التصوف في الأدب

د. محمد سعيد حسب النبي

 

يعد التصوف من أشق الأمورفي تعريفه كما يرى إبراهيم المازني في كتابه حصاد الهشيم، إذ كانت الكلمة  دالة على حالة من حالات الفكر، أو الإحساس، تبدو مقرونة بمحاولة العقل الإنساني أن يتغلغل إلى حقائق الأشياء، وأن يستجلي صفاتها الربانية، أو الاستمتاع بنعمة الوصول إلى الذات العلية والاتصال بها والتسرب فيها، ومن هنا ظهر التصوف في الفلسفة والأدب، وفى الدين كذلك.

وهذه النزعة عريقة في العقل الإنساني، وليست بالشاذة ولا النادرة.  ولكن الناس ليسوا سواء في قوة الذهن وقدرته على توضيح ما يعرض له وجلائه، ولا في صلابة الإرادة التي تعين على مواصلة الالتفات. والمرء –كما يرى المازني- إذا لم يرزق القوة والإرادة استراح إلى الأحلام، واستسهل أن يطلق لخياله العنان، إذ كان هذا أقل كلفة وأيسر مئونة، فإذا عدم الإرادة التي تؤتيه القدرة على الالتفات استهدف للأخطاء، وغاص فى لجج من الخرافات، واعتل رأيه في الصلات الكائنة بين الظواهر المجتلاة، وفسد حكمه على الوجود وصفات الأشياء وعلاقتها، ولم يستطع وعيه أن يأخذ إلا صورة مشوهة غامضة للعالم الخارجي، وضعف تمييزه، واختلط الحابل بالنابل في خواطر ذهنه وماج بالمختلف والمؤتلف منها، وبالواضح والمستبهم، وعالت الخواطر بحكم اتصالها بلا كابح، وراحت تظهر أو تختفى من تلقاء نفسها ومن غير أن يكون للإرادة عمل ما فى تقويتها أو نفيها، واستدعى احتفاظُ الوعي بجمهرتها أن تتكون من خليطها فكرة مضطربة غير صادقة فى تصوير العلاقات بين الظواهر. 
وساق المازني في كتابه المثل الذي ضربه "ماكس نورداو" الكاتب والناقد الاجتماعي فى هذا الصدد؛ فقال: 
"كل من حاول فى ليلة مظلمة أن يستجلي ظاهرة بعيدة يستطيع أن يحضر لنفسه الصورة التي يرسمها عالم الفكر لذهن الرجل الضعيف. انظر ثَمّ كتلة مظلمة! أي شيء هي؟ شجرة؟ كوم من الدريس؟ لص؟ حيوان مفترس؟ أينبغى أن أفر؟ أم يجب أن أحمل عليه؟ ويعود العجز عن استبانة الشيء الذي يحرزه ولا يراه مدعاة لإشاعة الخوف والقلق في نفسه. وهذه هي الحالة التي يكون عليها عقل الرجل الضعيف تلقاء ما يأخذه وعيه، فيروح يعتقد أنه يرى مائة شيء في وقت معاً، ويصل ما بين الصور التي يخيل له أنه يتبينها وبين الخاطر الذي كان مثارها، على أنه يحس مع ذلك أن هذه العلاقة لا مفهومة ولا معللة، ولكنه مع هذا يؤلف من أشتات ما في ذهنه فكرة تناقض كل تجربة ولكنه مضطر إلى أن ينزلها من الصواب منزلة غيرها من آرائه وخواطره إذ كانت كلها قد نشأت على هذا النحو. وهذه الحالة الذهنية التي يحاول المرء معها أن يرى، ويحسب أنه يرى وهو لا يرى، ويضطر إلى أن يؤلف فكرة من خواطر تضلله وتسخر من وعيه، وتخيل له أنه يدرك علاقات مستترة بين الظواهر الواضحة والظلال الغامضة الملتاثة. هذه هي الحالة العقلية التي تسمى التصوف". 

فهي –كما يرى المازني- حالة مرجعها إلى ضعف الإرادة ضعفاً تمتنع معه القدرة على الالتفات، أي مواصلة الملاحظة والتمييز، ولكن هناك نوعاً آخر من التصوف لم يفت" نورداو" أن يلتفت إليه، وقد عزاه بحق إلى الاضطراب في حساسية الذهن والجهاز العصبي، وهو اضطراب يُنتج التصوف العملي ويفضي إلى الهذيان والغيبوبة حين يبلغ من عنف حركة الجزء المهتاج من الذهن أن يتعطل عمل سائره.. ويعود المرء وهو لا يحس ما حوله لاستغراق خاطر واحد أو طائفة من الخواطر للوعي كله وتمتزج الغبطة والألم.
ويرى المازني أنه لا شأن له بهذا الضرب من التصوف. 

كما يرى المازني أننا لا نخطئ كثيراً إذا قلنا إن التصوف في بلاد الشرق متفرع من فلسفاتها السائدة، وإنه عبارة عن الإحساس الديني حيثما ظهر، ولكنه في الهند غيره في فارس مثلاً، وذلك أن البرهمية التي تقول بتأليه الكون ووحدته، والبوذية التي تذهب إلى العدمية كلاهما ينكر حقيقة العالم الظاهر وتدعو إلى التسرب في الغاية العليا، وكلاهما يعصف بالإحساس بقيمة الشخصية الإنسانية. ولقد عرض المازني تعليل الأستاذ "أندرو برنجل باتيسون" شيوع التصوف في الهند بطبيعة الإقليم وما يغري به المناخ من التسليم والفتور، وبأن فرط الخصب في حياتي النبات والحيوان هناك يبلد الإحساس بقيمة الحياة.

أما الصوفية الفارسية فأقل حدة، وهي ألطف وأرق، والصيغة الأدبية فيها أعم. والمطلع على تاريخ الأدب الفارسي يجده بعد القرن التاسع مشبعاً بروح (البانثيزم) وحدة الكون وتأليهه،  ولكن الإدراك الصوفي لوحدة الأشياء وألوهيتها يزيد ويضاعف التذاذ الجمال الطبيعي والإنساني ولا يفتره أو يصرف عنه، وهذا ملحوظ في شعر حافظ والسعدي وغيرهما ممن كثر في شعرهم التغني بالخمر والغزل تغنياً خرَّجه المفسرون تخريجاً اَخر، وأولوه بغير المستفاد من لفظه، فزعموا ما فيه من ذكر لذاذات الحب رمزاً لغبطة الاتصال بالذات العلية، وادعوا –كما أشار المازني- أن الخمارة اسم مستعار للمعبد، وأن نشوة الخمر هي ذهول الحس، ولا شك في أن لهؤلاء الشعراء قصائد بعث عليها الإحساس الديني في أول الأمر، وهذه تغلب عليها (البانثيزم)، وتحس فيها حرارة الرغبة في خلاص الروح واتصاله بالله.  ولعل هذه الحالة التي تعتريهم أحيانًا وتغريهم بعد الطبيعة والجمال ومتع الأرض عبثاً وباطلاً رد فعل للإغراق في التماس اللذاذات وإفراط في إرضاء الجسم، أو لعلها الجانب الاخر للصورة.

وذكر المازني في كتابه عمر الخيام، وهو من شعراء الفرس الذين ذاع صيتهم وسار ذكرهم في الشرق والغرب، حيث  حاول بعض النقاد أن يزج به فى زمرة المتصوفة من شعراء الفرس وأن ينفي عنه ما يدل عليه ظاهر ألفاظه، وأن يخرِّج كلامه على نحو ما أسلفه المازني، وأن يدفع عنه تهمة الأبيقورية، ولكن الواقع، كما قال مترجمه إلى الإنجليزية "فتزجرالد"، أن عُمر لم يكن أبغض إلى أحد منه إلى متصوفة عصره الذين كان يسخر منهم، وأنه لما عجز أن يهتدي إلى شيء سوى القدر أو دنيا غير هذه بالغاً ما بلغ خطؤه في ذلك بالدعابة والتهكم  قنع بحظه المقسوم له، واَثر أن يرفه عن نفسه من  طريق الحواس على أن يرهق نفسه باستجلاء الغوامض.

 ويشير المازني إلى أن عمر الخيام كانت له موهبة تنأى به عن التصوف، ذلك أنه كان رياضياً بارعاً. ومما يذكر له في هذا الباب تنقيحه التقويم السنوي تنقيحاً أظهر فيه من الحذق والأستاذية ما أطلق لسان "جيبون" المؤرخ الإنجليزي بالثناء عليه، وله كذلك طائفة من الجداول الفلكية ومؤلف في علم الجبر بالعربية.

والذهن الرياضي مجاله وعمله ضبط الحدود والحصر، وتعليق النتائج بأسبابها، والمعلول بعلته، وهو عمل يتطلب من الدقة والعناية والترتيب والتبويب ما لا يطيقه أو يقوى عليه ذهن المتصوف، ويرى المازني أنه من العجيب أن "فتزجرالد" لم يفطن إلى دلالة هذا ولا خطر له أن يسوق هذه الحجة فيما ساقه لتبرئة الخيام من التصوف.