
اللغة العربية والنفس البشرية
أ. حجاج بوخضور
البحث في اللغات، وبالذات العربية، لا يُملّ ولا يُكل، فبعد معرفة أن اللغة كانت واحدة، ثم تحوّلها إلى لغات عدة مع تفرّق الناس شعوباً، ثم بيان كيف تخيّر القريشيون قبل البعثة المحمدية بقرن ونصف القرن، من ألسنة الشعوب أفضلها، ليصهروها في بوتقتهم، وبهذا واصلت «العربية» عودتها إلى كمالها، استعداداً لنزول القرآن، فهي خير مادة للبيان اللغوي، في نحوها وكلماتها وتراكيبها، لاتساع نهرها من المحصول والمفردات كلما اتسعت المناسبات، فتصميم الحرف العربي يرتبط بعلاقة وثيقة في دلالاته وهندسته بالكون والنفس الإنسانية.
اللغة العربية كيان ذو إبداع متجدّد، تتّسع الكلام فتنظمه، ليتوافق لفظاً ومعاني، فهي أكثر اللغات في وظائفها مرونة ورحابة في ربط أواصر الأداء اللغوي النفسي بالأداء السلوكي الحركي، والأقدر على حث المخ على توليد المعاني، وإنتاج المفردات ومعالجتها أثناء الإرسال والاستقبال، وإخراج الاجتهاد من حيز الإبهام والإشكال والكتمان إلى حيّز الإيجاز والبيان والتصريح والإجراء العملي، فهي خير وسيلة للتعبير والتعليم، ودعم عناصر التفكير وإبراز الأفكار، وتنمية القدرات العقلية.
ألهمنا الله تعالى اللغة فطرة، لقوله: «الرَّحْمَنُ، عَلَّمَ الْقُرْآَنَ، خَلَقَ الإِنْسَانَ، عَلَّمَهُ الْبَيَانَ»، كما هو التديّن أيضاً فطري، لقوله تعالى: «فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا»، فالتوقان الديني واللغوي مُبرمجان في الجينات، والتناظر بينهما يساعد على مزج الأنماط والأنساق اللغوية مع الدينية، بما يُمكِّن المتكلم من التعبير وضوحاً واستقامة ورسوخاً، عن ذاته اللغوية، وذاته الدينية في آن واحد، ففي الدماغ بنى فطرية تساعد على التذاكر الديني وتعلم اللغة، ولا يمكن فصل اللغة العربية عن الإسلام ديناً.
التخلّف اللغوي له علاقة مفصلية بالتخلف العقائدي، فاللغة نظام ذهني يتم بموجبه ربط العناصر اللغوية، ليعبّر بها كل قوم عن أغراضهم وحاجاتهم في ما يتواضعون عليه من الكلام سلامة وأماناً، وكلما كانت اللغة فصيحة تتحقق صفة التكامل الوظيفي لها، بمنظومة داخلية في تطبيق الدين الصحيح، ويُعتمد دور وأهمية كل من هذه الوظائف على القدرات الموضوعيّة للغة المعنية، أي على مستوى تطورها ونضجها، والعربية الفصحى أكثر اللغات انسجاماً وأتمها كمالاً مع الدين في تأدية وظائفها، كوحدة متكاملة.
تسبّب التفكير الفئوي، والخطاب الديني الذي تعتمده الجماعات الحزبية بأسلوب الجزمية الفكرية، وعاطفية التفكير، والمشبع بمشاعر المظلومية، في نشر ثقافة تخل الصلات العقلية بين الذات وعقيدة التوحيد، وتغلب عليها الأهواء والميل إلى العنف والاندفاع، والتمحور حول الذات وإنشاء «الأنا» المفخمة والمعطّلة، والاستسلام للتفكير التآمري، والذهنية التبريرية المتمثّلة.
القبس
|
|
|