د. مصعب قاسم عزاوي
تكفي نظرة سريعة على التقرير الدوري الأخير الذي تصدره منظمة التعاون الاقتصادي والتطوير (OECD)، حول نتائج نظام تقييم الطلاب الدولي (PISA) الذي شارك في دورته الأخيرة طلاب بعمر خمسة عشر عاماً من خمس وستين دولة، الكثير منها من الدول العربية.
وكان عدد المشاركين الكلي قد وصل إلى 540000 طالب، لسبر مستوى الإنجاز العلمي والمعرفي لأولئك الطلاب في العلوم، والرياضيات، ومهارات التفكير المنطقي وحل المشكلات، لالتقاط تراجيديا إخفاق نظم التعليم العربية في تحقيق تقدم يرفعها إلى المستوى المتوسط عالمياً، وينقذها من خزي تربع ثلاثة منها على قائمة الدول الخمس الأكثر ضعفاً في مستوى قدرات طلابها. من دون أن تكون باقي الدول العربية المشاركة بأحسن من تلك الثلاث الأخيرة إلا بالقليل الذي دونه لكانت أيضاً دخلت في سباق السقوط المفجع إلى الحضيض؛ ومن دون أن يكون المستوى الاقتصادي لتلك الدول شفيعاً لأي من قد يحاول تبرير إخفاقها الشنيع بالوضع الاقتصادي المهلهل لتلك الدول، إذ حل الأغنياء والفقراء من تلك الدول في مراتب متقاربة في الإجمال، وفي التفاصيل الدقيقة المكونة له أيضاً.
وفي بريطانيا، التي قد يستقيم توصيف بعض المراقبين لها، بأنّها موئل الرأسمالية الوحشية بأبشع صورها التاريخية، و أكثرها دهاءً وخبثاً في واقعنا المعاصر، أصدرت الحكومة البريطانية مشروعاً باسم «النجاح كمجتمع معرفة» تضمنت في ما تضمنت من مخاتلة، مقترحاً بتخويل عمالقة صناعة التواصل الاجتماعي، وأباطرة وادي السيليكون في كاليفورنيا الأمريكية، بإقامة جامعات خاصة لهم في المملكة المتحدة، مرخصة لإصدار درجات علمية، على الرغم من أنّها شركات ربحية صرفة، في تكوينها، وأهدافها الموضوعية وسلوكياتها التي في حدّها الأدنى لا ترقى لأخلاقيات الجامعات التي تكونت تاريخياً في بريطانيا، بكونها مراكز بحثية وتعليمية في آنٍ معاً، من دون أن يكون الربح المادي هدفاً من أهدافها الموضوعية الظاهرة للعيان. ونظراً للمقاومة الشديدة للمجتمع المدني البريطاني لتلك الفكرة، يبدو ظاهرياً تراجع قياصرة شركات التواصل الاجتماعي عن ذلك المشروع، الذي يظنّ بعض المراقبين بأنّه سوف يحل في دولة عربية تبحث عن تحقيق قصب السبق في كل شيء، حتى إن كان في مستوى الإنفاق على الألعاب النارية في رأس السنة الميلادية، الذي قد لا يعني شيئاً من الناحية الاجتماعية والتاريخية والعقائدية لأي من أبناء شعبها.
وفي مشهد تراجيدي آخر، يفاخر الكثير من أرباب العملية التعليمية في العديد من الدول الغربية، والكثير من مدارس أبناء الطبقات الحديثة الثراء، والمستغربة فكرياً وسلوكياً، في غير دولة عربية، بتبنيهم منهج شركة شل النفطية لتعليم الأطفال ما بين 3- 12 سنة. نعم هي شركة شل النفطية نفسها أصبحت مصدراً للمناهج العلمية، وأصول إدارة المدارس والعملية التعليمية على المستوى العالمي، الذي يستند في جوهره إلى مرتكز شامل عمقاً وسطحاً في كل المنظومة التعليمية التي تؤسس لها، ألا وهو تعليم المهارات التنفيذية، وليس «تنمية العقل الباحث والمبدع والنقدي» الذي يمثل المنطلق الأساسي في تكوين الأجيال الخلاقة، وفق توصيف رائد الفكر التربوي المعاصر جون ديوي.
وتعليم المهارات ذلك يرتكز عملياً على تعليم الأطفال فن البحث على محرك غوغل لإيجاد المعلومة، والحل الممكن للمهمة المعطاة، وتطبيق التعليمات المدرجة في نتائج البحث بالتزام حديدي للوصول إلى النتيجة المرادة، وهو بمعنى آخر ينتج أجيالاً تُنَّفذ ما يلقى عليها من تعليمات، بانضباط مطلق، كأنه انضباط عمال مصانع، وجنود الجيوش النازية، الذين لم يكن يسمح لهم بالتفكير، وإنما التنفيذ فقط، وهو ما مآله الموضوعي أجيال عقيمة تقرأ من دون أن تفهم ما تقرأ، إذ أن ما يطلب منها هو فقط استذكار وحفظ المهارات المطلوبة للنجاح في الامتحان، ومن ثم الانتقال للعمل في خدمة الماكينة الرأسمالية الكونية المتوحشة، التي تمثل شركة شل أحد دعائمها، والتي من أجلها فقط أصبحت شل قائمة بأعمال وزارة التعليم الكونية فعلياً، أو فخرياً إلى حين.
وفي رابع مشاهد الهول السالفة الذكر، لابد من الإشارة إلى ذلك الأخير المرتبط بتهافت جمعي عربي يفصح عن نفسه في رداءة معظم المناهج الحكومية العربية لطلاب المرحلة الدراسية الأولى، وامتلائها بالأخطاء العلمية واللغوية والقواعدية، وإدخال مفردات عامية وأجنبية في بعض منها، وفي الحقيقة أن مطلب الأغلبية الساحقة من أولياء الأمور العرب هو تدريس أبنائهم في المدارس التي تدرس المناهج الأجنبية، وتفاخر الكثير من خريجي الجامعات العربية بأنهم درسوا باللغة الإنكليزية، وليس كأقرانهم الأقل حظاً في بعض الجامعات الأخرى الذين درسوا باللغة العربية، على الرغم من أن الغالبية الساحقة منهم لا تصمد أمام أي امتحان علمي باللغة الإنكليزية يخولهم الدراسة العليا في بلد ناطق باللغة الإنكليزية، وهكذا نجدهم يقضون سنتين على الأقل في الدول الناطقة باللغة الإنكليزية لتعلم لغتها قبل تمكنهم من الدراسة بها، هذا إن تمكنوا من الوصول إلى تلك العتبة الأولى في طريق التحصيل العلمي، وبعضهم يقررون العودة إلى بلدانهم وهم يجرون أذيال الخيبة، متذرعين بحجج واهية لمواراة إخفاقهم في تحقيق المستوى المطلوب من المعرفة باللغة الإنكليزية، وهم الذين قضوا حياتهم التعليمية السابقة كلها لكي يتعلموها؛ فكانت النتيجة المخزية، أنهم ما عادوا يعرفون لغتهم العربية الأم، أو لغة مستعمريهم القدماء الجدد الذين يحاولون التماهي معهم. وهي حالة فريدة من الانسحاق الحضاري، إذ الحقيقة أن كل الدول الغنية، والفقيرة في كل أرجاء الأرضين، باستثناء تلك العربية، تفاخر بتدريس أجيالها في مدارسها وجامعاتها بلغتها الأم، أو بالحد الأدنى بلغتها الرسمية إن كانت لغتها الأم لغة بدائية غير ممتلكة إمكانيات الإبداع والتوليد، وهو نقيض حقيقية اللغة العربية لكل عارف موضوعي بها، وغير ناظر إليها من قمقم الانسحاق الحضاري المقيم الأليم.
القدس العربي