وديع القلب صافي الصوت

غادة شبير

كتبت الفنانة غادة شبير، أستاذة الغناء العربي والنظريّات الشرقيّة، ومديرة الفرقة العربيّة في جامعة الروح القدس الكسليك، مقالاً في وديع الصافي، أحبّت أن تخصّ به صفحة "أدب فكر فنّ" في "النهار".

من يجرؤ على القول إنّ وديع الصّافي رحل؟ إنّه حتما لا يزال بيننا هنا، في عبق الأرز هنالك وديع، وفي قمر مشغرة الصافي هنالك وديع، فمراكب البحّارة ما زالت تسبر أغوار البحار على إيقاع بحريّة وديع، حتّى شِباكُ الصّيادين مليئة بكنوز الوديع، الهواء والماء والنار والتراب عناصر الحياة الأربعة جسّدها الوديع بوداعته. سيرته الذاتيّة لا يتّسع لها ورق. إنسانيّا وأخلاقيّا يكفي أنّه اختار أن يكون الوديع الصافي. لن أغوص في التكلّم عن حياة الكبير الخاصّة بل أريد التوسّع في شرح أهميّة صوت وديع الصافي الفريد من نوعه. لماذا اعتبر صوته مميّزاً؟ ما هي المقوّمات التي جعلت منه صوتاً عظيماً؟ لماذا يعتبر وديع الصافي مدرسة في الغناء العربي؟ لماذا اعتبر أداؤه قدوة لكثير من فنّاني اليوم؟ هل يعود ذلك فقط إلى خامته المميّزة أم أنّ هنالك عناصر أخرى مهمّة وأساسيّة؟
يتمتّع وديع الصافي بصوت إنسيابي موحّد من درجات القرار إلى درجات الجواب الحادّة. لا تعصاه جملة غنائيّة مهما تكن صعبة ومركّبة. ولا تعصاه ترجمة فكرة موسيقيّة بصوته مهما عظُمَت. تعود صعوبة الجمل المغنّاة إلى عناصر أساسيّة أهمّها العُرَب والقفلات والعفقات الصعبة إلى جانب امتلاك الإيقاع والمقام. تمتّع وديع الصافي بقدرة هائلة على التحكّم بهذه العناصر جميعها. وقد وهبه الخالق قدرة خاصّة على التحكّم بالإيقاع والنغمات والمقامات بشكل فطري. التحكّم بالمقام ليس أن يغنّي المطرب المقامات المعروفة فقط والمعمول على أساسها اليوم، بل المقامات الصعبة النادر وجودها. يتحكّم بها تحكّماً تامّاً، صوتاً وأداءً ونغماً. ويؤلّف عليها أصعب الأغاني والمواويل والإرتجالات.
يمتلك وديع الصافي الإيقاع فهو يبرع في التحكّم بالجمل المغنّاة، الموزونة منها وغير الموزونة. أي أنّه يخرج من الإيقاع ويعود إليه بحنكة وحكمة ورويّة. فيخيّل للسامع أنّ غناءه سهل بسيط. فهو "يغنّي وكأنّه لا يغنّي من سكون الأوصال وهو يُجيد". يعالج الجملة كلمة بكلمة. يحترم مخارج الحروف فيها. ويبرع في انتقاء الكلمة التي يستطيع التوقف بعدها لأخذ النفَس ومعاودة الغناء بإحكام. يملك الصنعة، صنعة الغناء. يسيطر عليها بشكلٍ تام، فصوته ينفّذ كل التصوّرات التأليفيّة والنغميّة التي تخطر في باله والمرسومة في عقله الباطني.
يملك وديع الصافي أذناً سامعة بالمطلق، ما نسمّيها باللغة الفرنسيّة Oreille absolue فقد كانت الفرقة الموسيقيّة تدوزن آلاتها على صوته. الأذن السامعة بالمطلق معناها أذن مرهفة السمع. تسمع أدقّ التفاصيل. وتستطيع تحديد الدرجات الغنائيّة بمجرّد سماعها، دونما الحاجة إلى الرجوع إلى آلة موسيقيّة لتأكيد صحّتها. تعتبر الأذن السامعة بالمطلق موهبة نادرة جدّاً. وهبها الله للقليل القليل من المغنّين والمؤلّفين الموسيقيين والعازفين في العالم أجمع. وقد تمتّع وديع الصافي بهذه الميزة التي جعلت في أدائه الدقة والصحة في تناول الجمل الغنائيّة. كما تمتّع وديع الصافي بقدرة هائلة على التحرّك بالعُرَب المركّبة. يعالج الموّال نهزة بنهزة. ويتنقل بمدّات في الصوت، تارة بسيطة وطوراً صعبة التنفيذ. في تحرّكاته الصعبة لا يعتمد وديع الصافي أشكال الزخارف البسيطة، بل يوفي النص حقّه فيستعمل المثلّثات المتتالية triolet وتقاطع النبر الذي امتاز به Syncope وعلامات السكت المدروسة والعُرَب والقفلات الحاسمة. ويتمتّع وديع الصافي بقدرة هائلة على تعبير الكلمة المغنّاة، فيعمد إلى إخراج صوته من مناطق عديدة. فالصوت بالنسبة إليه ظاهرة خاصّة phénomène وليس فقط موضوع خامة واحدة. فهو يبدّل وينوّع في خامة صوته قدر ما يشاء. يستعمل تارةً صوت الصدر، وطوراً صوت الحنجرة والزلعوم والبلعوم والفم والأنف وصوت الرأس والصوت الممزوج. ويعمد وديع الصافي إلى الغناء بهدوء وبوضوح عارمين. فالوضوح قد جعل منه في ما بعد قدوة للملمّين الدارسين والموهوبين الذين اعتمدوا طريقته الصعبة والمفهومة والمشروحة والمفصلة عربةً عربة، كلمةً كلمة، جملةً جملة. فأداؤه لا تكلّف فيه، خالٍ من التعقيدات النغميّة المفاجئة، ملبّياً متطلّبات النص من حيث المعنى والمبنى. فبالنسبة إليه تفرض الكلمة وجودها. كما تتطلّب من مؤدّيها القدرة على تلحينها وإعطائها حقّها. يخيّل للسامع أنّ أداءه فيه روحانيّة خاصة به. صوتٌ مصلٍّ وروح رحبة وزهد في النفس. يعتبر صوت وديع الصافي علميّاً من الأصوات العريضة، غنيّاً في درجات القرار حتى درجات الجواب الحادّة . صوتاً نقيًّا، صافيًا، قويًّا، مهذّبًا، مليئاً بالذبذبات الصدّاحة نسبيّاً، ليّناً، سلساً، واثقاً، جريئاً، مرناً، مصلّياً، دافئاً، مغلّفاً بالنبرات والنّغمات، خالياً من الهواء، مرهف الحسّ.
يملك وديع الصّافي حرّية التحرّك على درجات السلّم صعوداً وهبوطاً. صوته يعتبر من الأصوات النادرة التي تستطيع غناء البعد الثلاثي النغم arpège على درجات السلّم، من درجات القرار إلى الدرجات الحادّة منها.
تأثّر وديع الصافي بالألحان السريانيّة، فجاء أداؤه مغايراً عن الأداء الطربي التجويدي القرآني. وكانت له تقنيّة خاصّة مستنبطة من اللغة السريانيّة ومن الألحان السريانيّة. فجعلت من أدائه مدرسة خاصّة تختلف كلّ الإختلاف عن الأداء العربي، التجويدي القرآني منه، والحديث الممزوج بالأداء الغربي. فاللفظ مختلف والمدّات مختلفة واستعمال التجويفات الرنّانة مختلف أيضاً. هذا طبعاً بحاجة إلى دراسات معمّقة لتحليل أدائه بالتفصيل وتبيان هذه النقاط المميّزة. وهو إلى جانب كل هذه المميّزات، مؤلّفٌ موسيقيٌّ، وعازفٌ مميّزٌ على آلة العود، وناقدٌ لاذعٌ بصمت واحترام عارِمَين. فهو يعرف في قرارة نفسه الصوت الجيّد من الصوت العادي. ويعرف الطريقة التي يجب العمل على أساسها للوصول بالمتلقّي إلى صوت عالم. إنّما بقي حتى اللحظات الأخيرة محافظاً على هذه الميزة. لا يبوح بها لئلاّ يجرح الفنّانين عموماً. بل كان دائماً الأب الصادق والقدوة والحكيم والمشجّع الدائم لهم. يلفت انتباههم بخجل وتهذيب حتى بات الفنّانون والمطربون جميعهم يحترمونه وينتظرون منه الملاحظة البنّاءة ليسلكوا بعدها الطريق الجيّدة أداءً ولفظاً وإحساساً.
استحقّ وديع الصافي شهادات وأوسمة عديدة منها: شهادة الدكتوراه الفخريّة التي نالها بجدارة وامتياز من جامعة الروح القدس الكسليك، حيث كانت الجامعة سبّاقة في تقدير وديع الصّافي فغنَّت فرقتها العربيّة لسنوات عدّة أعمالاً مهمّة له. وسجَّلت مدمجات أيضاً من أعماله، ورافقته في العديد من أغانيه ومؤلّفاته الدينيّة والدنيويّة. وكان دائماً حاضراً ومباركاً للعمل الفنّي الشرقي الذي أنتجته الجامعة. وهو بدوره قد منح جامعة الرّوح القدس الكسليك الحق في أداء أعماله، ممّا وضعها أمام مسؤوليّة صعبة لنقل تراث وديع الصافي من حقبة إلى حقبة أخرى من الزمن. إلى أجيالٍ آتية بصدقٍ وإخلاصٍ وأمانة.

النهار