اللغة العربية ... نظرة للمستقبل

أ. مصطفى غلمان

 أصبحت للعلوم الآن لغات عالمية وتخطيطات جيواستراتيجية وسياسية تشغل المفكرين ومعاهد الأبحاث وترسيم النظريات الاقتصادية والتنموية والمالية، واللغات القوية الأكثر تأثيرا في السياسات الدولية هي المتفاعلة والبحوث العلمية المنحازة للكونية في أجلى صفات التعدد الثقافي بقومياتها وتشكلاتها اللسانية والمعرفية.

واللغات الناجحة الآن هي لغات التقدم العلمي والتكنولوجي، العارفة بتمددات النظم العولمية والتقنيات الرقمية، وهي في حركية دؤوبة لانتزاع أسبقيتها وتجددها وتبادلاتها باتجاه مزيد من المعارف والأفكار.

ولا شك أن اللغة العربية هي الأكثر قدرة على صون كل المكتسبات سابقة الذكر. لا تحتاج إلى رفع مطلب هي في صلبه، أن تكون لغة عالمية مشتركة. فهي كذلك إلى أن تقوم الساعة.

لكن الواقعية السياسية والتراكمات الزمنية في مجال النهوض بمكنوناتها وتبئير آثارها وتسريع إدماجها في سيرورات النهضة العلمية والثقافية يخالف الاعتقاد إياه ويضعنا أمام أسئلة صميمة وجوهرية، من بينها تأخر مصطلحها العلمي والتوليدي ورؤيتها لمقصدية الواقع وقراءاته المتعددة.

وعلى سبيل المثال لا الحصر مقاربة تأخر التوليدية العربية في نسقيتها العلمية وتدبير الحياة بات أمرا ملحا في قاموس إشكالات مستقبلها وتأثيرها في قضايا النهضة والتنوير.

وهنا أحيل لقراءة دراسة هامة عن "التوليد اللغوي عند القاضي التنوخي" من خلال كتاب " نشوار المحاضرة وأخبار المذاكرة" وهي للباحث محمد القليصي، يقول في واحدة من لمعه الفريدة :" دراسة المولدات في اللغات بعامة تحتاج إلى تقييس وتقويم علمي، كشفا عن القوانين الناظمة لحركتها وعن فاعليتها في الحياة الاجتماعية، ولا يستطيع منصف إنكار أهمية التوليد اللغوي في واقع اللغة العربية، من حيث إمدادها بالألفاظ الدالة على أنماط الحياة المتطورة، ومن حيث توليد دلالات جديدة، معبرة عن أدق تفاصيل الفكر الانساني، إذ يعد التوليد اللغوي مقياسا ومظهرا مهما على مدى التطور الذي أصاب العربية، وهو يعكس طبيعة المتكلمين الذين أنتجوها وثقافتهم وفكرهم وبيئتهم الاجتماعية، ثم إنه يؤدي إلى تحديد حركات المولدات اللغوية في علاقتها بالتاريخ والاجتماع البشري".

ونعني في عمق مواجهتنا للحيف الممارس على العربية دعوة صريحة عاجلة لتقدير الصمود الذي تنتجه لغتنا رغم ضعف الرهانات, فهي في حالة جمود وتأخر قمينة بإعادة بعث الروح وتوكيد إرساء الدعائم القوية في زخمها ودينامية ترسخها في المخيال الجمعي، بالانتشار والهيمنة، إن على مستوى القراءة ونشر ثقافة الكتاب وتصديرها وتحويلها لأشكال وأدوات فنية كالمسرح والسينما والتلفزيون، وإشاعتها كلغة أدبية عالمية بالاهتمام بالفن والترجمة والتعليم والسياحة والعلاقات الدولية ومختلف وجوه التواصل الدولي.

إن انكماش اللغة العربية على ذاتها وجحود أبنائها وتواريها عن تأسيس التقاليد الحضارية المعلوم بها عن تجريب وخبرة، ومثال ذلك بلاد الفرس والترك والأندلس والعمق الأفريقي والأسيوي الغنية عن أي تعريف، يجرنا إلى الحديث عن قابليات أبنائنا لاستباق وإتقان لغات أخرى مؤثرة في صناعة العقل العولمي الجديد، كاللغة الانجليزية والألمانية والصينية الأسرع من حيث النمو في العالم اليوم.

أليس جديرا بالتأمل وجود حالات للغات عريقة توجد تحت التهديد ؟ هناك دراسات ميدانية تشير إلى الحالة العامة لهبة البشرية اللغوية، الحالة الواضحة كما يقول سكوت مونتغمري في كتابه :" هل يحتاج العلم إلى لغة عالمية ؟" هناك 6909 من اللغات جرى إحصاؤها على الأقل 94 ـ 96 في المائة منها لغات أصلية، تتحدث بها مجتمعات تضم بين 1 و 10 آلاف فرد، يبلغ مجموعها أقل من 6 في المائة من سكان العالم .. ويوجد عدد كبير في خطر والآخر يحتضر ونسبة انقراضها تتسارع .."

ليس فقط لأن مونتجمري وهو العالم الأمريكي الخبير بطبقات الأرض وتاريخ العلم البشري، يلمح إلى هزات ارتدادية صعقت أمنا العربية، بل لأن الحسم في إشكاليات النهضة اللغوية مرهونة بجدواها العلمي التفاعلي ووجودها في قلب الأحداث والتغيرات التي طرأت على بنى وظائف التكنولوجيات والتقنيات السريعة، ومنها على وجه التحديد الرقمنة اللغوية ونزوعها الاستعماري نحو تعطيل تراتبي واستئصالي لعلاقتها بالإدراك اللغوي القرائي، بغض النظر عن الخلافات الناجمة عن الثقافة وخصوصياتها التاريخية والتراثية.

لا تبلغ الأمم الرفعة ولا تنهض بأرضها وإنسانها وحضارتها دون حفاظ على هويتها اللغوية وتراثها وتاريخ معمارها. هي حقيقة منصفة تعيد تصحيح مغالطات الهوة القيمية في نظريات التدافع الحضاري والثقافي، بما فيها تلك التي تعتبر الصراع بين الشعوب المتقدمة والأخرى المتخلفة عن الركب صراعا أيديولوجيا صرفا ومناكفة استردادية لمقود قيادة العالم.

إن العرب بهويتهم الحضارية الموحدة ولسانهم القرآني البين ليسع كل طفرات النهوض والتقدم، بما يعيد زخم الانتماء للغة دورها الريادي وإشعاعها المائز في ذرى الانحرافات التي تشهدها العلامات الجديدة في فضاء الرقمنة وتكنولوجيا المعلوميات.

لقد صمدت لغة الضاد قرونا لم تنل منها عاديات الدهر ولا صروف الأيام، بما كانت تحمل من الاستعباد والقتل والغزو والإرهاب.

حاولوا إتلاف ملايين كتبها ومدخراتها العلمية والثقافية والتربوية، إن عن طريق الحرق أو السطو أو الدهس أو التمزيق. بيد أنها كانت تسمو عن كل البذاءات والسخافات والخرافات، تنهض كالعنقاء من وابل الرماد لتسطع من جديد، كما كانت وأفضل.

الرقمنة والعولمة وترويع القيم اللغوية وتثبيط العزائم والغدر السياسي والكيد الشوفيني، كل هذه الأدوات الاستعمارية الاستبدادية لن تسطع تحريك أنملة من جذور ربانية عرفانية أصيلة متحصنة بملاذ قدسي يثرى في الغياب وفي الناموس الذي أنزل على رسول البلاغة والتبليغ.
 

هسبريس