للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

تَعايُش الدّلالات في المُحيط اللّغويّ الواحِد

د. نوال بنت سيف البلوشية

إن تطوّر دلالة لفظ ما لا يعني موت الدّلالة القديمة، بل تتعايش الدّلالات في المحيط اللّغوي الواحد مع احتمال طغيان الدّلالة المتطوّرة على سابقتها، وينجم عن هذا ما يُسمى بالمولّد والمشترك اللّفظي، إذ أنّ تطوّر هذه الألفاظ لا يكون مصادفة وإنمّا مرتبطة بعوامل اجتماعيّةٍ وثقافيةٍ وسياسيةٍ واقتصاديةٍ تحتّم عليها ذلك التّطوّر.
والمحدوديّة في هذا المقام تتمثل في محدوديّة المعجم لا محدوديّة الفِكر،  أنّ علماء اللّغة العرب عالجوا مسائل المعنى غالبًا من ناحية نظريّة صِرفة. وتظهر هذه المعالجة عند جلال الدّين السّيوطيّ الّذي طرح مسألة اللّامتناهي في المعنى عندما أحاطه بشكل تقني كما هو موضّح في الشّكل رقم (1).
 
وقد تحقق السّيوطيّ من أنّ الكلمات هي ذات عدد محدود والمعاني هي ذات عدد لا محدود. ولما كانت اللّغة مظهر من مظاهر الحياة الإنسانيّة، أصبحت الدّلالة تتطوّر فيها، وتتولد حسب ضوابط وقوانين وأنظمة مرتبطة بها، أعني أنّ لها نظامها الخاصّ بها. ولا يمكن أنْ تبقى الدّلالة ثابتة في أيّة لغةٍ إلا إذا كانت تلك اللّغة ميّتة، كاللّغة الآشوريّة والأكاديّة والبابليّة، واللّغة باستعمالاتها الجماليّة حيّة تميل إلى الصّيرورة.
ترتبط مرحلة التّطوّر بالنّسبة لأيّ لغةٍ من اللّغات ارتباطًا مباشرًا بالعقليّة والثّقافة والنّظرة المستقبلية العامّة للمجتمع الّذي يتحدث بها. والتّطوّر اللّغويّ في أغلب أحواله ضرورة  ملحة، وحقيقة لا يمكن إنكارها؛ في عصرٍ يشهد بالتّغيرات والتّطورّات المستمرة في وسائل الحياة وتصاريفها، ولم تكن اللّغة بمعزل عن هذه التّطوّرات باعتبارها أداة التّعبير عن حاجات المجتمع، والّذي يؤكد الجانب النّفعيّ لاستخدام اللّغة سواء أكان في الجانب الاجتماعيّ أم في الجانب الوظيفيّ للغة؛ تعريف كل من  ابن جنيّ للّغة بأنّها: " أصوات يعبّر بها كلّ قومٍ عن أغراضهم".  
وتعريف ابن خلدون للّغة في قوله : "اعلم أنَّ اللغةَ في المتعارف هي عبارة المتكلّم عن مقصوده، وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام، فلا بُدَّ أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها، وهو اللّسان، وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم ... ".
    وتتجلى مظاهر التّطوّر الدّلاليّ حسب ما ذهب إليه علماء اللّغة المحدثين والقدامى في ثلاثةِ مظاهر:
1.    تعميم الدّلالة أو توسيعها.
2.    تخصيص الدّلالة.
3.    تغير مجال استخدام الكلمة أو ما يسمى بانتقال الكلمة.
المظهر الأوّل: تعميم الدّلالة أو توسيعها يعني توسع معنى الكلمة بإطلاق اسم الشّيء الواحد على أشياء ٍكثيرة تشبهه أو تماثله. مثل كلمة (البأس) في أصل معناها كانت خاصّة بالحرب, ثم أصبحت تطلق على كل شِدّة.
المظهر الثّاني: تخصيص الدّلالة, يقصد بها تضيق المعنى وقصر العام على ما هو خاصّ, ومثال التّطوّر الدّلاليّ في هذا المظهر واضح في كلمة  (الحريم) كانت تعني الّذي حرم مسّة فلا يُدنى منه,  أصبحت تعني النّساء خاصة. وقد فسّر علماء اللّغة الحديث سبب تخصيص الدّلالة لإضافة الملاّمح التّميزيّة للّفظ, وقد تنبّه علماء العرب القدامى لظاهرة التّخصيص وبيان علتها, يقول ابن فارس في هذه القضيّة مشيرًا إلى التّطوّر الاجتماعيّ والثّقافيّ الّذي يؤدي إلى التّطوّر اللّغويّ : "كانت العرب في جاهليتها على إرث من إرث آبائهم في لغتهم وآدابهم ونسائكهم وقرابينهم ... فلما جاء الله بالإسلام حالت أحوالٍ، ونسخت دياناتٍ، وأبطلت أمورٍ، ونقلت من اللّغة ألفاظ عن مواضع إلى مواضعٍ أُخرى بزيادات زيدت، بشرائع شُرعت، وأشراطٍ شُرطت... ومما جاء في الشرع   (الصلاة) وأصله في لغتهم الدعاء... وكذلك كلمة الزكاة لم تكن العرب تعرفها إلا من ناحية النماء، وزاد الشرع ما زاده فيها..."
    وقد تحدث الإمام جلال الدّين السّيوطيّ عن هذا المظهر من التّطوّر الدّلالي -تخصيص الدّلالة للّفظ - في باب معرفة العامّ والخاصّ بكتابه المزهر بذكر اللّفظ العامّ للفظ ثم خصّ في الاستخدام ببعض أفراده.
المظهر الثّالث: تغيّر مجال استخدام الكلمة أو ما يسمى بانتقال الكلمة، ويعتمد هذا المظهر في التّطوّر الدّلاليّ على تغير مجال الاستخدام " فالمعنى الجديد في هذا المظهر ليس أخصّ من المعنى القديم ولا أعمّ، وإنّما هو مساوٍ له، ولذلك يتخذ المجاز سبيلًا له، لما يملكه المجاز من قوة التّصرّف في المعنى عبر مجموعة متعدد من العلاقات والأشكال. ولهذا النوّع أشكال تتمثل بالانتقال من المحسوس إلى المجرد، والانتقال عن طريق الاستعارة، والانتقال عن طريق المجاز".
والشّكل الأوّل: الانتقال من المحسوس إلى المجرد كلمة الذّقن انتقل معناها المحسوس – المنطقة الموجودة أسفل الفم-  إلى المجرد (اللّحية.)
الشّكل الثّاني: الانتقال عن طريق الاستعارة يكون بنقل المعنى من مجال لآخر عن طريق المشابه بين المجالين اللّذين تنتقل بينهما ومثاله قولنا في معنى ذأب: تذأبت الرّيح الرّجل: أتتهُ من كل جانب - فعل الذّنب- وهذا القول مبني على الاستعارة فعل الذّنب الّذي يدور حول فريسته ويهجمها من كلّ جهة كالرياح الّتي تتصّف بالهبوب والإحاطة من كلّ ناحية.
الشّكل الثّالث: والانتقال عن طريق المجاز ويتمّ عن طريق انتقال اللّفظ من معنى إلى آخر بمجموعة من العلاقات بين المدلولين، إما بالمجاورة أو السببيّة أو الجزئيّة أو الكلّية:
ومثال إذا كانت العلاقة بين الدّلالتين المجاورة  إطلاق كلمة (مكتب) على الحجرة الّتي توضع فيها المنضدة،  وكانت تطلق هذه الكلمة سابقًا على منضدة الكتابة، أي المنضدة التي يُكتب عليها.
مثال إذا كانت العلاقة بين الدّلالتين الجزئيّة  كقول الله تعالى: " فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ " النساء92 أي عبد مؤمن. ففي "رقبة" مجاز مرسل علاقته الجزئيّة؛ حيث سُمي الكلّ  " العبد المؤمن "  باسم الجزء من العبد المؤمن " الرّقبة ".
مثال إذا كانت العلاقة بين الدّلالتين الكلية  كقول الله تعالى: " يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم " البقرة19 أي أناملهم. نجد المجاز المرسل يؤدي إلى تعميم الدّلالة وتوسيعها، حيث سُمي الجزء " الأنامل " باسم الكلّ " الأصابع ".
نستنتج مما سبق أنّ مظاهر التّطوّر الدّلاليّ تتمثل في:
1.    تعميم الدلالة أو توسيعها.
2.    تخصيص الدلالة.
3.    تغير مجال استعمال الكلمة أو ما يسمى بانتقال الكلمة.
وأنّ في المجاز المرسل من الاستعارة خاصة ذات العلاقة الكلّية والجزئيّة نماذج أساسيّة في التّغيير وتحقيق التّطوّر الدّلالي، ونقلها من مجال لآخر.
وحتى ترتسم صورة التّطوّر الدّلالي في ذهنكَ أيّها القارئ بصورة واضحة أجعل بيّن يديكَ مثال في تطوّر معنى كلمة البيت في الشّعر العربيّ ونثرة: البيت: من الشّعر ما زاد على طريقة واحدة يقع على الصغير والكبير.
وبيت الرّجل داره وبيته قصره قال الشّنفريّ:
مُصَعْلِكَةٌ لا يَقْصُرُ السِّتْرُ دُوْنَهَا       ولا تُرتَجَى للبَيْتِ إِنْ لَمْ تُبيِّتِ
والبيت: القبر على التشبيه قال لبيد:
وصاحبُ محلوبٍ فَجِعْنَا بيومهِ        وعندَ الرِّدَاعِ بيتُ آخرَ كَوْثَر
واحتفظت الكلمة في الإسلام بمعانيها الحقيقية والمجازية.
البيت: السّفينة (سفينة نوح) لأنها ملجأ الجميع وملاذهم من الطوفان. قال تعالى: " رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنا" نوح28
وبيت العرب: شرفها. قال العباس يمدح سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم).
حتى احتَوَى بَيْتُكَ المُهَيْمِنُ من      خِنْدِفَ عَلْيَاءَ تَحْتَهَا النُّطُقُ
البيت: آل الرّسول (صلى الله عليه وسلم) قال تعالى: " إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا"
في العصر العباسي استخدم أبو تمام:
البيت: الشّرف (مطلقًا) في قوله:
البيتُ حيث النجمُ والكف حيـ         ثُ الغيثُ في الأزْمَةِ والدارُ خِيْس
ولا يقتصر التّطوّر الدّلالي للكلمة على تعدد معاني الكلمة الواحدة فقط، وإنّما اللّفظ أحيانًا يكتسب معناه كما لاحظنا فيما سبق من السّياق ففي اللّغة العربيّة مثلًا: " بيت العلم" كانت تسمية يُقصد بها مكتبة طرابلس الكبيرة في لبنان في القرن الثاني عشر، بينما يُقصد بالتعبير "بيت فلان" في اللغة العربية المحكية في الشرق الأوسط " اسم عائلة فلان".
وقدّ تتمثل نتائج التّطوّر الصّوتي والدّلالي في الدّراسات اللّغوية سواء أكانت في الدّراسات الحديثة أم القديمة إلى وجود:
1]التّرادف: هو إطلاق أسماء مختلفة على شيءٍ واحد، مثل إطلاق اسم المهند، والحسام على السيف.
2] المشترك اللّفظيّ: هو أن يدل المعنى الواحد على أكثر من معنى. مثل كلمة " عين"  تحمل أكثر من معنى، يتبين في قولنا: عين القوم سيدهم، والعين الجاسوس، وعين الماء النبع، وعين الشيء ذاته.
3] التّضاد أو ظاهرة الأضداد: وهو ظاهرة متصلة بالمشترك اللّفظي وتتفرع إلى إطلاق اللّفظ الواحد على المعنى وضده؛ أي شيئيّن ضدين ، مثل كلمة الجون تطلق على الأبيض والأسود، أو يقع على مختلفين غير ضدين مثل كلمة العين- السابقة-.
4] الاشتقاق بأنواعه: وهو إيجاد مفردات جديدة من المادة الأصلية للكلمة، وقد يكون: الاشتقاق الكبير أو الأكبر أو الكبار/ النّحت.
5] الدّخيل/المُعرب: وهو إدخال اللّفظ الأعجمي في العربية بعد تبديله وتهذيبه في لفظه ووزنه بما يناسب العربية، مثل كلمة  التّلفاز والتّلفون.
6] النّحت: إيجاد كلمة من كلمتين أو أكثر. مثل بسمل الرّجل؛ أي قال: بسم الله الرّحمن الرّحيم.  
    نستنتج مما سبق أنّ التّطوّر الدّلالي أحد جوانب التّطوّر اللّغويّ، ميدانه الكلمات ومعانيها، ومعاني الكلمات لا تستقر على حال، بلّ هي في تغيّر مستمر لا تتوقف ما دامت الحياة قائمة بين بني البشر. و أنّ رجوعنا للمعاجم القديمة والحديثة تبرهن على تغيّر معاني الكلمات من عصر إلى عصر.

المراجع
ابن خلدون،  عبد الرحمن  أبو زيد ولي الدين (2004). مقدمة العلامة ابن خلدون المسمى ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشأن الأكبر. بيروت: دار الفكر.
ابن فارس، أحمد بن زكريا (د:ت). معجم مقايس اللغة. تحقيق عبد السلام هارون، بيروت.
بصل، محمد (2001). علم الدلالة بين العرب والغربيين. مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية، سلسلة الآداب والعلوم الانسانية. سوريا , مج 23, ع 16، ص ص.153 – 163.
 الجرجاني، عبد القاهر (1984). دلائل الإعجاز. بيروت: دار المعرفة.
الجنابي، أحمد نصيف . (1984). رؤية جديدة في مفهوم علم الدلالة. مجلة البحوث والدراسات العربية. العراق، ع13،, ص ص.198 – 215.
حانه، ماجدة توماس (2008). اللغة والاتصال في الخطاب متعدد المعاني. ترجمة د. ماري شهرستان. دمشق: كيوان للطباعة والنشر
الحاوي، عثمان محمد أحمد (2006). علم الدلالة تأصيلًا ودراسةً وتطبيقًا. الرياض: مكتبة المتنبي.
حبيب، ماهر؛  منصور، عفراء (2008). التطور الدلالي عند شعراء البلاط الحمداني الشؤون المدنية والسكنية نموذجا. مجلة جامعة تشرين للبحوث والدراسات العلمية، سلسلة الآداب والعلوم الإنسانية، 30، 1، 205- 222 .
الخليل، حلمي (1993). الكلمة دراسة لغوية معجمية. القاهرة : دار المعرفة الجامعية. ط2.
الدّاية، فايز (1985). علم الدلالة العربي النظرية والتطبيق دراسة تاريخية، تأصيلية، نقدية. بيروت: دار الفكر.
الدرة، ضرغام (2009). التطور الدلالي في لغة الشعر. عمان: دار أسامة للنشر والتوزيع.
زرال، صلاح الدين (2008). الظاهرة الدلالية عند علماء العربية القدامى حتى نهاية القرن الرابع الهجري. الجزائر: الدار العربية للعلوم ناشرون.
الصالح، حسين حامد (2003). التطور الدلالي في العربية في ضوء علم اللغة الحديث. مجلة الدراسات الاجتماعية، 5، 65- 102.
الضامن، حاتم صالح (دت). فقه اللغة. وزارة التعليم العالي والبحث العلمي جامعة بغداد/ كلية الدراسات الإسلامية والعربية دبي.
العاكوب، عيسى علي (1996). المفضل في علوم البلاغة العربية المعاني- البيان- البديع. دبي: دار القلم للنشر والتوزيع. ط1.
عكاشة، محمود (دت). التحليل اللغوي في ضوء علم الدلالة دراسة في الدلالة الصوتية، والصرفية، والنحوية، والمعجمية.
الغزالي، أبي حامد (1969).معيار العلم. القاهرة: دار المعارف.


التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية