للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

اللغة العربية ومسألة الحداثة

د. نورالدين ثنيو

 

تُطْرَح اليوم اللغة العربية كمسألة أساسية، وتمثل إشكالية انتقال العرب والمسلمين إلى مصاف الأمم المتقدمة، أي العرب وصلتهم بالحداثة في كل تجلياتها وأبعادها بحيث يَتَمَثَّلُون العصر وينخرطون فيه بالكشف والعطاء والإبداع. 

فاللغة العربية ليست وسيلة تعبير فقط عن مستوى عامي، شعبي ومحلي بقدر ما صارت ترنو إلى التعبير عن ما هو أكاديمي وعالمي، والقدرة على إدارة وتسيير المؤسسات الحكومية والمجتمعات المدنية الوطنية منها والدولية. ناهيك عن أن اللغة العربية أضحت موضوعا للبحث والدراسة والمعالجة والتحليل، بالقدر الذي أصبحت فيه مسألة كاملة للعبور إلى الحداثة، ليس كلغة تخص العرب، بل أيضا لغة عربية للعالمين أيضا، بسبب سياق العولمة الذي كثف العلاقات البينية بين الشعوب والأمم، وتداعيات ذلك على صعيد النزوح والهجرات البشرية المتلاحقة، التي لا تعرف التوقف، وغيَّرت الكثير من المعطيات الديموغرافية والثقافية. 
ولعلّ حالة أو مثال بلدان الخليج توضح المقام الذي نقصده، فظاهرة التنوع الديموغرافي في بلدان الخليج العربي، الذي غيّرت من ملامح مجتمعاتها، وهي مرشحة إلى مزيد من التحوّل الثقافي. ففي بعض من بلدان الخليج العربية عدد الوافدين/ المقيمين يفوق السكان الأصليين أنفسهم، وفي هذه الحالة تصبح مسألة تعلم وامتلاك اللغة العربية أكثر من مصيرية، ليس ضدا على لغات المقيمين، بل في صلتها بهم كأفضل إمكان لإثراء اللغات واستخدمها في مستوياتها المختلفة. فقد شهد العصر الحديث حالات من الهجرات الكبرى، على ما حدث في الولايات المتحدة الأمريكية نهاية القرن التاسع عشر وما بعده، ثم ما رافقه من ازدهار وتقدم على كافة الأصعدة، وفي مختلف المجالات، خاصة إثراء اللغة الإنكليزية التي أضحت بقوة التقدم والتطور لغة أمريكية. 
ونعتقد أنه بإمكان اللغة العربية أن تستفيد من وجود المقيمين، الذين قد يطول بهم المقام في بلدان الخليج العربي وينصهرون في البوتقة العربية في صورتها الحديثة عندما يتسع استخدامها والتعبير بها على كافة الأصعدة والمستويات، بل في مختلف المجالات والفضاءات. ومن هنا، المطلوب هو التعامل مع اللغة العربية برسم تعميمها على سائر الشعوب والأمم، لأن العالم صار قرية واحدة على رأي ماك لوهان.
العلاقات البينية والاعتماد المتبادل، أضحت في العصر الفائق ظاهرة لا يمكن الافتئات عليها ولا التغاضي عنها، لا من قبل العرب ولا من طرف غيرهم، لأن الجميع صار يرنو ويتطلع إلى احتلال الموقع العام في الحضارة الإنسانية الراهنة وفي المستقبل أيضا. ومن هنا، فاللغة العربية، لا تطرح فقط من حيث تَعْلِيمِها وتَعَلّمها، بل توظيفها في الأغراض الحديثة والجديدة، التي لم تعهدها حضارة العرب في عصرها الكلاسيكي، ولا في عصر الانحطاط، قبل مجيء الاستعمار الأوروبي. وهكذا، فالمسألة المطروحة على اللغة العربية ليست كلسان ووسيلة تعبير بل كقضية حضارية كبرى، جوهرها التقدم وامتلاك ناصية التاريخ الفاعل الذي يفصح عن المعنى والسلطة والحقيقة.
قامت حضارة العرب بداية من عصر التدوين، الذي شمل تقعيد وضبط قواعد وأسس اللغة العربية، من حيث البيان والبلاغة، النحو والصرف وأساليب الكتابة والترجمة عن الحضارات الأخرى، فضلا عن كيفية التعبير واستخدامها في علوم جديدة قيد التشكل والتأسيس. وقد كان الغرض الأساس الذي استقطب العملية الحضارية برُمَّتها هو تَدَبُّر معاني القرآن الكريم، عندما صار مدوَّنا بين دفتي كتاب ينطوي على آيات محكمات وأخرى متشابهات. وانفتحت العملية على مقابلة آيات الله في القرآن الكريم بآيات الله في الكون العظيم. وهكذا، فقد كانت القضية التي سخرت لها إشكالية البحث اللغوي، هي صيانة القرآن الكريم والحفاظ عليه بالإفصاح عن كافة مستوياته الدلالية واللفظية لاستخلاص واستنباط الأحكام الفقهية والتأويلات الكلامية والمعرفية. فاللغة العربية لم تطلب لذاتها، ولكن لمهام علمية وأغراض وإنجازات حضارية، فكانت وسيلة وموضوعا في الوقت ذاته، ومن رحم هذا التفاعل شيّدت الحضارة العربية.
وتواصلا مع هذا السَّمْت والمنهج في التعامل مع اللغة العربية، فإن المطلوب اليوم، وهذا ما تم في جزء منه، إعادة طرح مسألة اللغة العربية ليس كوسيلة تخاطب في عصر انتشار وسائل الإعلام، بل كموضوع يوقفنا على قدرات ومكامن اللغة لاستخلاص الإبريز منها، ليس كتراث تاريخي، بل كفقه، فلسفة، وقوة إدراك للعالم الحديث والمعاصر، وما تتطلع إليه الإنسانية في المستقبل. وهكذا، فالتحدي، وهو ليس مستحيلا، الذي يواجهه العرب هو إعادة صياغة إشكالية اللغة العربية، ليس في ضوء الحفاظ على القرآن الكريم فحسب، كما حدث في عصر التدوين الأول، بل برسم امتلاك العلم الجامع الذي نتقاسمه مع الإنسانية جمعاء التي تتفاعل وتتجاوب مع آيات الله في خلقه وشؤونه. فقد كان عصر التدوين، كما يوضح ذلك المفكر العربي محمد عابد الجابري: تمثل في «عصر البناء العام الشامل للثقافة العربية والفكر العربي. لقد كان العرب، والمسلمون عامة يمارسون الحياة، قبل «عصر التدوين» ممارسة اجتهادية، في كافة حقولها ومجالاتها، اللغوية والفكرية والدينية والسياسية والاجتماعية… إذ لم يكن العقل العربي آنذاك مقيدا «بأصول» مقررة ولا مؤطرا ضمن مذاهب معينة. ويأتي عصر «التدوين» ليشهد عملية فريدة من نوعها في التاريخ، عملية وضع «الأصول» لكل مجال من مجالات الحياة الثقافية منها والسياسية والاجتماعية والاقتصادية. فمن وضع «أصول» للتفكير الفقهي وإرساء قواعد الحكم والسياسة، إلى تنظيم الاقتصاد (الخراج)، إلى تقنين كثير من مظاهر الحياة الاجتماعية والثقافية. فعلا، كانت هذه «الأصول» جميعها نتيجة اجتهاد في النصوص الدينية واللغوية، نوعا من الاجتهاد، لكنه في جميع الأحوال كان اجتهادا خاضعا قليلا أو كثيرا مباشرة أو بصورة غير مباشرة، لمعطيات ذلك العصر، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية». 
أما اليوم فإشكالية اللغة العربية أي في سياق الزمن الفائق، ليست للعرب فقط، بل هي لكل الأمم والشعوب على اختلاف ثقافاتها ولغاتها أيضا. وإذا كنّا ندرك أن القرآن الكريم هو ذلك الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، فان الاهتمام نفسه بالحقيقة، يجب أن ينصرف إليه الأمر في شأن التعامل مع اللغة العربية في صلتها بالحقائق الكونية الكبرى: الله، الإنسان، الإنسانية، عبر تقليب وإتقان اللغة على أوجهها المتنوعة والمختلفة والمتحّولة أيضا، لأن كل ذلك يفيد الوضوح المُبِين لآيات الله، إن في الكتاب المنزَّل أو في الكتاب المنثور في دنيا الناس.
 

القدس العربي

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية