للاطلاع على محتويات الإعلان أنقر هنا  
صحيفة دولية تهتم باللغة العربية في جميع القارّات
تصدر برعاية المجلس الدولي للغة العربية

  المؤتمر الدولي التاسع للغة العربية           موقع الجمعية الدولية لأقسام العربية           الموقع الجديد الخاص بالمؤتمر الدولي للغة العربية           الباحث العربي: قاموس عربي عربي           راسلنا         
الصفحة السابقة الصفحة الرئيسة

الكناية وأثرها في مدح الهذليين - 1

د. أيمن البيلي محمد البيلي

 من الملاحظ عند دراسة شعر الهذليين شدة انتماء الشعراء إلى تلك القبيلة العريقة, ما جعل جُلَّ شعرهم لا يخضع لغيرهم, والشاعر الهذلي في العصر الجاهلي (( لم يكن شاعر بلاط, لم يكن كالنابغة ولا كالأعشى, ولا كحسان, ولا كأي شاعر اعتاد أن يطرق أبواب المناذرة والغساسنة, وإنما كان شاعرًا معتزًا بذاته , عندما تكون (أنا) فقط أو عندما تكون  أنا وقبيلتي )) (1)، وهذا نابع إلى حدٍ كبير من رفض الشاعر الهذلي إلى التبعيـــــة لغير القبيلة , فانصرف أغلب الشعر إلى القبيلة , لا سيمــــــا في العصر الجاهلي , وأما في الإسلام (( فنجد أمية بن أبي عائذ وأبا صخر ينقطعان إلى بني أمية ويمدحانهم )) (2)، كما نجد بعض شعراء هذيل يمدحون زعماء القبائل وأسيادهم،مثلما فعل مالك بن خالد الخناعي حينما مدح سيد بني لحيان زهير بن الأغر بقوله (3):

فَتىً مَا ابنُ الأَغَرِّ إِذا شَتَوْنا وحُبَّ الزادُ فِي شَهْرَيْ قُمَاحِ (4)
أقَبُّ الكَشْحِ خَفَّاقٌ حَشَاه يُضِيءْ الَّلْيل كالقَمَر اللِّيَــــاحِ (5)
وصَبَّــــــــــــاحٌ ومَنْاحٌ ومُعْـــــــطٍ إِذا عادَ المَسَــــارِحُ كالسِّبـاحِ (6)

وجـــــــــــــــــزَّالٌ لمــولاه إذا ما أتـــــاه عائلاً قَـــــــــــــرِعَ المُرَاحِ (7)
يقــول الدكتور أحمد كمال زكــــــي معلقا على هذه الأبيـــــات (( ثم ليس شـــــــيء بعد ذلك مع أن زهيرا كان سيدا في قومه ، أو كان من حقـــــه على الشاعر أن يطيل في مدحه كما يفعل الشعراء عادة في هذا المجال ، ولكن الشــــــاعر اكتفى فوصفه بالكرم والنجدة ، والتفت إلى خلقته في بيتٍ فقال عنه :إنه قليل اللحم صبوح الوجه يضيئ كالقمر )) (8).
يمدح مالك الخناعي زهيرا ، فيصور الحال التي يظهر فيها هذا الممدوح مميزا بين أقرانه ، وهي حالة البرد الشديد في شهري كانون والتي يطلب فيها الناس الطعام حتى الإبل لا تطلب الشراب بل تطلب الطعام ( وحبُّ الزاد في شهري قماح) ، فيظهر زهير اللحياني وسط هذه الحال الشديدة ضامر البطن قليل اللحم ( أقب الكشح خفاق حشاه ) ، وبالرغم من هذا الضعف في البدن نجد زهيرا عليه علامات الرضا والقبول فوجهه مضيء كنور القمر في الليل ( يضيء الليل كالقمر اللياح ) ، وإذا صارت مراعي الإبل جرداء قاحلة تشبه الجلود التي تجعل للصبيان ( إذا عاد المسارح كالسِّباح )  نجد زهيرا كريما جوادا ذا وجه صبوح ( صباح ومناح ومعط ) ، ونجده يقطع من ماله لمولاه ( جزَّال لمولاه ) إذا أتاه فقير اليد ليس له إبل ولا غنم في مراحه ( إذا ما أتاه عائلا قرع المراح ) . 
فالشاعر أراد أن يجعل السامع مشاركا له في الشغف بهذ الممدوح الذي رسم من أجله صورة كلية تدور حول معاني السخاء والكرم والإيثار التي يمتاز بها هذا الممدوح  ، ويظهر لنا أن الشاعر معجب بممدوحه ( زهير بن الأغر) أيما إعجاب, فهو سيد بني لحيان, والأسياد لابد أن يكونوا على قدر من الخِلال التي تميزهم عن غيرهم , وقد 
وجد شاعرنا طريقه إلى إثبات تلك الخلال بأسلوب الشرط الذي جاء في مقدمة الصورة الكلية ( إذا شتونا وحب الزاد في شهري قماح ) , وقد آثر أداة الشرط (إذا) 
عن غيرها؛ لما تفيده من تحقق وقوع الشرط , ومع أن شاعرنا قدم الجواب على جملة الشرط ، إلا أن ذلك يكون لغرض إثبات أهمية الجواب على الشرط, أو ما يخص الممدوح في الإثبات لا ما يخصه في جملة الشرط , فيكون ذلك أقوى في إلصاق ما وصف الشاعر به هذا الممدوح, فالبيت الأول والثاني: اعتمد فيهما الشاعر على الشرط كوسيلة للوصول إلى المضمون, وهو الدلالة على فضل هذا الممدوح في الشتاء في الوقت الذي لا تشرب فيه الإبل وتكون ضامرة , وقد خص شاعرنا وقت الحاجة بقوله: (شهري قِماح)؛ ليكون المعنى المراد أشد وضوحًا, ثم يأتي جواب الشرط خادما للصورة الكلية في قوله (أقب الكشح ) ليكني عن قلة طعام ممدوحه إيثارا لمن حوله ، والتعبير الكنائي هنا غاية في التحديد والتفصيل ، فتصوير الممدوح على أنه ضامر جوانب البطن وضعيف البنية يستلزم منه أن الممدوح غير مقبل على الطعام مؤثرا غيره من المحتاجين عليه ، وقد عبر الشاعر بالملزوم وهو ضمور الجوانب وأراد اللازم وهو قلة الطعام ، والعلاقة بين ضمور الجوانب وقلة الطعام علاقة تبعية أو تلازمية ، ويظهر الأثر البلاغي للكناية في  اعتمادها على تصوير المعنى المكني عنه في صورة مشاهدة مرئية وهي صورة الممدوح وقد ضمرت بطنه وضعفت بنيته ، ويكون ذلك أشد أثــــــــرا من التعبير الصريح على الســـــامع ، وتستتبع تلك الكناية كناية أخـــــــرى في قول الشاعــــــــر ( خفاق حشاه ) وكلمة خفاق تستعمــــل في الضمور ، فالتعبير كناية أخرى عن قلة الطعام ، وقد عبر الشاعر بالملزوم وهو ضمور الحشا أي البطن ، وأراد اللازم وهو قلة الطعام ، وعطف الكناية هنا على سابقتها يؤكد ويقوي مدى الزهد والإيثار لدى الممدوح   ، كما يظهر الأثر البلاغي لهذا التعبير في تحويل السامع من حال الاستماع إلى المقصود إلى رؤيته وتحسسه ، فيكون هو الحاكم على سبب ضمور البطن ، ثم يكمل الشاعر تلك الصور الجزئية بصورة جزئية 
أخرى ،فيأتي بالتشبيه بعد ذلك ويساعد الكناية في النهوض بالصورة الكلية في قول الشاعـــــــــــر ( يضيء الليل كالقمر الليَّاح ) ، حيث شبــــه المدوح في خدمته للناس بالقمر الذي يضئ ليلا ساهرا على خدمـــــــــــة الحيارى والتائهين ، ووجه الشبه هو النور والإضاءة ، وهو تصوير مناسب في ظل مدح شاعرنا بسمات وخلل رجولية يتصف بها الرجال ، وفائدة هذا التشبيه بعد الكناية هو الإيحاء إلى السامع بأن الممدوح بالرغم من قلة طعامه وزهده إلا أنه راضي النفس بشوش الوجه ، فيكون التشبيه مؤكدا لمعنى الكناية غير منفصل عنها ، ويعتمد شاعرنا على الشرط مرة أخرى في البيت الثالث ليؤكد على معانٍ متقاربة في اجتماعها على الممدوح:
وصَبَّاحٌ ومَنَّـــــــــــــاحٌ ومُعْطٍ إِذا عـــــــادَ المَسَارِحُ كالسِّباحِ
فالبيت فيه تشبيه لمسارح الإبل التي ترعى فيها بالجلود التي يرتديها الصبيان ، والكرم الشديد واضح في صيغ المبالغة (صبَّاح ومنَّاح) , لأن التعبير بها فيه دلالة على اتصاف الممدوح بتلك الصفات وملازمتها له وليست طارئة عليه ، كما أن التعبير باسم الفاعل (معطٍ), وجملة (إذا عاد المسارح كالسباح) توضح مدى الفاقة التي تلم بالمسارح في خلوها من المرعى, فتتحول إلى جُرُدٍ لا نبات فيها, لأن كلمة ( السباح ) تعني قمص من جلود تكون للصبيان ، وشاعرنا يشبه مسارح الإبل التي ترعى فيها حال القحط والشدة بتلك القمص ، ووجه الشبه هو الخلو التام من اللون الأخضر، وبلاغة التصوير هنا تأتي من حسن اختيار صورة المشبه به ، بما يتناسب مع الحالة التي يريد الشاعر تصويرها ، فإننا لم نر جدبا لمرعى الإبل إلا من خلال التصوير بالثياب المصنوع من الجلد ، وقد حدد الشاعر الشرط هنا بما يتلاءم مع عِظَم الحاجة إلى مِنَح الشاعر وعطاياه, فعِظم المصيبة تمنح  الممدوح عِظمَاً في صفاته عند  الحاجة إليه ، وقول الشاعر ( إذا عاد المسارح كالسباح ) كناية عن الجدب والقحط ، وقد اعتمدت الكناية هنا على التشبيه مما يعزز من الأثر البلاغي لها في النفوس والأسماع وكأن كلا من جدب وقحط مراعي الإبل  يراهما السامع ويستشعر مدى جود وسخاء الممدوح فيهما .
وأصل البيت إذا عاد المسارح كالسباح, فهو صبَّاح ومناح ومعطٍ, وتقديم الجواب تأكيدٌ له وإظهارٌ لأهميته , وذكر اسم الفاعل (معطٍ) على خلاف صيغ المبالغة (صبّاح ومنّاح) دون استعمال (معطاء) ؛ لأن منّاح أغنت عن المراد, إذ هي لزوم العطية للممدوح, فكأن معطٍ زائدة لا تضيف إلا معنىً مكرراً, أو ربما قصد الشاعر المعنيين معًا (المنح الدائم والمستمر), والعطاء الطبعي المعروف.
 وفي البيت الأخير يصف الشاعر العائل الفقير بقوله (قَرع المُرَاح) ؛ إشارة إلى فقر اليد من الإبل والغنم , وقد أسند شاعرنا هذا الفقر إلى مولى ممدوحه, ليثبت مروءة هذا الممدوح حتى مع مواليه؛ فقال (جزَّال لمولاه) بصيغة المبالغة, ليكون العطاء والجزل دائم من الممدوح بدوام الفقر والفاقة من جهة المولى.
ويبدو من الأبيات سهولة عباراتها, ودقة ألفاظها, واكتمال صورتها الكلية بصورها الجزئية مما أبرز المعاني في صورها المؤثرة ، وخاصة تفاعل الكنايات بعضها مع بعض كما رأينا في ( أقب الكشح خفاق حشاه ) ، وتفاعل الكناية مع التشبيه كما رأينا في ( إذا عاد المسارح كالسباح ) ، كما كان لأسلوب الشرط أثره في اكتمال المعنى العام  ، لأن الشرط بطبيعته جاذب للانتباه, وقد وفق الشاعر في لفت هذا الانتباه بتقديم الجواب, وقد اختار الشاعر في المدح صفات لا تختفي عند العرب من مروءة وكرم وحسن خلق وغير ذلك, فإن قلنا إن شاعرنا لم يأت بجديد من قبيل المدح جانبنا الصواب, لكن تجديده أتى في الاستعمال لا في دلالاته , فجملة (إذا عاد المسارح كالسباح): كنى بها عن شدة الفاقة لمرعى الإبل والغنم, وذلك عن طريق التشبيه الذي أوضحناه سلفا, وهي جملة تألفها الآذان, ولكن لم تمجها, بل هي عبارة بدوية خالصة, يتشارك معها في الفصاحة قوله (قرع المراح) والتي ناسبت الطبيعة التي عاش فيها الشاعر؛ فإنه ابنها ونتاجها, والتصوير هنا مع الكنايات قد مكنا الشاعر من الإفاضة كيفما يشاء بمشاعره نحو ممدوحه, وساعدت كل منهما على ظهور  الفكرة والوقوف بجانبها, ولا نغفل هنا دور أسلوب الشرط كمحور مهم في التركيز على المعنى, وقد أكده شاعرنا بالاستعانة بالجمل الاسمية كأساس لجواب الشرط ولم يستعن بالجملة الفعلية ؛ رغبة في دعم هذا التركيز للمعنى وتثبيته وترسيخه.
كما نجد في مدح الهذليين وفاءهم للإخوان والأصدقاء ، فيمدحونهم بعبارات وتراكيب تنم عن شجاعة ومروءة هؤلاء الأصدقاء ، كمديح أبي ذؤيب لصاحبه في غزو أفريقية  عبد الله بن الزبير، وقد ذُكِر أن أبا ذؤيب دلاَّه في قبره وقال عنه (9):
فَصَاحِبَ صِدْقٍ كَسِيدِ الضَّرَّا
وَشِيكَ الْفُضُــــــــولِ بَعِيَدَ الْقُفُـو
يَرِيـــــــــــــــعُ الْغُزَاةُ ومَــــــــــــا إِنْ يَـزَا
كَسَيْفِ المـرادِيِّ لَا ناكِـــــــــلًا
قَدْ أبْقَـــــى لَكِ الْغَـــــزوُ مِـــــــنْ جِسْمِـــهِ ءِ يَنْهَضُ فِي الْغَزْوِ نَهْضًا نَجِيحَا (10)
لِ إِلَّا مُشَاحــــــــــــــاً بِــهِ أَوْ مُشِيحَا (11)
لُ مَضْطَمِـــــــــــــــرًا طُرَّتَاهُ طَلِيحَــــــــا (12)
جَبــــــــــــاناً، وَلَا جيْدَرِيّاً قَبيحـــــــــــــــا(13)
نَوَاشِــــــرَ سِيــــدٍ وَوَجْهًــــــــا صَبِيحَــــا (14)
فالأبيات قد قدَّم لها شاعرنا بمقدمة غزلية طويلة جاء في مطلعها :
أمِن أمِّ سُفيـان طيفٌ سَرى ... إلىَّ فهيــَّج قلبــاً قريحاً
عصــاني الفـؤادُ فأسْلمتُه ... ولم أكُ مِمَّا عنَــاه ضَرِيحا 
ليدخل الشاعر من خلال تلك المقدمة الغزلية إلى غرضه الرئيس وهو مدح عبد الله ابن الزبير ، فيخاطب محبوبته في البيت الأول قائلا لها كما يقول السكري (( فإن أردت أن تستبدلي ، فمثل هذا الصاحب فاستبدلي ، أي صاحب صدق )) (15) ، وهذا الصاحب يشبه الذئب الذي يتوارى بين الشجر ( كسيد الضراء ) ، (( وأخبث ما يكون من الذئاب سيد الضراء )) (16). ، فإن هذا الصاحب يظفر في الحرب ظفرا سريعا ( ينهض في الغزو نهضا نجيحا ) ، وهذا هو أول وصف للمدوح ، يستتبعه الشاعر بصفات أخرى ذكر منها أن عبد الله بن الزبير سريع الفضل على أهله لحسن خلقه ( سريع الفضول ) ، وليس جبانا في الحرب فلا يتراجع عن مكانه ( بعيد القفول) ، ولا يرجع حتى ينتقم أو يغنم ( مشاحا به أو مشيحا ) ، كما أنه لا يرجع من الغزو بل يسرع الغزاة الانصراف ألى أهليهم وهو مقيم في الغزو (يريع الغزاة) ، فهو ليس بضخم بل ضامر البنية كالذي به إعياء (مضطمرا طرتاه طليحا ) ، يشبه السيف اليماني في مضائه ( كسيف المرادي ) ليس بجبان ولا قصير قبيح ( لا ناكلا جبانا ولا جيدريا قبيحا ) ، ثم يخاطب الشاعر أم سفيان قائلا لها : قد بقى من جسم عبد الله بن الزبير مثل ذراعي ذئب فهو شديد البطش قوي اليد ( نواشر سيد ) ووجها مضيئا لم يغيره السفر (ووجها صبيحا ) .
أراد أبو ذؤيب أن يصف ممدوحه بصفات المحارب العظيم  ، فاستعان بصورة كلية تدور حول معاني الفتوة والشجاعة والجرأة وطول اليد ، وقد اكتملت تلك الصورة الكلية ببعض الصور الجزئية كالتشبيه والكناية ، حيث يأتي بالتشبيه في البيت الأول في قوله :
فَصَاحِبَ صِدْقٍ كَسِيدِ الضَّرَّا ءِ يَنْهَضُ فِي الْغَزْوِ نَهْضًا نَجِيحَا 
حيث شبه سرعة ممدوحه في الغزو والظفر بالذئب المختبيء بالشجر يتربص بفريسته ,ووجه الشبه هو الظفر مع الحرص الشديد ، وما يلزم من هذا الاختباء مع الحرص الشديد هو احتراف الإيقاع بالخصم ، وهذا هو معنى المعنى الذي قصده الشاعر لكنه استعان بالتشبيه مع التفصيل فيه لأنه أبلغ وأدق في تصوير المراد ، فالكنايه هنا 
عن صفة الاحتراف أو الخديعة في الإيقاع بالخصم ،وهي صفة أدت الغرض منها، ولا يلزم من ذلك أن يكون الممدوح قد خاض حربا حقيقية حتى يصفه الشاعر بذلك ، لكن ذلك تصوير تقريبي لمدى ممارسة هذا الممدوح للحرب لأن الذئب كما يمتاز بالتربص فإنه يمتاز بالسرعة ، والتشبيه هنا يشير إلى حب الممدوح للغزو ، لأن الإسراع في الغزو دليل الإيمان والحب , وقوله (نهضًا نجيحًا) كناية صفة وهي الظفر السريع , وربما تكون الكناية عن النصر العاجل الناتج عن خطة محكمة وعقلية حربية مدربة , وتلك الكناية تساعد سابقتها في النهوض بالصورة الكلية ، فملزوم التعبير هو النهوض السريع ، واللازم هو الانتصار السريع في الحرب .
ويظهر الأثر البلاغي لقوله ( نهضا نجيحا ) في وصف النهوض بأنه وشيك ، وكأن نهوض الممدوح في كل غزوة يكون بشرى لاقتراب النصر على الأعداء والظفر بهم  فضلا عن تصوير الظفر السريع بالنهوض الوشيك وكأن السامع يرى الانتصار بعينه عبر النهوض الوشيك للممدوح .وفي طريق اكتمال الصورة الكلية يصف الشاعر ممدوحه بقوله (وشيك الفضول) بمعنى سرعة الإفضال على الأهل, وهو معنى لا يريده الشاعر بل يريد معنى المعنى وهو بر الممدوح بأهله ، وقد عبر الشاعر بالملزوم وهو الإفضال على الأهل وأراد لازم ذلك وهو البر بالأقارب , وهو صفة عبر عنها بدليلها ، والكناية هنا واضحة, حيث انتقلنا إلى المطلوب دون واسطة؛ إذ المعنى واضح قريب, وكذلك قوله (بعيد القفول): يعني الإبطاء في الرجوع حالة الغزو , ليكني الشاعر بهذا التعبير عن الجرأة في الحرب ، فإن من لوازم الجرأة في الحرب عدم تراجع المحارب عن مكانه ،وما يقوي تلك الكناية قوله ( إلا مشاحا به أو مشيحا ) أي أن عبد الله بن الزبير لا يعود من الحرب إلا منتقما أو غانما ، وهذا دليل على جرأته . 
ثم ينتقل بنا الشاعر إلى وصف ممدوحه داخل المعارك, حيث لا مفر من تفصيل ذلك بعد ما بيَّن بعض مآثر الشاعر بين أهله وعشيرته ، وصبغها بصبغة الغزاة والفاتحين 
فقال:
يَرِيعُ الْغُزَاةُ ومَـــــــــا إِنْ يَزَا لُ مَضْطَمِــــــــــــرًا طُرَّتَاهُ طَلِيحَا
كَسَيْفِ المـرادِيِّ لَا ناكِـــــــــلًا جَبــــــــــــاناً، وَلَا جيْدَرِيّاً قَبيحـــــا
يقول السكري في شرح قوله ( يريع الغزاة ) : (( يسرع الغزاة الانصراف إلى أهليهم , وهو مقيم في الغزو ، لا يقوون على ما يقوى عليه )) (17) ، ثم يشبه  الشاعر دقة بنيان ابن الزبير بسيف المرادي في مضائه وشدته  ، وقد اعتمد البيتان على صورة التشبيه  فجاء المشبه في البيت الأول ، والمشبه به في البيت الثاني ، وقد تعمد الشاعر وصف ممدوحه بقوله (مضطمرًا طرَّتاهُ)؛ لئلا يُخيل إلى المتلقي مع تلك الصفات الحربية القتالية العالية عِظم البنية , وكأن الشاعر يقول لا تستخفوا بضعيف الجسم فإنه مهابٌ يخشى منه أعداؤه ، فالشاعر لما  أراد تأكيد قوة ممدوحه مع ضعف بنيته اختار تشبيهه بالسيف (كسيف المرادي)؛ ليحدد بعد ذلك المقصود من هذا التشبيه بقوله (لا ناكلًا جبانًا ولا حيدريًّا قبيحًا), أي: قاطعٌ نافذٌ مكتمل الصنع غير ناقص,هذا ما قصده من تشبيه ابن الزبير بالسيف اليمني, وبالرغم من تعجبي من ذكر تلك التفاصيل للسيف إذ يكفيه قوله (كسيف المرادي) لنفهم مقصوده, إلا أن أغلب الظن أن في ذلك التفصيل بيان يخفى علينا بعض الشيء, لكن عندما نحتكم إلى التشريح النصي للبيت بحيث نضع كل عبارة منفصلة عن أختها, ثم نضم تلك العبارات مرة أخرى نجد ما يلي:
1- تعيين السيف وتحديده بقوله (كسيف المرادي): يعني قوة هذا السيف وشدة بطشه مما يعني شدة هذا الممدوح بأعداءه.
2- تقييد قوة الممدوح وبطشه بقوله (لا ناكلًا جبانًا) إشارة إلى جرأة الممدوح وانعدام صفة الخوف فيه .
3- تقييد شكل المدوح بقوله (ولا حيدريَّاً قبيحًا) إشارة إلى خِلقةِ المدوح التي يهابها كل من يراها .  
وقد نهضت تلك الصورة التشبيهية مع الكنايات السابقة في وضع الصورة الكلية للممدوح ، ويلجأ الشاعر في البيت الأخير إلى تشبيه آخر في قوله:
قَدْ أبْقَى لَكِ الْغَزوُ مِنْ جِسْمِهِ نَوَاشِرَ سِيدٍ وَوَجْهًــــــــا صَبِيحَـــــــــا 
فقد أثرت كثرة الغزوات والحروب في جسم ابن الزبير, فلم تبق تلك الغزوات منه إلا (نواشر سيد وجهًا صبوحًا), فقوله (نواشر سيد) فيه تشبيه لعصب يد الممدوح بنواشر الذئب , ووجه الشبه هو قوة العصب في كل ، تقول الدكتورة نورة الشملان :(( أن الجهاد إن كان قد أثر على جسمه فجعله ضامرا هزيلا قد بانت فيه العروق ، فإن وجهه كان مشرقا صبوحا )) (1)، وقوله (نواشر سيد ووجهًا صبوحًا) كناية عن القوة والمنعة , لأن أبو ذؤيب قال قبله ( قد أبقى لكِ الغزو من جسمه ) فعبر الشاعر عن الملزوم وهو قوة العصب والوجه الصبوح  مما يفيد كثرة الدربة في الحرب ، ويلزم من ذلك القوة والمنعة ، وكأن الممدوح قد استبدل نواشره بنواشر الذئاب, وحتى كأنه لم يخرج للتعب أو المشقة ولم يؤثر في وجهه غبار أو رمال, وهذا إظهار لعلو شأن الكناية , وأنسب لمكانهــــا , فاستطاع أبو ذؤيب أن يفصل في القـــــول دون إطــــــالة مملة , لذا يقول الإمام عبد القاهر: ((إذا أتتك الصفة غير مصرح بها مكشوفًا عن وجهها ولكنها أتت بدلالة غيرها, كان ذلك أفخم لشأنها وألطف لمكانها))(18).
ويقول السكري تعليقا على تعبير( نواشر سيد ) : (( ولم يقل الأسد؛ لأن الذئب نواشره ممتدة, وساعدُ الأسد كأنه كُسر ثم جُبر, فليست نواشره ممتدة))(19).
ويبدو هنا تمكن الشاعر من لغته, واستعماله للألفاظ والتصوير, حتى لكأن كل لفظة بها حنين طاغٍ إلى ما قبلها وشوق لهيفٍ إلى ما بعدها ، لتنقل أحاسيس الشاعر وما يتردد في داخله إلى المتلقين عنه ،  فإن (( البيان ملكة يهبها الله تعالى لمن يشاء من
عباده, فيستطيع أن يصدع بحجته في المقام والأحوال التي تقتضي الإبانة والإفصاح من ذلاقة اللسان وقوة القلب ورباطة الجأش والقدرة على التصرف في القول)) (20).
 
 
مصادر البحث
 
(  ) شعر الهذليين في العصرين الجاهلي والإسلامي،أحمد كمال زكي، 164، القاهرة, دار الكتاب العربي للطباعة, 1389هـ .
(2 ) المصدر السابق -64.
(3) شرح أشعار الهذليين-  السكري, أبي سعيد الحسن بن الحسين ،-1/451, 452.تحقيق عبد الستار أحمد فراج ورفيقه مطبعة المدني – القاهرة د.ت 
(4)(شهري قماح): شَهْرا قِماحٍ وقُماحٍ: شهرا الكانون لأَنهما يكره فيهما شرب الماء ، وهما لغتان، وقيل: سمِّيا بذلك لأَن الإِبل فيهما تُقامِحُ عن الماء فلا تشربه (قمح ) اللسان ( حُبَّ الزادُ ) ويروى بفتح الحاء ( حَبَّ ) يقال حبَّ الزاد يحِبُّ إذا أحبوه والزاد هو طعام السفر والحضر جميعاً (زود ) اللسان .
(5)(أقب) الأَقَبُّ الضامر ،وفي الحديثِ:خَيرُ الناسِ القُبِّـيُّون( قبب ) اللسان ، (الكشح) منقطع الأضلاع مما يلي الخاصرة إلى الجنب (خفاق) ضامر لأنه قليل الطعم ( خفق ) اللسان (الليَّاح) الأبيض المتلألئ.
(6)(صبَّاح): يصبح, يسقي الصبوح, ويقال: يغير في الصباح.(منَّاح): يمنح غنمه, وأصل المنيحة: أن يعطي إبلًا أو غنمًا ينتفع بها سنَة ثم يردها, فكثر ذلك حتى صارت العطية منحة.(المسارح): حيث تسرح الإبل ترعى فيها.(السبَّاح): قُمُصٌ من جلودٍ تجعل للصبيان, والواحدة: (سُبْحة)- انظر شرح أشعار الهذليين -1/453-454.
 (7)(جزَّال لمولاه ): يقطع له بعض ماله .(عائل): فقير.(المراح): حيث يريح إبله, ويقال (مِراحٌ منفسح): كثير الإبل, و(مراح أقرع): لا شيء فيه. ينظر المصدر نفسه 1/ 451-452
(8) شعر الهذليين في العصرين الجاهلي والإسلامي،أحمد كمال زكي، 165.
 (9) شرح أشعار الهذليين -1/201 – 203.
(10)(السِّيد): الذئب.(الضَّرَاء): ما واراك من شجر.( نَجِيحاً ) وَشِيكاً ( نجح ) اللسان .
(11)(وشيكِ الفضول): سريع الإفضال على أهله .(مشاحًا): مجادًّا به أي: اختير للقتال.(مشيحًا): مُجِدًّا حاملًا, ويقال: أشاح الرجل إذا جدَّ، وأشاح إذا حاذر غيره لا يرجع حتى ينتقم أو يغنم .
(12) (يُريع الغزاة ) : أي يرجعون ولا يرجع – ينظر المصدر نفسه 1/201- 203(مضطمراً)الضُّمْرُ والضُّمُر، مثلُ العُّسْر والعُسُر: الهُزالُ ولَحاقُ البطنِ  وفي الحديث: إِذا أَبْصَرَ أَحدُكم امرأَةً فَلْيأْت أَهْلَه فإِن ذلك يُضْمِرُ ما في نفسه؛ أَي يُضْعِفه ويُقَلّلُه، من الضُّمور، وهو الهُزال والضعف(ضرر) اللسان  (الطُّرَّة): الكَشْحُ, أي: ضامر الكشح ليس بالضخم.(طليحًا): مُعيبًا.
(13)(المراديّ): مراد قبيلة من اليمن.(ناكلًا): الناكل الجبان.(الجيدري): القصير.
(14)(النواشر): عصبٌ باطن الذراع.ينظر المصدر نفسه 1/201-202
 (15)شرح أشعار الهذليين – 1/202   
(16)المصدر السابق – 1/202
(17)شرح أشعار الهذليين -1/202.
 (17)أبو ذؤيب حياته وشعره – د نورة الشملان – مطبعة جامعة الرياض –المملكة العربية السعودية -  الطبعة الأولى 1400ه- 1980م .-91
(18) دلائل الإعجاز في علم المعاني -عبد القاهر الجرجاني ،-308 بتصرف قليل.
 ت: محمود محمد شاكر أبو فهر ، الناشر: مطبعة المدني بالقاهرة ، دار المدني بجدة ،الطبعةالثالثة 1413هـ - 1992م .
 (19)شرح أشعار الهذليين- 1/203.
 (20) البيان العربي، دراسة في تطور الفكرة البلاغية عند العرب ومنهاجها ومصادرها الكبرى ، د. بدوي طبانة ، 79 .
 

التعليقات
الأخوة والأخوات

نرحب بالتعليقات التي تناقش وتحلل وتضيف إلى المعلومات المطروحة عن الموضوعات التي يتم عرضها في الصحيفة، ولكن الصحيفة تحمل المشاركين كامل المسؤولية عن ما يقدمونه من أفكار وما يعرضون من معلومات أو نقد بناء عن أي موضوع. وكل ما ينشر لا يعبر عن الصحيفة ولا عن المؤسسات التي تتبع لها بأي شكل من الأشكال. ولا تقبل الألفاظ والكلمات التي تتعرض للأشخاص أو تمس بالقيم والأخلاق والآداب العامة.

الاسم
البلد
البريد الالكتروني
الرمز
اعادة كتابة الرمز
التعليق
 
   
جميع الحقوق محفوظة © 2024
المجلس الدولي للغة العربية