فوجئت بأن مصحح اللغة العربية بالجريدة عدل كالتالي السؤال:
(لماذا لا نستبدل الرصاص والمتفجرات بالحوار؟)! .. ومعلوم أن الباء تدخل في هذه الجملة على المتروك، أي أن المصحح جعلني أتساءل: (لماذا لا نجعل الرصاص والمتفجرات يحلان محل الحوار؟!).
إن الخطأ الذي وقع فيه مصحح اللغة العربية بالجريدة شائع شيوعاً يجعل من الصعب تداركه أحياناً، ويجعلنا نفهم سؤال سيدنا موسى في الآية القرآنية التالية في سورة البقرة  بعكس معناه طبقاً لأصول لغتنا العربية الفصحى:
  (وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَن نَّصْبِرَ عَلَىَ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ) .. أي قال: أتتركون المن والسلوى الذين هما خير الطعام لتأكلوا الذي هو أدني، أي البقل والقثاء والفوم والعدس والبصل؟!
إن تطوير اللغة العربية الفصحى على هذا النحو سيجعل دارسيها الجدد لا يفهمون القرآن، وكأنه نزل بلغة غير لغتهم وبلسان غير لسانهم، والله سبحانه وتعالى يقول في سورة فصلت: (وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَّقَالُوا لَولا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ) .. أي لولا بينت آياته بلغتنا، أو هلا أُنزِل مفصلاً بلغة العرب.
يجب أن ندرك ونقدر عِظَم وكِبَر نعمة نزول القرآن بلساننا نحن العرب لا بلسان أهل العجم، وندافع عن المساس بلغتنا التي هي مفتاح فهمنا لكلام ربنا وسنة نبينا.