للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

لِكَانَ أخواتٌ لا يَخُنهَا

د. توفيق قريرة

 

يجلس في المقهى الشعبي رجلٌ غيرُ شعبي يثير الفضولَ يضع ساقا على ساق وحيدا مثلي لكنه مُحْرج من وحدته. أنْثُر أشيائي على طاولة خشبية حرقتها السجائر وأضع محفظتي على ركبتي أخشى عليها أنْ تسقط. جاء غيرُ الشعبي وسلم وقال: أتأذن لي؟ وضعت كتابين كانا على الكرسي ومعطفي على كرسي آخر ورحبت به. لم أستطع أن أقف له فمحفظتي كانت تمنعني.

اللسانُ البَاطني الذي لا يسكت كان يحدثني في أشياء كثيرة ولم ينتبه بعدُ إلى قدوم هذا الجليس الأنيس. كان لساني الباطني يتم كلاما طويلا يلومني فيه كعادته دائما على أنني لست كالآخرين، وأنه أفنى عمره معي، ولم يربح غير طول اللسان. لساني الباطن عكس لساني الظاهر مهذار. لساني الظاهر مسكين يخافه.. في بعض الأحيان يسلطه عليّ فيتكلم الظاهر بلسان الباطن فيُسمع الناسَ ما يكرهون.. يعتذر لساني الذي في فمي غالبا ويسكت.. هو أصلا يسمع من لساني الباطن ما لا يحبه: يقول له الباطن: ولدتُ لأكون شجاعا وأتكلم في عمق النفس الباطنة وولدتَ لتتكلم فتخرسَ.. يصمت لساني بعد أن يدور في فمي عشر مرات حتى يكل فيسكت.
جلس غير الشعبي وقال: أظنني أعرفك.. قلت: ربما نعم وربما لا؛ قال: ألم تعرفني قلت: أظنني لا أعرفك ولكن هي فرصة.. سكت لساني الباطن وانتبه إلى أن هناك ضيفا ثقيلا.. قال الضيف: أنا موظف سام في وزارة.. قال سام بمد الميم نَعم مدهاǃ كثيرون من موظفينا السامين يمدون الميم ويمطونها.. كنت سأصلح له وأقول: على قدر كسائك لا تمد حرفك؛ قلت له: تشرفنا.. هكذا بِنُونِ الجَمْع أنا المفردُ الفقير إلى رب الجماعة.. جمعتُ نفسي بضمير تبيحه اللغة لي.. صيرني الضمير بسرعة البرق جماعة.. قال صوتي الباطن ساخرا: رفعتك اللغة لتصبح في عليين.. نادى صاحب البدلة والعطر الفاخر والحذاء اللماع النادل وقال له: نريد أن نشرب شيئا آخر.. قلت للنادل: شكرا، أنا لم أتم قهوتي بعدُ فانصرف بَرِمًا برجل لا يقبل الرشفة مع الرشفة.

قال غير الشعبي وقد انتبهتُ لعطره وهو يقترب أكثر ليعرض عليّ سيجارته الرفيعة.. هل تدخن؟ كنتُ سأقول له: أنا نارٌ تستعر بلا دُخان.. لم ينتظر ردي، وقال: لحظة.. ثم عاد إلى طاولته وجلب علبة سجائره التي نسيها هناك ثم قدم لي سيجارة فاخرة.. قلت: آسف هذا لا يشبع جوعي إلى الأنفاس العميقة.. نفثت بعيدا دخانا عصاني ورده الريح على وجهه.. قلت آسف.. قال لي: لا مشكلة.. قلت: هل أخدمك في شيء؟ قال ربما.. قلت وأنا اشعر بأنني صرت مفيدا: على الرحب والسعة.. قال لي ألم ندرس معا؟ أَوَلسْت فلانا؟ قلت: أنا بلحمه..
يمر بنا كثيرون يسلمون عليه ومنهم من يتوقف ويصافحه وأنا لا أفقه شيئا مما يحدث غير أني اشتقت لراحتي القديمة قبل جلوسه معي.. قال لساني الباطني: لو كنتَ تتحدث كما أريدُ لذهب بعيدا عنك ولكنك تتحامق وتتظاهر بالأدب.. تغافلت عنه فقال لي: أنا أحب أن أكون خطيبا لكن تخونني الكلمات.. قلت: تحدث على السليقة.. قال: أنا أرتبك فتهرب مني الكلمات. ضحك لساني الباطن ضحكا عميقا حتى انتابته موجة من السعال.. قلت له: وما حاجتك إلى خطابة لا تفيدك؟ قال: كيف لا يا صديق الدراسة؟ هذا جزء من العظمة والامتلاء… أضاف محدثي الذي كان يبرز ساعته الفاخرة ما استطاع ويدخن في استحياء فقال لي مازحا: أما زالت (كان) ترفع وتنصب؟ ابتسمت ولم أجب.. وفهمت ما مشكلته .. قال لساني الباطن للساني: أسمعت يا غبي؟ هذا رجل يشكو لسانه الظاهر لأنه يرفع له المنصوب وينصب له المرفوع.. خانه لسانه وثار عليه.. أما أنت فتتعب في نطق الجهير والمكرر وترفع كما يُراد لك أن ترفع وتنصب كما يراد لك أن تنصب، وحين تلحن ترجع كطفل بريء لتصلح وتعتذر.. بربك ألا تتحرر؟ خشيت على لساني أن يثيره عليّ صوتي الباطني نظرت إلى صديق المدرسة المِعطار وقلت له: هل تقلقك (كان) وأخواتها أم إن وأخواتها؟ قال يقلقني الإعرابُ.. قلت: إذن تقلقك اللغة لأنه لا لغة بلا إعراب.. صمت وقال: لنفترض أن كان هذه تقلقني ما حلي معها؟ حرت جوابا.. قال لي لساني الباطن: قل له أمهلني يومين.. قلت له: أمهلني يومين.. قال لساني الباطن: أحسنت.. انصرف الرجل.. وانصرفت.. في تلك الليلة جمع لي لساني الباطن (كان) وأخواتها.. جلس بينها لساني الباطن ودعا لساني الصغير إلى أن يسكت دخلت أنا وكنت ألبس ثياب سيبويه أو الزمخشري لا أتذكر حين دخلت أمرها لساني الباطن بالوقوف إجلالا لي فوقفت سألتْ (عسى) بصوت خفيف وهي تطأطئ رأسها من يكون هذا؟ لكزتها (كان) فصمتت.. أذنت لهن جميعا بالجلوس فاعتذرنَ قالت كان وقد شاب قرناها: نحن لا نجلس بحضرة من يستخدمنا الاستخدام الصحيح.. نحن عَبَدَة العربية وهي وكيلة أعمالنا.. قلت: سمعت عنك الكثير فلمَ سميت أخواتك بك.. قالت: لأنه لا بد من قيم على إخوته وأنا سموني من عهد بعيد قيمة على أخواتي هؤلاء..
 
كانت (عسى) أصغر الأخوات وأجملهن تغمز بعينيها لساني الباطن قال لي سلم على (عسى).. ناديتها: فأسرعت قلت لها: عساكِ بخيرǃرجعت تجر أذيالها وضحك أخواتها.. حتى كان وضعت يدها على فمها وابتسمت.. قلت لكان: ما خطب ذاك الخطيب لا يقدر عليكن: قالت لأنه لا يؤمن بنا. قلت وكيف يؤمن بكم؟ قالت: ألا يجعلنا أدواتٍ نرفع وننصب، بل يجعلنا روحا جميلة فلا يستهين بنا في السر ويطلب ودنا في العلن. عدت إليه بعد يومين.. كانت (كان) معي وهو لا يراها .. سلم وجلس فأرسلت عليه لساني الباطن وتركتهما وخرجت.
قالت (كان): هذا ما حدث.. أرأيتم يا من يمجدني في كل وقت؟ أنا لم أستعمل (كانَ). قلت له: ما تزال كان مع أخواتها في حزمة لم تختلف كان مع صار ولا بات مع أصبح أما ليس فما شاء الله تعمل بكل حزم.. أخوات طيبات يرفعن وينصبن.. قال وهو يضحك من ذقني الأشيب: جميل جميل.. قال لي: هل تعلم أن ابني أيضا يخطئ في كان وأخواته.. قلت ممازحا: هل يجر أسماءها أم ينصبها.. قال : لست أدري أعتقد أنه يجزمها أو شيء من هذا القبيل.. قلت وهل يخطئ في اللغات الأجنبية؟ قال لا: أعداده في اللغات جيدة لكن اسمح لي أخي أن العربية ثقيلة.. قلت لا عليك لا تهتم هي خفيفة هل تعرف أن كان فعل ناقص.. كان ثقيلا كبقية الأفعال فخف.. قال لي ما شاء الله كيف كيف؟ قلت بدلا من أن يكون فعلا دالا على الحدث والزمان دلّ على الزمان فقط.. قال لي : عجيب.. قال وهل أخواتها مثلها ألم يخنها؟
 

القدس العربي

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية