للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي العاشر للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

تَجْدِيدُ البَلاغَةِ العَرَبيّة

د. بهاء الدين محمد مَــزيد

 تمهيد
هذه الدراسة دعوة إلى بلاغة عربية جديدة، بلاغة تتأسس على ثوابت الثقافة الإسلامية والتراث العربي وتفيد في الوقت ذاته من منجزات الثقافة الغربية، بلاغة تتحرر من السلطة المطلقة للكلمة المكتوبة والمسموعة إلى رحابة العلامة - وما الكون من حولنا إلا زخم من العلامات، بلاغة تعترف بالواقع الجديد وبما أصبح يهيمن عليه من نصوص.
تشتمل الدراسة على تصور أولي لأهم مسارات التجديد ثم تأصيل للبلاغة العربية الجديدة من خلال بعض النماذج من القرآن الكريم وتفاسيره وبعض ما كتب الجاحظ وابن المقفع. ثم تطرح تعريفاً إجرائيا لبلاغة الصورة والنص في معناه الجديد، وتعرض للغات التواصل الإنساني بغير اللغة التقليدية. يلي ذلك مجموعة من التطبيقات.

مسارات التجديد
ليست بلاغة الصورة كل ما يمكن من تجديد في البلاغة العربية. فيما يلي تصور أولي لبعض مسارات التجديد: (أ) ما زال هناك متسع لمزيد من التأصيل الذي يقف على سبق الثقافة الإسلامية في شتى موضوعات البلاغة، على سبيل المثال لا الحصر مقارنة نظرية أفعال الكلام عند أوستن وسيرل بما طوره البلاغيون المسلمون والعرب في دراسة الخبر والإنشاء. على أن الغاية الكبرى لمثل هذا التأصيل لا ينبغي أن تكون مجرد إثبات السبق والريادة بل البحث عن مصطلحات ومفاهيم عربية تواكب التطور الثقافي وتحتفظ في الوقت ذاته بالخصوصية التي نكاد نفقدها، (ب) كذلك ما زالت الفرصة سانحة للخروج من التصنيفات التقليدية والتخلي عن مركزية النص الأدبي والإتجاه إلى نصوص الإعلام والإعلان والدعاية والسياسة. لم يعد كافياً – حتى في دراسة النص الأدبي – أن نغرق في البحث عن جماليات التشبيه والإستعارة والكناية وما إليها دون أن ننتقل منها إلى أيديولوجية النص وعلاقات القوة والهيمنة فيه وكذا تعبيره المباشر وغير المباشر عن السياق الذي أنتج فيه، (ج) تفعيل دراسة المفاهيم البلاغية التقليدية بحيث لا تكتفي بتحقيق الوعي بالتراث بل تنتقل إلى التعبير عن الواقع واللغة العربية المعاصرة على اختلاف تجلياتها، (د) كما ينبغي بذل مزيد من الجهد في التركيز على البعد التداولي pragmatic للغة لا الإكتفاء بالأبعاد النحوية والمعجمية والدلالية. كل هذا على سبيل التبسيط المخل والتمثيل لا الحصر. ولا بد أن بعض ما سبق ماثل في عدد من الدراسات العربية المعاصرة. لكن القصد هو أن يصبح التجديد توجها لا مجرد إسهامات فردية متناثرة هنا وهناك.

جذور البلاغة الجديدة
"البلاغة اسم جامع لمعانٍ تجري في وجوهٍ كثيرة فمنها ما يكون في السكوت ومنها ما يكون في الاستماع ومنها ما يكون في الاحتجاج ومنها ما يكون جوابا ومنها ما يكون شعراً ومنها ما يكون سجعاً وخطباً ومنها ما يكون رسائل" هذا بعض ما قال ابن المقفع - المتوفى سنة 143هـ ونقله عنه الجاحظ المتوفى سنة 255 هـ في البيان والتبيين, الذي سيرد توثيقه في هامش لاحق, وتناوله الدكتور شوقي ضيف في كتابه الثري البلاغة تطور وتاريخ (القاهرة: دار المعارف، 1992م). الجاحظ نفسه في الكتابِ نفسه الذي سترد إشارات أخرى إليه يحدد خمسة أنواعٍ من الدوال هي الوحدات الأساسية التي تتشكل منها معظم الأنظمة العلاماتية التي تحيط بنا: اللفظ (اللغة المكتوبة والمنطوقة) والخط (الرسم والأشكال التوضيحية وما إليها) والعقد (الأرقام والرموز الرياضية وما ينتج عنها من معادلات وصيغ) والحال (النّصبَة "الناطقة بغير اللفظ والمشيرة بغير اليد" والتي تقوم مقام بقية منتجات الدلالة ولا تقصّر عنها أو بعبارة أخرى هي دلالة الجوامد والصوامت) والإشارة (الإيماء وحركة اليدين والعينين والحاجبين والشفتين في غير كلام وتحريك السيف والسوط والمنكبين).
لم يكن ابن المقفع والجاحظ يتحدثان من فراغ وقد لفت القرآن الكريم في غير موضعٍ نظر المتدبرين إلى أن تواصل الإنسان ليس قاصراً على توظيف اللغة بمعناها التقليدي- الحروف والكلمات والعبارات والجمل والنصوص وما يناظرها من تشكيلات صوتية. من ذلك ما ورد في سورة مريم: "فأشارت إليه قالوا كيف نكلّم مَن كان في المهد صبياً"(الآية 29) لقد نذرت مريم للرحمن صوماً وعزمت على ألا تكلم ذلك اليوم إنسياُ ولما كانت تريد أن تبر بعهدها وفي ذات الوقت تدحض اتهام مُتهميها وكان لابد لتحقيق ذلك من التواصل لم تجد مفراً من اللجوء إلى الإشارة. ولقد تحقق التواصل من خلال الإشارة ودليل ذلك أن الرسالة بلغت هدفها فرد عليها قومُها المرتابون بقولهم "كيف نكلم من كان في المهد صبياً".
و من أجمل ما ورد في القرآن الكريم من الحديث عن تلك اللغة المغايرة، تلك البلاغة التي تتحقق دون لجوءٍ إلى الألفاظ، ما نجد في سورة آل عمران (الآية 41) في قول الله تعالى: "قال رب اجعل لي آية قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ إلا رمزاً واذكر ربك كثيراً وسبح بالعشىّ والإِبكار". وفي تفسيرها يقول الإمام القرطبى "... لما بشر - زكريا عليه السلام - بالولد ولم يبعد عنده هذا في قدرة الله تعالى طلب آية، أي علامة، يعرف بها صحة هذا الأمر وكونه من عند الله تعالى; فعاقبه الله تعالى بأن أصابه السكوت عن كلام الناس لسؤال الآية بعد مشافهة الملائكة إياه ... قال آيتك ألا تكلم الناس ثلاثة أيام إلا رمزا" الرمز في اللغة الإيماء بالشفتين, وقد يسـتعمل في الإيماء بالحاجـبين والعينين واليدين; وأصله الحركة... في هذه الآية دليل على أن الإشارة تنزل منزلة الكلام وذلك موجود في كثير من السنة, وأكد الإشارات ما حكم به النبي صلى الله عليه وسلم من أمر السوداء حين قال لها: "أين الله؟" فأشارت برأسها إلى السماء فقال: "اعتقها فإنها مؤمنة". فأجاز الإسلام بالإشارة الذي هو أصل الديانة الذي يحرز الدم والمال وتستحق به الجنة وينجى به من النار, وحكم بإيمانها كما يحكم بنطق من يقول ذلك; فيجب أن تكون الإشارة عاملة في سائر الديانة, وهو قول عامة الفقهاء..."أليست إشارة السيدة مريم ورمز زكريا عليه السلام جزءاً مما أصبح يعرف اليوم بلغة الجسد؟(1) أليست الإشارة والرمز من العلامات؟
وينبهنا القرآن الكريم في موضع آخر في "وعلامات وبالنجم هم يهتدون" (سورة النحل، الآية 16) إلى شبكة من العلاقات أحد أطرافها النجم وهو علامة تهدي أو تدل على شيء أو مكان. الطرف الثاني هو المتلقي الذي يهتدي بالنجم. وفي قلب هذه الشبكة فعل الإهتداء أو الاستدلال - أي إنتاج الدلالة المتضمنة في شكل النجم وحركته وموضعه. "قال ابن عباس: العلامات معالم الطرق بالنهار; أي جعل للطريق علامات يقع الاهتداء به يعني بالليل, والنجم يراد به النجوم. وقال الكلبي: العلامات الجبال. وقال مجاهد: هي النجوم; لأن من النجوم ما يهتدى بها, ومنها ما يكون علامة لا يهتدى بها؛ وقيل: تم الكلام عند قوله "وعلامات" ثم ابتدأ وقال: "وبالنجم هم يهتدون". وعلى الأول: أي وجعل لكم علامات ونجوما تهتدون بها. ومن العلامات الرياح يهتدى بها. وفي المراد بالاهتداء قولان: أحدهما: في الأسفار, وهذا قول الجمهور. الثاني: في القبلة." هذا ما ورد في تفسير القرطبى عن هذه الآية. الدوال هنا هى النجوم والجبال والرياح والمدلولات هى الطرق وكذا القِبلة. في جزء لاحق من هذه الدراسة أمثلة أخرى من كتاب الله تعالى.

بلاغة الصورة
أين نجد تعريفاً ملائماً لبلاغة الصورة؟ أحد الحلول السريعة هو أن نعود إلى عرض الدكتور شوقي ضيف لتاريخ البلاغة العربية وفي ثناياه ما يشير إلى أن أركان البلاغة اللغوية هي اللفظ والمعني والتأليف - أو الصياغة أو النظم. ولنستبدل باللفظ العلامة أو الصورة لنحصل على تعريف إجرائي أولي قابل للتطوير نستخدمه في تحليل النصوص البصرية المختلفة ولنترك مؤقتاً هذا الحشد من المصطلحات العلاماتية في الكتب المترجمة عن دي سوسير وبيرس وإيكو وتشاندلر وسونيسون وغيرهم. "مؤقتاً" لأننا سوف نحتاج بعد البدايات البسيطة إلى مزيدٍ من الصرامة المنهجية التي تتناسب مع ما بلغته الأجناس الخطابية المعاصرة من تعددٍ وتنوعٍ وتعقيد.
إذن بلاغة الصورة أركانها هي: الدال - الصورة أو الرسم – والمدلول – المعنى - وتأليف أو صياغة النص البصري. حين نتناول الدال نناقش عناصر الحجم والشكل واللون والعلاقة مع الواقع والسياق المحيط به وما إلى ذلك. وحين نتناول المعنى لابد أن نقف على الدلالة الحرفية أو القريبة وكذا الدلالات الإيحائية والمجازية والأسطورية كما ينبغي أن نتناول ما يتضمنه الدال أو الدوال من استعارة أو تشبيه إن وجد. أمّا النظم والصياغة أو التأليف فيشمل العلاقات بين الدوال (الدمج والاختيار) والعلاقات بين النص البصري والنص اللغوي إن وجد.

تجديد مفهوم النص
إن النص بمعناه التقليدي هو تركيب لغوي يتجاوز الجملة ويتسم بالحبك والسبك والوحدة العضوية. يصدق هذا على الكلام والكتابة على حد سواء. وقد قدم البلاغيون المسلمون والعرب فصولاً مبهرة في طرائق وآليات تحليل الخطاب وتحليل النص مع أنهم لم يستخدموا هذين المصطلحين. وفيما قدموا إشارة بالغة الأهمية إلى ضرورة تجاوز الكلمة إلى العلامة وإلى ضرورة الاهتمام بالسياق عند تحليل الخطاب أو النص. ومن يطالع البيان والتبيين للجاحظ ودلائل الإعجاز وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني يجد أن مدار البلاغة لا يقتصر على فصاحة المفردة أو جلال المعنى بل يتمثل في الصياغة والتأليف والنظم وما ينتج عن ذلك من دلالات ثانية أو إضافية. وقد احتشدت في مجلدات الجاحظ والجرجاني والعسكري وقدامة والسكاكي وغيرهم صنوف البديع وطرائق النظم وأسس البلاغة بما يدعو النقاد واللغويين العرب المحدثين إلى التقليل من انبهارهم بمصطلحات علم العلامات الغربية والعودة إلى آبارهم المعطلة وقصورهم المشيدة التي لا يسكنها أحد في سعيهم إلى التحول المطلوب – الذي لا يعني بالقطع إهمال التحليل الأسلوبي التقليدي.
ومن الطبيعي أن ينتج عن استبدال العلامة بالكلمة أن يتسع مفهوم النص ليشمل كل مجموعة من العلامات تتصف بالترابط والسبك والقصدية والتعبير عن سياق معين وتتصل بمجموعات أخرى تشكل نصوصاً أخرى من نفس جنسها الخطابي أو من أجناسٍ أخرى.(2)

لغات التواصل الإنساني
في البلاغة العربية
توقفنا فيما سبق مع ثلاثة أمثلة من القرآن الكريم للتواصل بغير لغة. ليس هذا كل ما في القرآن الكريم عن "لغات التواصل الإنساني"، إذ يحفل بما لا نستطيع لها هنا حصراً من نماذج وأمثلة الإتصال بغير لغة. في القرآن الكريم – على سبيل التمثيل لا الحصر - عيون "تفيض" من الدمع و عيون "تبيض" من الحزن ونبي كريم "يتبسم" ضاحكاً من كلام نملة ويتحدى من يأتيه بعرش ملكة سبأ قبل أن يرتد إليه "طرفه" وعيون "تدور" يميناً وشمالاً خوفاً وجبناً "أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا". (الأحزاب، الآية 19)؛ وفيه تذكير لعباد الله أنه تعالى "يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور" (غافر، الآية 19)، وفيه أب حكيم يعظ ولده بالقصد في المشي وخفض الصوت والتواضع للناس وأن يتجنب الحركات التي من شأنها أن تدل على الكبر أو الخيلاء: "ولا تُصعِّر خدَّكَ للنَّاسِ ولا تَمْشِ في الأرضِ مَرَحَاً إِنَّ الله لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُور واقْصِد في مَشيكَ واغضُضْ مِن صوتِكَ إِن أَنكَرَ الأَصواتِ لصوتُ الحَمِير" (لقمان، الآيتان 18 و 19)، وفيه أم يربط الله على قلبها فتسيطر على مشاعرها فلا تنعكس على تعبيرات وجهها أو كلامها: "وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لولا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" (القصص، الآية10)، وفيه من يولى مستكبراً ومن يُعرض ومن يسلم وجهه لله وفيه ما لا حصر له من الآيات – وهل الآيات إلا علامات على قدرة الله تعالى وحكمته ورحمته وعدله وعظمته وسائر صفاته وأسمائه الحسنى؟
وكم احتفى الباحثون في الغرب بتعبيرات الوجه ولغة العيون. تعبيرات الوجه – ومنه الوجهة والتوجه والاتجاه والوجاهة والواجهة والمواجهة - هي أكثر التعبيرات غير اللفظية وضوحاً؛ تغنى عن الكلام أحياناً وتفضح مشاعر المرء سواء كان واعياً بذلك أم غير واع به وتنقل ما يعجز الكلام عن نقله أحياناً أو تختزل ما يحتاج إلى كثير من الشرح والتفصيل. كما تحقق تعبيرات الوجه التواصل بين المتكلم والمستمع من خلال نقل الإحساس بالاهتمام المتبادل بينهما. وعلى وجه العموم هناك ست فئات من المشاعر التي يمكن أن يتم توصيلها من خلال تعبيرات الوجه وهي السعادة والحزن والدهشة والخوف والغضب والاشمئزاز.
أما عن العيون فقالوا إنها نافذة الروح ومن الواضح أن مكانة العينين في الشعر العربي وفي الأغاني قديمها وحديثها مكانة متميزة. يقسم المتخصصون – ولا يبدو أن الأمر بحاجة إلى متخصصين هنا – النظرة إلى نظرة متبادلة ونظرة من جانب واحد. وتؤدى النظرة أربع وظائف على الأقل: التنظيم – مثلاً عندما تعطى بنظرة إشارة لمحدثك أن يبدأ الكلام أو أن يتابع - والمتابعة – إظهار القلق مثلاً - والمعرفة – عندما تعبر النظرة عن الاستغراق في التفكير أو التساؤل - والتعبير العاطفي فهي ربما تقتل وتسبى وربما يعقبها سلام وكلام وموعد ولقاء. من هنا كانت ضرورة غض البصر. إن العين من فرط بلاغتها تزنى. لكن الذين ينقلون الثقافة الغربية بقضها وقضيضها ينصحوننا بمداومة النظر إلى عينى من نحدث كائنا من كان وأينما كان وكيفما كان لأن الثقافة الأنجلو- أمريكية تعلمنا ذلك.
وفي القرآن كذلك "وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بئسما خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين"َ (الأعراف: الآية 150). وفي تفسير هذه الآية يقول القرطبي: و "أسفا" شديد الغضب. قال أبو الدرداء: الأسف منزلة وراء الغضب أشد من ذلك. قال ابن القاسم: سمعت مالكا يقول: كان موسى عليه السلام إذا غضب طلع الدخان من قلنسوته, ورفع شعر بدنه جبته. وذلك أن الغضب جمرة تتوقد في القلب ... أي بلحيته وذؤابته. وكان هارون أكبر من موسى- صلوات الله وسلامه عليهما - بثلاث سنين, وأحب إلى بني إسرائيل من موسى; لأنه كان لين الغضب. للعلماء في أخذ موسى برأس أخيه أربع تأويلات. الأول: أن ذلك كان متعارفا عندهم; كما كانت العرب تفعله من قبض الرجل على لحية أخيه وصاحبه إكراما وتعظيما, فلم يكن ذلك على طريق الإذلال. الثاني: أن ذلك إنما كان ليسر إليه نزول الألواح عليه; لأنها نزلت عليه في هذه المناجاة وأراد أن يخفيها عن بني إسرائيل قبل التوراة. فقال له هارون: لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي; لئلا يشتبه سراره على بني إسرائيل بإذلاله. الثالث: إنما فعل ذلك به لأنه وقع في نفسه أن هارون مائل مع بني إسرائيل فيما فعلوه من أمر العجل. ومثل هذا لا يجوز على الأنبياء. الرابع: ضم إليه أخاه ليعلم ما لديه; فكره ذلك هارون لئلا يظن بنو إسرائيل أنه أهانه; فبين له أخوه أنهم استضعفوه, يعني عبدة العجل, وكادوا يقتلونه أي قاربوا. فلما سمع عذره قال: رب اغفر لي ولأخي; أي اغفر لي ما كان من الغضب الذي ألقيت من أجله الألواح, ولأخي لأنه ظنه مقصرا في الإنكار عليهم وإن لم يقع منه تقصير; أي اغفر لأخي إن قصر....
ألا يعجب المرء من ثراء علامة واحدة في هذه الآية وتعدد تأويلاتها؟ وفي القرآن كذلك "إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بالواد الْمُقَدَّسِ طُوًى" (طه، الآية 12). وفي تفسيرها يقول ابن كثير: "قال علي بن أبي طالب وأبو ذر وأبو أيوب وغير واحد من السلف كانتا من جلد حمار غير ذكي وقيل إنما أمره بخلع نعليه تعظيما للبيعة وقال سعيد بن جبير كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة وقيل ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافيا غير منتعل وقيل غير ذلك والله أعلم."
سوف نرى حين نطالع منجزات الدراسات العلاماتية الحديثة اشتمال علامة الحذاء على بعدين على الأقل؛ فمن ناحية يرتبط بالتحقير والمهانة وهو بهذا لا ينسجم مع القداسة الواجبة لطوى ومن ناحية أخرى يدل على صاحبه أو صاحبته من حيث الفقر أو الغنى والذوق فلم يكن غريباً أن يرد عن الإمام على كرم الله و جهه قوله: "تمام جمال المرأة في خفها وتمام جمال الرجل في لمته." ولم يكن غريباً كذلك ما ورد عن الأحنف حين سأله سائل: "يا أبا بحر، ما بقاء ما فيه العرب؟" فأجاب: "إذا تقلدوا السيوف وشدوا العمائم واستجادوا النعال ولم تأخذهم حمية الأوغاد."(3)
وترد كلمة "سيماهم" في ستة مواضع في القرآن الكريم: في سورة البقرة (الآية 173) وسورة الأعراف (الآية 46 و الآية 48) وسورة محمد (الآية 30) وسورة الفتح (الآية 29) وسورة الرحمن (الآية 41). يقول عز من قائل في الآية من سورة الفتح: "مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا". وفي تفسيرها يقول الإمام القرطبى: "السيما العلامة ... أي لاحت علامات التهجد بالليل وأمارات السهر... وقد روى ابن وهب عن مالك "سيماهم في وجوههم من أثر السجود" ذلك مما يتعلق بجباههم من الأرض عند السجود... يكون موضع السجود من وجوههم كالقمر ليلة البدر. وقال ابن عباس ومجاهد: السيما في الدنيا وهو السمت الحسن. وعن مجاهد أيضا: هو الخشوع والتواضع. قال منصور: سألت مجاهدا عن قوله تعالى: "سيماهم في وجوههم" أهو أثر يكون بين عيني الرجل؟ قال لا, ربما يكون بين عيني الرجل مثل ركبة العنز وهو أقسى قلبا من الحجارة ولكنه نور في وجوههم من الخشوع. وقال ابن جريج: هو الوقار والبهاء. وقال شمر بن عطية: هو صفرة الوجه من قيام الليل. قال الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى وما هم بمرضى. وقال الضحاك: أما إنه ليس بالندب في وجوههم ولكنه الصفرة. وقال سفيان الثوري: يصلون بالليل فإذا أصبحوا رئي ذلك في وجوههم..."(4)
وفي غير موضع من القرآن الكريم تصبح لغة الجسد مصدراً من مصادر الخلاف العقائدي والفقهي بين العلماء والمفسرين. آية ذلك ما نجد في سورة (عبس) التي يدور حولها جدل وخلاف يتعلق بعصمة الرسول صلى الله عليه وسلم وهل يليق به أن يعبس ويتولى في وجه الأعمى الذي جاءه يسعى وهو يخشى ويتصدى ويقبل على من استغنى: "عَبَسَ وَتَوَلَّى. أَن جَاءهُ الأعْمَى. وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى. أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى. أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى. فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى. وَمَا عَلَيْكَ ألا يَزَّكَّى. وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى. وَهُوَ يَخْشَى. فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى. كلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ. فَمَن شَاء ذَكَرَهُ. فِي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ. مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرَامٍ بَرَرَةٍ. قُتِلَ الإنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ. مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ. مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ. ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ. ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذَا شَاء أَنشَرَهُ. كلا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ. فَلْيَنظُرِ الإنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ. أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاء صَبًّا. ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقًّا. فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبًّا. وَعِنَبًا وَقَضْبًا. وَزَيْتُونًا ونخلا. وَحَدَائِقَ غُلْبًا. وَفَاكِهَةً وَأَبًّا. مَّتَاعًا لَّكُمْ ولأنعاكم. فَإِذَا جَاءتِ الصَّاخَّةُ. يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيه. لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ. وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ. ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ. وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ. تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ. أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ".
يبدو أن أحد مصادر الخلاف حول هذه السورة هو الالتفات البلاغي من الغائب المفرد في "عبس وتولى" إلى المخاطب المفرد في "وما يدريك". فمن قائل إن الذي عبس لم يكن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن قائل إنه الرسول صلى الله عليه وسلم ولا يتنافى ذلك مع عصمته وعصمة الأنبياء لأنه جعل الأولوية في تلك اللحظة لدعوة الغنى المستغنى على حساب الرد على من حسن إسلامه ولا خوف على عقيدته. لا نريد هنا أن نسعى إلى حل لهذا الخلاف بل نريد أن نؤكد على بعض تجليات التواصل الإنساني بغير لغة في القرآن العظيم – العبوس والتولي والتصدي والوجوه المسفرة الضاحكة المستبشرة وتلك التي عليها غبرة - وعلى بلاغة الأشياء التي نظنها جامدة وهي تعبر وتوحي – "فلينظر الإنسان إلى طعامه". أليس الطعام معبراً عن ميول البشر وأمزجتهم وخلفياتهم الثقافية والاجتماعية ومستوياتهم الاقتصادية؟ أليس الطعام بهذا المعنى علامة؟ وتحتفى الدراسات العلاماتية الحديثة بالجوامد التي تدل وتوحي من ملبس وأثاث وحلي وأدوات تشير إلى المكانة الاجتماعية والاقتصادية والميول والأمزجة وأساليب الحياة المختلفة.
وما أروع التعبير القرآني في الآية الكريمة: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى حَتَّىَ تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُبًا إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّىَ تَغْتَسِلُواْ وَإِن كُنتُم مَّرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاء أَحَدٌ مِّنكُم مِّن الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء فَلَمْ تَجِدُواْ مَاء فَتَيَمَّمُواْ صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُواْ بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (النساء، الآية 43). "لامستم النساء" ليست مجرد إشارة إلى واحدة من لغات التواصل الإنساني وهو اللمس والملامسة بل هي كذلك جملة حبلى بالدلالات وموضع لخلاف فقهي حول طبيعة الملامسة التي توجب الاغتسال وتلك التي توجب الوضوء والفرق بين اللمس والملامسة ودور المرأة في الحالين وتوابع الفعلين. اللمس فعل والملامسة مفاعلة وفي المفاعلة قصد وجهد ومشاركة وفرصة أكبر لوقوع الجماع. اللمسة لغة بليغة. قد يعبر المرء من خلال ملامسة بعض أجزاء جسده عن الشعور بالبرد أو الخوف أو الحزن وقد ينقل من خلال لمس الآخرين الإحساس بالتعاطف والاحتواء والمؤازرة. وترتبط لغات التواصل الإنساني بالثقافات التي تستخدم فيها. تلك الثقافات تحدد ما يجوز وما لا يجوز ويختلف معنى الإشارة الواحدة من ثقافة إلى أخرى.
أليس في كل ما سبق ما يشعرنا على الأقل ببعض الذنب تجاه ثقافتنا الإسلامية والعربية؟ أكان لابد أن نقرأ عن السيميوطيقا في الغرب حتى نلتفت إلى "السيما" والعلامات والإشارة والرمز وتعابير الوجه والعينيين وحركات الجسد وما إليها من لغات التواصل الإنساني في القرآن الكريم؟ هل قصر المفسرون وعلماء اللغة المسلمون في التعليق على كل ذلك في النص الإلهي المعجز – وبين أيدينا بعض ما كتب الإمام ابن كثير والإمام القرطبي وبين أيدينا كتاب واحد من أمهات كتب البلاغة العربية للجاحظ يشتمل على توصيف رائع رائد للأنظمة العلاماتية كما ورد في بداية هذا الكتاب؟
ولم تشتمل رائعة الجاحظ على مجرد تلخيص صنوف الدلالة التي أشرنا إليه في معرض الحديث عن جذور البلاغة الجديدة. لقد أفرد الجاحظ باباً للحديث عن رمزية العصا ووظائفها ودلالاتها وعلاقتها بالخطابة وكتب عن النعال كما أشرنا وأسهب في الحديث عن العمامة ودلالتها على التمايز المهني والاجتماعي: "وللخلفاء عمة وللفقهاء عمة وللبغالين عمة وللأعراب عمة وللصوص عمة ..." وفي لفتة سيميوطيقية مهمة يعلق الجاحظ على الوظائف الاجتماعية والسياسية والبلاغية للعصا وما شابهها من آلات يستعملها الإنسان: "وهل يملأ عيون الأعداء ويرعب قلوب المخالفين ويحشو صدور العوام … إلا الآلات" (5)
و في معرض حديثه عن لغة العيون يستشهد الجاحظ بأبيات من الشعر العربى في هذا الصدد و منها قول عمر بن أبى ربيعة:

أشارت بطــــــرف العين خيفة أهلها إشــارةَ مــذعورٍ و لم تتـــكلمِ
فأيقنت أن الطرف قد قال مــــــرحباً و أهلاً و سهلاً بالحبيب المتيم
و قول غيره:
العين تبدى الذي في نفس صاحبها من المــحبة أو بغـــــضٍ إذا كانا
و العين تنطقُ و الأفواه صامتةٌ حتى ترى من ضميرِ القلب تبياناً

من ناحيته لم يقصر أبو منصور الثعالبى( ت: 429 هـ) في كتابه فقه اللغة وأسرار العربية حيث أرسى أسس نظرية رائدة في الحقول الدلالية في مختلف أغراض الحركة والتصرفات و السكنات التي تعرض للناس في شتى أغراض حياتهم و يرصد مراتب الحب و الكراهية و الفرح و الحزن و صنوف الضرب: إذا ضربوا براحة اليد على مقدمة الرأس فهو صقع وعلى القفا فهو صفع وعلى الوجه فهو صك وعلى الخد ولكن ببسط الكف, فهو لطم وان كان بقبضها فهو لكم وبكلتا اليدين فهو لدم والضرب على الذقن وهز وعلى الصدر والجنب وكز وعلى الجنب فقط باستخدام الإصبع فهو وخز وبالساق ركل وأحيانا رفس و يعرج على الأصوات فيميز أنواعها و جرسها و إيقاعها يميز مثلا بين النغم وهو حسن الصوت وبين الهمس وهو صوت حنجرة الإنسان, و النأمة وهو صوت حركة الإنسان, و الهميس وهو صوت أخفاف الإبل إذ تطأ الأرض في الصحراء حتى يصل إلى الصياح وهو بدء اشتداد الصوت, والصراخ وهو شدته عند الفزع, والصخب وهو شدته عند الخصومة أو المناظرة, والزجل وهو شدته عند الطرب, والهدة وهو شدته عند سقوط كيان ضخم مثل ركن حائط أو جبل, والنعير وهو صياح الغالب بالمغلوب, والنعيق وهو صوت الراعي بالغنم, والقديد وهو الشدة على الثور أو الحمار. و عن مراتب الحب: "أول الحب الهوى ثم العلاقة: وهي الحب اللازم للقلب ثم الكلف: وهو شدة الحب ثم العشق: وهو اسم لما فضل عن المقدار الذي اسمه الحب، ثم الشعف: وهو إحراق القلب مع لذة يجدها وكذلك اللوعة واللاعج: فإن تلك حرقة الهوى وهذا هو الهوى المحرق ثم الشغف: وهو أن يبلغ الحب شغاف القلب وهي جلدة دونه، ثم الجوى: وهو الهوى الباطن ثم التيم: وهو أن يستعبده الحب ثم التبل: هو أن يسقمه الهوى ثم التدليه: وهو ذهاب العقل من الهوى، ثم الهيوم: وهو أن يذهب على وجهه لغلبة الهوى عليه".(6)
كل هذا غيض من فيض و قطرات من محيط البلاغة العربية. لا نريد أن نقع في شرك التهافت و الجري خلف سراب السبق الثقافي و المعرفي للأمة الإسلامية و البلاغيين المسلمين العرب و ليس هناك ما يمنع الإفادة من منجزات الثقافة الغربية في هذا الصدد. لكن تراثنا البلاغي فيه ما يصلح للتعبير عنا و عن ثقافتنا و ما يعيننا على مواجهة طوفان الاختزال و التهميش الذي يحاصرنا. فلماذا لا تتحقق المصالحة بين الانبهار بالغرب و العودة إلى التراث؟ و لماذا لا نغادر تلك الثنائيات المفتعلة عن القديم والجديد و الذات و الآخر؟ إن الخروج من شرك الثنائيات هو خروج من "ذاكرة الوهم المعرفي…لولا القدامة لما وصلنا للحداثة.. ولولا الذات لما اتضح الآخر، والخاص هو فرع من العام، والعمق أوله السطح، والدهماء هو أول درجة للوصول إلى النخبة، والتراث هو الوجه الآخر للمعاصرة، والأصالة لا تخلو من تغريب، خاصة إذا سكنا الخيام واستخدمنا الفرسخ وركبنا الخيل والجمل... والهوية هي هذه المكونات العالمية التي أسهمت كل الأطياف البشرية في صناعتها، حتى الهنود الحمر والصفر والبنفسجيين، والصرب المعتدين وغير المعتدين".(7)


في الثقافة الغربية
نستطيع الآن أن نعرج بمزيد من التفصيل على ما أنتجته العقلية الغربية من أفكار ومفاهيم عن لغات التواصل الإنسانى التي لا تشمل اللغة بمعناها التقليدي. نستطيع أن نفعل ذلك دون الشعور بالانبهار وقد رأينا أن التراث البلاغي العربي قطع شوطاً طويلاً في هذا الصدد.
أثبتت الدراسات أن التأثير المتبادل في أي اتصال بين شخصين يعتمد بنسبة 7 بالمائة فقط على الكلمات التي يتم تبادلها بينما يعتمد 38% منه على الصوت وبنسبة 55 % على ما اصطلح على تسميته الاتصال غير اللفظي non-verbal communication. من العسير أن نتفق عل تعريف جامع مانع للاتّصال غير اللفظي لكن يمكن القول بأنه كل تواصل بغير اللغة التي نعرفها من الكلمات المكتوبة أو المنطوقة. وقد يكون الاتصال غير اللفظي واعياً وقد يكون غير ذلك فقد يلوح المرء عن قصد بيده مودعاً وربما تنتقل إلينا معلومات عن الآخرين – عن حالاتهم الصحية والنفسية والاقتصادية - دون وعي أو قصد منهم. وقد اتفقت الأدبيات الغربية الحديثة والمعاصرة على تصنيف الاتصال غير اللفظي إلى ما يلي من فئات. من اليسير أن نلاحظ ما بين هذه الفئات من تداخل وتعارض لكنها نوع من التبسيط المفيد في دراسة التواصل بغير لغة (8) :
- المظهر appearance: ويشمل نوع الملبس ودلالاته وتعبيره عن السياق والثقافة والألوان المفضلة ورمزية الألوان في الثقافات المختلفة ووجهات نظر الثقافات المختلفة في الجمال والسمنة والنحافة والطول والقصر والدلالات المختلفة للحية والشارب والحجاب والنقاب والعمامة وما إليه ولون الشعر ولون العينين واختلاف الثقافات في تقديرها لما هو جذاب أو غير جذاب.
- لغة الجسد kinesics – وتشمل الإيماء gesture ووضع الجسم posture وتعبيرات الوجه facial expressions: ومنها الابتسامة والعبوس وحركات اليدين والرأس ووضع الجسد وقوفاً أو قعوداً أو ركوعاً أو سجوداً ودلالاتها المختلفة من ثقافة إلى أخرى. ومن ذلك تعبيرات الوجه وما تشير إليه من السعادة أو الحزن أو الدهشة أو الخوف أو الغضب أو الاشمئزاز.
- لغة العيون occulesics: العيون تكره وتحب وتقتل وتتقرب وتنفر وتخاف وتضطرب وتحزن. والنظرة إما متبادلة أو من جانب واحد. وتؤدي النظرة أربع وظائف على الأقل: التنظيم مثلاً عندما تعطى بنظرة إشارة لمحدثك أن يبدأ الكلام أو أن يستمر والمتابعة – إظهار القلق على سبيل المثال - والمعرفة – عندما تعبر النظرة عن الاستغراق في التفكير أو التساؤل - والتعبير العاطفي – الحب واللهفة على سبيل المثال.
- لغة اللمس والملامسة haptics: يتباين الأفراد وتتباين الثقافات فيما يتصل بالملامسة أو اللمسة المقبولة وغير المقبولة. ومن اللمس والملامسة التقبيل الذي تختلف أنواعه ودلالاته من ثقافة إلى أخرى. وتختلف القبلة بالنظر إلى وظيفتها التواصلية فمنها ما يعبر عن التبجيل أو الاحترام أو الحب والشهوة ومنها ما يعبر عن الاعتذار أو مجرد التحية العابرة.
- الرائحة olfactics: ومن ذلك الروائح المختلفة التي يفضلها كل شخص أو جماعة. ومن ذلك قبول رائحة محددة أو عدم قبولها. ولأن الرائحة لغة راجت العطور ومزيلات العرق وأنواع البخور وتفننت الشركات في إنتاج أنواع الصابون والمنظفات ذات الروائح المميزة.
- توظيف الحيز الشخصي proxemics: ويشير إلى المسافة المقبولة بين المرء والآخرين. قد تكون مسافة عامة في محاضرة عامة أو خطاب سياسي أو اجتماعية في مجال العمل أو مسافة خاصة بين الأصدقاء وأفراد الأسرة أو مسافة حميمة بين الزوجين أو الحبيبين همساً أو عناقاً. تختلف الثقافات في توظيفها تلك الأنواع من الحيز الشخصي ففي بعض البلدان العربية مثلاً تتحول المسافة الاجتماعية في مجال العمل إلى مسافة خاصة أو حميمة.
- التعبير بالزمن أو الوقت chronemics: يتصل هذا بقيمة الوقت أو الزمن في الثقافات المختلفة وبالانضباط في المواعيد ووجهة نظر المجتمع في ذلك. ومن ذلك تمايز الثقافات في الميل إلى الجمع بين أكثر من اشتغال أو مهمة في وقت واحد.
- السمات المصاحبة paralanguage للغة التقليدية مثل نبرة الصوت وحدته ودرجته vocalics: ومن ذلك الهمس وعلو الصوت والبكاء والصمت – الصمت خوفاً أو تأملاً أو حيرةً أو اهتماماً أو قبولاً(9)
- الأدوات artifacts والحلي والبيئة المحيطة environment وما إليها: ومن ذلك الهدايا متى وكيف نقدمها ولمن. ومن ذلك الأثاث والديكور وأدوات الزينة وأنواع الحلي والمجوهرات والأكسسوارات ودلالاتها وتعبيرها عن الحالات الشعورية والاقتصادية والتوجهات الثقافية. ومن ذلك تعامل المرء مع ما يحيط به من بيئة حية أو غير حية والأساليب المعمارية وتصميم المنازل والبنايات الأخرى وتخطيط المكان عموماً ودلالة كل ذلك على الثقافة والميول الشخصية.


تطبيقات
ليس المقصود بالتجديد إهمال اللغة بمعناها التقليدي بطبيعة الحال. المقصود هو التعامل معها من زوايا جديدة حتى تستطيع البلاغة العربية أن تتعامل مع لغة السياسة والدعاية والإعلان وما إليه والتحول من الكلمة إلى العلامة حتى تستطيع أن تستوعب النصوص المعاصرة على تعددها و تباينها وتعدد الوسائط فيها.

تحليل الخطاب السياسي
إن السياسة بمعنى التأثير والتوجيه والتمويه والخداع والتفاوض ماثلة في كل زمان ومكان. من هنا يأتي تأكيد تحليل الخطاب الراديكالي/ النقدي على تناول علاقات القوة والهيمنة وتجليات الأيديولوجيا في كل أنواع النصوص. وليس من بين أنواع الخطاب ما تتجلى فيه الهيمنة والقوة ومحاولات التأثير من الخطاب السياسى بمعناه الخاص المحدد الذي يتعلق بأمور الحكم والقيادة. في هذا الصدد نجد في أدبيات تحليل الخطاب السياسى أربع وظائف مهمة يسعى إلى تحقيقها وهى:
1) القمع والقهر وفرض السيطرة
2) إضفاء الشرعية أو التجريد منها
3) المقاومة والمواجهة
4) التضليل. (10)

يستطيع الخطاب السياسي أن يحقق هذه الغايات من خلال اللغة، ومن آليات ذلك على سبيل التمثيل لا الحصر: الاستعارة (من ذلك ما نجد في تعبير الإدارة الأمريكية hunting down bin Laden الذي يتحول فيه ابن لادن إلى حيوان يطارده صيادو البنتاجون) والافتراض المسبق (من ذلك سؤال بوش في خطابه عقب الحادي عشر من سبتمبر الشهير Why do they hate us? الذي يفترض مسبقا صحة الاعتقاد بأن العرب والمسلمين يكرهون الولايات المتحدة، وقوله The enemy of America is not our many Muslim friends الذي يفترض مسبقا وجود عدو يتربص بأمريكا وأن أمريكا لها كثير من الأصدقاء في العالم الإسلامي) والتجميل (من ذلك التعبير عن الاحتلال بالتحرير وعن الحرب على العراق بالحرب في العراق وعن الأخطاء الغبية بالنيران الصديقة، ومن ذلك أيضا ما أمتعنا به الصحاف من أخبار الانتصارات العراقية المتعاقبة في معركة الحواسم الأخيرة التي ذهب بعدها صدام والصحاف إلى حيث ألقت) والتقبيح (من ذلك سيل الشتائم التي سمعنا من الصحاف حين وصف الغزاة الأنجلو-أمريكيين بالعلوج وجحوش الاستعمار وعصابة الأوغاد الدولية) والتنقل بين المبني للمعلوم والمبني للمجهول وتحويل الأفعال إلى مجرد أشياء تقع أو تحدث دون قصدية أو دافعية إنسانية.(11)
من خلال متابعة لغة الحرب على العراق نستطيع أن نتحقق من توظيف اللغة كسلاح مهم وفعال في تبرير الحرب أو مقاومتها من خلال تجميل الذات وتشويه الآخر، فقد عملت الإدارة الأمريكية على تشويه صورة صدام حسين الذي قدم لها كل المساعدات الضرورية من خلال تصرفاته الطائشة وعبثه بمقدرات شعبه وقمعه إياه. في نفس الوقت سعت الإدارة الأمريكية إلى تجميل صورتها وتهميش أخطائها وخطاياها وإخفاء دوافعها الحقيقية من وراء الحرب – صدام ليس الطاغية الوحيد ولم يكن في العراق أسلحة دمار شامل كما أن صدام كابن لادن كلاهما صناعة أمريكية. على الجانب الآخر، ظل حزب البعث على تزييفه وتضليله وأبقى على خطابه الذي يغازل مشاعر المسلمين والعرب من خلال التعلق بأستار الكعبة وبقايا القومية العربية وحديث الجهاد في سبيل الله والعرض والشرف والكرامة. في نفس الوقت بذل الصحاف جهدا خارقا في تشويه الغزاة المستعمرين. لكن آلة الحرب العراقية المنكهة أخفقت وأخفقت كذلك آلة حربها اللغوية. لعل من أكثر نتائج هذه الحرب أهمية أن العالم قد أصبح أكثر وعيا بتوظيف اللغة كسلاح خداع شامل. لم يكن الأمر من قبيل الاكتشاف، لأن توظيف اللغة كآلة للدعاية والحرب قديم قدم الإنسان نفسه، لكن المسألة لم تعد تحتمل مزيدا من الانتظار للاهتمام بهذه الوظيفة على مستوى التناول الإعلامى والبحث الأكاديمي، خصوصا في العالم العربى الذي شغلته "مؤخرة" مطربة ما عن "مقدمة" بن خلدون.(12)

كذلك نتحقق من خلال مراجعة لغة الحرب على الإرهاب ثم على العراق من توظيف وسائل الدعاية propaganda اللغوية لتحقيق غايات سياسية. من ذلك ما حفل به خطاب الحربين من ألفاظ رنانة وتعابير براقة glittering generalities كالديمقراطية والحرية والعدالة في صراعها مع الإرهاب والديكتاتورية والطغيان والخوف. حين ندقق النظر نكتشف أن هذه الكلمات ليست لها نفس الدلالات عند المتحاربين، فما فعله صدام وابن لادن "جهاد في سبيل الله" تحول عند بوش إلى "إرهاب" وما يفعله بوش "حرب على الإرهاب" تتحول عند معسكر "الأعداء" إلى "إمبريالية" و "غزو" و "استعمار".
ومن ذلك خلط الأوراق card-stacking في سبيل التعتيم على الدوافع الحقيقية، فبدلا من مناقشة الأسباب الحقيقية "لكراهية العرب" أمريكا، رأينا الإدارة الأمريكية تنسب ذلك إلى ما تتمتع به الولايات المتحدة من حرية وحضارة وعدالة وما يثقل كاهل العرب من قمع وقهر ومحاكم تفتيش وأحكام عرفية وطغيان. لم نسمع بوش حتى الآن يتناول تحيزات إدارته ومكاييلها المتباينة وأقنعتها المتعددة. ومن أساليب الدعاية السياسية كذلك الحديث بلسان حال العامة plain folks والإيهام بأن موقف القيادة ليس إلا تعبيرا عن مشاعر الشعب ورغباته. ومن ذلك أيضا التعميم وافتراض التعبير عن الأغلبية ليس في الداخل فقط، بل وفي شتى أنحاء العالم. ويرتبط بهذه الوسيلة الدعائية التيقن من النصر band-wagon and inevitable victory: أنا أعبر عن شعبي، والعالم المتحضر كله معي، وسوف ننتصر؛ إما أن تكون معنا أو علينا، وإذا قررت ألا تكون معنا فسوف تكون حتما من الخاسرين. هكذا تكلم جورج بوش الابن.
ومن وسائل الدعاية التي تابعناها في الحربين كذلك التنابز بالألقاب والسب name-calling وقد وردت فيما سبق أمثلة لذلك في معرض الحديث عن لغة الصحاف. لم يقصر جورج بوش من ناحيته فقد أنعم على صدام وابن لادن بسيل من الألقاب التي تحمل العامة على كراهيتهما. ولقد أصبح لقب "إرهابي" تهمة جاهزة لكل من تسول له نفسه معاداة الأقوياء؛ فالفلسطينيون "إرهابيون" والعراقيون الذين يقاومون الاحتلال "إرهابيون" و "محور الشر" axis of evil محور إرهاب. وطالما وردت كلمة "الشر" فقد انتقل الصراع من تنافس على الهيمنة وسعى إلى تحقيق غايات سياسية واقتصادية إلى صراع بين "الخير" و "الشر". ونحن جميعا نعرف إلى أي معسكر تنحاز السماء. هكذا أصبح الدين وسيلة دعاية وآلة حرب. (لم يكن بوش رائدا في توظيف الدين لتحقيق غايات سياسية فقد سبقه إلى ذلك عدد لا باس به من القادة العرب.)
لم تنته القصة بعد، لكن المؤكد أن لغة الخطاب السياسي تحتاج إلى كثير من الاهتمام في عالمنا العربي. بوسع البلاغة العربية أن تستوعب ما يستجد من مفاهيم تتعلق بوظائف الخطاب السياسي والدعاية السياسية. هذا ما ينبغي أن نتوقف عنده بعد هذا الاستعراض الموجز المخل. ليس المقصود الانحياز لأن أيا من الأطراف المعنية لم يقدم للبشرية ما يستحق أن تحمده له أو أن تدافع به عنه (وهذه في ذاتها مقولة منحازة) لكن المقصود هو الوعي والتوعية وضخ دماء جديدة في عروق البلاغة العربية.


الكاريكاتير
طالما رضينا بأن هناك ما يسمى "بلاغة الصورة" وتوصلنا إلى تعريف إجرائي مبدئي يستند إلى تراث البلاغة العربية "اللغوية" مع إحلال العلامة محل الكلمة أو اللفظ, فإننا الآن في وضع معرفي يسمح بمقاربة الأجناس الخطابية البصرية المعاصرة. ستكون البداية مع الكاريكاتير ثم الصورة الفوتوغرافية.
ينتمي الكاريكاتير إلى عالم خطابي أرحب وهو الفكاهة التي تشتمل بدورها على أجناس خطابية فرعية مثل اللعب بالألفاظ والسخرية والتورية والنكتة وما إليها. وتشتمل كل تعريفات الكاريكاتير على معاني المبالغة أو التشويه لتحقيق هدف قريب وهو الإضحاك وهدف بعيد وهو النقد الاجتماعي والسياسي. ربما لا ينتج الإضحاك عن مجرد المبالغة أو التشويه بل من خلال التداخل بين عالمين أو التناقض بين النص البصري والنص اللغوي أو التورية أو الغموض(13)
في صفحة 42 من جريدة الجزيرة 28/7/1423هـ نجد نصاً كاريكاتيريا على أربعة أعمدة يتوسط الجزء العلوي من الصفحة ويفصل بين إعلان والعمود الصحفي لعبدا لله نور. ينقسم النص إلى مركبات لغوية: "كاريكاتير"، "مركز صحي","شباك الملفات", "المرزوق" ومركبات بصرية. الجزء اللغوي من النص يحدد جنسه ثم المكان العام ثم الخاص ثم توقيع منتج النص/ المؤلف, على الترتيب. أما الدوال البصرية فهي:

- رسم توضيحي للجهاز الهضمي على الحائط
- نسيج عنكبوت على شباك الملفات
- رجلان يفترشان الأرض
- كل منهما يرتدي "بالطو" أبيض
- ونظارة
- وبينهما رقعة شطرنج
- وبجوارهما كوبان من الشاي
- الرجل الذي يواجه القارئ مستغرق في التفكير- يضع يده اليسرى على ذقنه
- مادّاً رجله اليمنى
- حافيَ القدمين

هذا النص البصري يضعنا إزاء ثلاثة عوالم على الأقل:عالم الطب (البالطو ورسم الجهاز الهضمي وربما النظارة) وعالم المقهى أو النادي (الشطرنج والشاي) وعالم المغارة أو الكهف (نسيج العنكبوت). تتحدد هذه العوالم من خلال المعاني القريبة والبعيدة للدوال ومن خلال ارتباط تلك الدوال بسياقات محددة. عندما نرى قدمي أحد الرجلين/ الطبيبين فإننا لا نتوقف عند حقيقتهما المادية بل نستدعي من خلالهما معاني الاسترخاء والتخفف من الرسميات. بنفس الطريقة يستدعي نسيج العنكبوت الأماكن المهجورة. لو كانت خلفية مباراة الشطرنج التي نشهدها مقهى أو نادياً أو حتى حجرة صالون, ما وقعت المفارقة.
ويسهم التناص والاقتباس في تجلية هذه المفارقة, فرسم الجهاز الهضمي يرتبط بحصص العلوم وبالدروس الطبية إضافة إلى العيادات والمراكز الصحية. أما نسيج العنكبوت فيرد من عالم المغارات والكهوف ويرتبط دلالياً بالضعف والهشاشة والتقادم. والنص الكاريكاتيري في مجمله في علاقة تناص مع سائر النصوص التي تنتمي إلى هذا الجنس الخطابي من حيث اشتماله على رسم كاريكاتيري واستناده إلى التداخل بين عالمين وما يرتبط بهما من دوال وعلامات. من هذا التداخل تنتج الفكاهة والسخرية وعليه يتأسس النقد الذي يوجهه النص إلى من تركوا مصالح الناس وتفرغوا للتسلية. ليس في النص أية علامات تشير إلى الزمن, ومن هنا تتحقق للكاريكاتير شموليته وعموميته, كما أن الزي الطبي لا يرتبط بقومية أو جنسية معينة, على معنى أن النقد موجه إلى كل من يترك عمله إلى اللهو في غير مكانه وزمانه. هكذا ينتج النص البصري دلالته دون الحاجة إلى كثير من الكلمات أو الحوارات.

هذا نص كاريكاتيري آخر يجمع بين اللغة و الرسم الكاريكاتيري نجده في العدد 185 من مجلة الصدى, أكتوبر 2002م، ص44. يرتكز النص على الرسم الكاريكاتيري لتحقيق أهداف الفكاهة والسخرية والنقد، فلا نجد من الألفاظ إلا كلمة "كاريكاتير" التي تحدد كما أشرنا من قبل جنس الخطاب وتوقيع مؤلف النص ثم كلمة "ماما" بخط كبير في بالونة الحوار التي نجدها في كثير من النصوص الكاريكاتيرية.

أما العناصر البصرية في النص فتشمل الإطار الذي يفصل النص عن بياض وفراغ الصفحة ثم الطفلة والأم. ليس هناك تباين كبير من حيث الطول بين الطفلة والأم, لكن "اللهاية" التي نراها على صدر الأولى وثوبها المزركش وعينيها الضيقتين والسنتين اللتين لا يظهر سواهما في فمها, كلها توضح فارقاً عمرياً بين الشخصيتين في النص. صورة الأم فيها "فانتازيا" طريفة تنتج عن عدم التناسق بين مكونات العلامة البصرية: قدمان فجسم بشري أنثوي, أرداف وثديان, وذراعان ثم جهاز تليفزيون يحل محل الرقبة والرأس. نحن إذن إزاء أم "متلفزة" أو تليفزيون "مؤنسن" مؤنث. وطالما أننا نتحدث عن نحو بصري أو أجرومية بصرية نستطيع أن نقول إننا إزاء تركيب بصري شاذ يحل فيه تليفزيون محل رأس بشرية وتتضخم الطفلة لتقارب حجم أمها. ومن خلال هذا الشذوذ تتحقق الاستعارة في حالة الأم والتشخيص في حالة التليفزيون.
ولو مارسنا عملية إعادة اختيار ودمج لرد التركيب إلى طبيعته وجدنا أن جسد الأم يحل محل التلفزيون. هذا منطق. منطق آخر يتمثل في رد الرأس المغيبة إلى الأم. لكن النص من خلال الشذوذ والتحول العلاماتي ينتج منطقه الخاص: لقد تحولت الأم إلى تليفزيون أو تحول التلفزيون إلى أم.
ظروف الزمان والمكان في النص مغيبة سعياً إلى التعميم فليس هناك ما يحيلنا إلى سياق تاريخي أو اجتماعي محدد. غير أن تفاصيل جسد الأم، بل تضاريسه, تقول إنها ربة بيت عربية. وكذلك الثوب الذي ترتديه. وليس هناك ما يعكر صفو العلاقة الأسرية, فالطفلة تقول باسمة "ماما" دون تعجب أو استفهام والأم تُقبل على طفلتها تفرد ذراعيها استعداداً لاحتضانها.
فماذا عن العلاقة بين اللغة والواقع؟ العلامة اللغوية "ماما" تشير إلى كائن بشري مؤنث ولد ولو مرة واحدة على الأقل. يكمن جزء من الفكاهة في النص في أن العلامة البصرية للأم تشذ عن توقعات القارئ والسامع المرتبطة بكلمة "ماما" ويكمن الشذوذ في رأسها الذي "تتلفز"- أو التلفاز التي "تأنسن". ومن الشذوذ تنتج الاستعارة في حالة الأم والتشخيص في حالة التليفزيون,
من خلال المعطيات السابقة نجد أنفسنا إزاء تفسيرين للنص كلاهما يكمل الآخر. الأول هو أن التلفزيون قد أصبح يمثل حضوراً طاغياً في حياتنا اليومية والأسرية بحيث يحل محل الأم في ممارسة عملية التنشئة الاجتماعية. أطفالنا يقضون جل أوقاتهم أمام التليفزيون يرددون أغنياته ويحفظون إعلاناته وينتظرون أفلامه ومسلسلاته فيستقون جل معارفهم وسلوكياتهم ومهاراتهم وخبراتهم من تلك التي يتيحها لهم هذا الجهاز السحري العجيب. التفسير الثاني هو أن الأم نفسها من فرط إقبالها على التلفزيون قد أصبحت جزءاً منه أو أصبح هو جزءاً منها, ترتب أعمالها حسب برامجه وتضبط ساعتها على مسلسلاته وأفلامه وتستقي خبراتها ومعارفها ومهاراتها وسلوكياتها مما يتيحه لها ومن ثم تنقلها إلى الأطفال. التفسير الأول أقرب إلى الواقع العربي الراهن. وفي كلتا الحالتين يمارس الكاريكاتير وظيفته التربوية الاجتماعية المهمة من نقد الحضور الطاغي للإعلام وخصوصاً التليفزيون في حياتنا الأسرية ومن تخلي الآباء والأمهات عن دورهم في التنشئة الاجتماعية.
هل يحتاج هذا النص إلى تراكيب لغوية لتحقيق بلاغته؟ إن البلاغة في أحد معانيها هي البلوغ أو التبليغ والوصول. فهل يحتاج النص إلى كلام حتى تصل رسالته إلى الملتقى؟ أظنها وصلت من خلال النص على صورته الراهنة وربما كان النص هكذا أكثر بلاغةً من نصٍ موازٍ يستخدم اللغة التقليدية. أظن كذلك أن النص يحقق غاية أخرى وهي أنه يدعونا إلى أن نعيد النظر في تصنيفنا للأجناس الخطابية وفي تقديرنا "الأكاديمي" لنصوص الفكاهة والسخرية المعاصرة وفي مقدمتها الكاريكاتير.
ومن صحيفة الوطن 18 ربيع أول 1424هـ/ 19 مايو 2003م يرد النص التالي. سـوف نلاحــظ الفـرق بين مظـهر الرجـلين والفـرق بين ملبسيهما والفرق بين اللحيتين والفرق بين حـركات اليدين في الحالتين وانفتاح الفمين ودرجة الصوتين. حتى الحذاء في الحالتين له دلالة. وسوف نلاحظ ما في بالونة الحوار في الحالين:

في الأولى كلام وفي الثانية كلام وانفعال و "كوكتيل" من آلات القتل والتدمير. وسوف نخرج من كل ذلك ببعض معنى النص:
حوار بين الحياة و الموت، بين العقل والانفعال، بين البداوة بمعناها السلبي وبين التحضر، بين الاعتدال والاتزان والتطرف، بين السلام والإرهاب. ولكننا سوف نقف على فضيلة واحدة في بالونة اللغة والمتفجرات والأسلحة وهي ما تريد هذه الدراسة أن تؤكد عليه. ليست الكلمات فقط هي التي تعبر وتدل وتشير. الملابس تعنى وتدل وكذا تعبيرات الوجه والمظهر العام ودرجة الصوت وحركات اليدين وتوظيف الحيز الشخصى.

صورة: الحياة تواجه الموت
من نفس العدد ونفس الصفحة التي يرد فيها كاريكاتير المركز الصحي في الجزيرة يطالعنا نصٌ بصريّّ آخر لكن هذه المرة من جنس مغاير وهو جنس الصور الفوتوغرافية. من اللافت للنظر أن هذا النص لا يأتي تعليقاً على خبرٍ أو مصاحباً لمقالة أو تحقيق، بل يأتي مستقلاً معزولاً عن بقية أجزاء الصفحة بإطار مزدوج, فيما يشي بأن الصورة تستطيع أن تكون نصاً محبوكا مسبوكا ينتج دلالة دون الحاجة إلى نص لغوي موازٍ.
ولابد أننا لاحظنا على الفور بعض الفروق الجوهرية بين هذه الصورة وبين الكاريكاتير الذي تناوله الجزء السابق من هذه الدراسة. أول هذه الفروق يرتبط بتمثيل الواقع. فالكاريكاتير في مكوناته البصرية يعتمد على المبالغة والتشويه في سبيل إنتاج أنماط بشرية لا شخصيات محددة. أمّا الصورة الفوتوغرافية فهي تلتقط أشخاصاً يمكن أن يتحولوا من خلال النص إلى أنماط بشرية. لا ينبغي أن يفهم من هذا أن الصورة ليس وراءها منتج أو أنها مفرغة من القصدية, بل التحيز أحياناً. وراء الكاميرا إنسان يوجهها ويختار أولاً الأشخاص والأشياء التي تلتقطها ثم الزاوية والمسافة والتركيز ودرجة اللون فيما بعد. اختارت الكاميرا في هذا النص فتاة ترتدي زياً شبابياً: بنطال وبلوزة وايشارب وعلى ذراعها الأيسر حقيبة يد بينما تتدلى يدها اليمنى وتتقدم رجلها اليمنى خطوة في مواجهة جندي يشهر بندقيته ويحمل ذخيرة على ظهره مصوبا البندقية إلى صدر الفتاة وتفصل بين فوهة البندقية وصدر الفتاة مسافة قصيرة والخلفية مقدمة سيارة. كان من الممكن أن تتقدم السيارة الصورة ويصبح الجندي والفتاة خلفيتها وكان من الممكن أن تلتقط الكاميرا ظهر الجندي في مقابل وجه الفتاة أو العكس. احتمالات كثيرة كان من الممكن أن تتحقق في الصورة, لكن هذا ما اختاره منتج النص/ المصور لتحقيق غايات معينة وإنتاج دلالات معينة. ويبدو أن الصورة قد مرت بمراحل متعددة أولها قيام المصور بالتقاط هذا المشهد ثم نقل الصورة عبر وكالة أنباء رويترز ثم إعادة إنتاجها في الجزيرة مع تدخل المحرر الفني من خلال تعليق مراوغ عليها هو "بلا تعليق". هذه العبارة تحل محل النص اللغوي الذي يصاحب الصورة ويعرّف بها وهو ما يسمى caption أو cut-line. أمّا لماذا نصفه بالمراوغ فلأنه في ذاته تعليق بليغ على قدرة الصورة على إنتاج دلالاتها وتوصيل رسالتها دون اللجوء إلى مفردات أو جمل. في الواقع لا تستطيع الكلمات أن تنقل نفس الرسالة أو تنتج نفس الدلالات في نفس الحيز. "صورة واحدة تعدل ألف كلمة" – هكذا قررت الحكمة الصينية الشهيرة.
الصراع في هذا النص البصري البليغ صراع بين الحياة والموت، ذلك الصراع الأبدي بين النهار والليل، بين الحب والكراهية، بين التعمير والتدمير، بين الأمل واليأس، صراع يتجدد في كل مكان وزمان بل يتجدد في النفس الواحدة. تتمثل الحياة في الفتاة ذات الوجه المشرق الهادئ وهي تخرج من بناية تظهر في خلفية الصورة فيواجهها جندي مسلح. الخروج والحركة - لاحظ رجل الفتاة اليمنى - ضد السكون والصمت. ومن المبهج أن الفتاة على درجة لافتة من الاعتدال - لباس بين الخفاء والتبرج ووجه بين التجهم والابتسامة وعينان بين الخوف والتبجح. وفي رمزية رائعة نرى جسد الفتاة كله مغطى ماعدا الوجه والكفين في دلالة على صعوبة الاختراق. حركة الذراع اليسرى تؤكد معنى الصد واعتدال الجسد يؤكد الثبات وعدم الخوف. ملامح الوجه في مجملها تحمل معنى السخرية من هذا الذي يحمل الرشاش والذخيرة والخوذة ويتخفى وراء زي عسكري في مواجهة فتاة لا تحمل إلا حقيبة يدها. (ليس هناك ما يشير إلى الزمان أو المكان، لكن خبرات القارئ ومعارفه سوف تحيله على الفور إلى الصراع العربي الإسرائيلي.)
لقد ركز كثيرون في تحليلهم للنصوص غير اللغوية على العلاقات الرأسية والأفقية أو علاقات الاختيار والدمج أو التركيب بين عناصر تلك النصوص. هنا يكمن جزء مهم من بلاغة الصورة. لو تخيلنا أن بمواجهة الفتاة شاب في مثل عمرها ينتظرها ليسيرا أو يركبا معاً إلى الجامعة أو العمل, هل يبقى النص كما هو الآن، ولو أننا وضعنا في مكان الفتاة جندياً مسلحاً أو ناشطاً أو حتى رجلاً مفتول العضلات, هل يحتفظ النص بنفس القدر من البلاغة الذي نجده فيه على حالته الراهنة, الإجابة في الحالتين بالنفى على سبيل القطع لا التخمين. ربما يقال إن منتج النص (المصور/ المحرر) لم يبدع شيئاً من بنات أفكاره. هذا خطأ فادح يجرد الصورة من بلاغتها. لقد اختار المصور المكان والزمان والأشخاص والزاوية والخلفية والمسافة واختار تحرير الجريدة والقائمون على تصميمها وإخراجها هذه الصورة بالذات لتظهر على الصفحة الأخيرة نصاً قائماً بذاته, دالاً معبراً بليغاً دون دعمٍ أو مساندة من اللغة التقليدية. لهذا النص مؤلفٌ مبدع وما كان له أن يأتي محض صدفة.
ليس هذا كل ما يمكن أن يقال عن هذا النص البصري, ففيه نفس مفهوم التداخل بين عوالم مختلفة - الجندي في الشارع في مواجهة فتاة غير مسلحة بجوار سيارة غير حربية - وفيه توظيف للكناية - الزي العسكري والسلاح كناية عن الحرب - وفيه توفيق كبير في اختيار لحظة مشرقة - وجه الفتاة وخلفية الصورة, فيما يبتعد بالمواجهة عن لقاء الذكر بالأنثى في ظروف مغايرة. لقاء الذكر بالأنثى في ظروف أخرى غير هذه يؤدي إلى استمرارية الحياة وتجددها, أما هنا فهو يؤدي إلى نهايتها أو على الأقل توقفها. دم الفتاة واحد لكنه هنا يتعرض للإراقة , بينما يتفجر في لحظة أخري بالحياة. على كل حال, ورغم الجندي المتحفز والسيارة المتوقفة؛ تحتفظ الصورة بقدر من الأمل يتمثل في رمزية حركة الفتاة وثبات ملامحها وانغلاقها في وجه التهديد.

خاتمة
أما بعد، فهذه بدايات أخرى أضيفها إلى ما شرفت بنشره في أفق من قبل عن أجناس خطابية معاصرة. لعلها تتجمع البدايات في جهد أكبر وأشمل عن بلاغة عربية جديدة، بلاغة تسهم في مقاومة الأفول الكبير والتهميش السافر لكنها لا تنطلق من كراهية للآخر أو تحيز لنوع من العلامات على حساب غيره.

أفق الثقافية

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية