هذه لغتي فوق الشفة كالأغنية

أ. جودي الأسمر

 

سيعني هذا العنوان الكثير للبعض ولا يعني شيئاً للبعض الباقي ولكن ما أعرفه حقاً أنني أنتمي الى الجيل الأخير الذي توقظ به هذه الجملة حنيناً للغة وتعود به لأول علاقته معها. كالحب الذي يفتننا أوله. ولدت في آخر عام من الثمانينيات مما جعلني أنتمي للجيل الذي سمع هذه الأغنية تتردد على شاشة التلفزيون، في آخر مواسمها، على محطة التلفزيون العربي السوري. 

كنت أتابع برنامج "المناهل" و"افتح يا سمسم" بنهم. أترقب مغامرات أبي الحروف، وأضحك مع خربوط، كانت تنفرني أحياناً أشكال زيد وعمرو ولكن يعجبني صوتهما، يسيل لعابي اللغوي كما الفموي مع مطبخ فرحان. أحببت اللغة العربية حباً خالياً من المصلحة، لا يعرف القومية ولا السياسة ولا الدين، أحببتها لأنها لغة أمتعتني، أضحكتني، أثارت فضولي، فتحت لي باباً واحدة وجعلتني أدفع بيدي أبواباً. الباب الأول كان في معرض دمشق الدولي للكتاب، مع والدي يتنقل بي بين أروقة الأجنحة ويقف أمام رفوف الكتب يتفحصها، حين مددت يدي والتقطت كتاباً أسطوانياً كُتب عليه "الحروف المتحركة". 
بعد سنوات، اختفى التلفزيون العربي السوري عن شاشاتنا وأكل الدهر وشرب على هذه البرامج. ووجدتني، في الصيف الماضي، أخوض غمار التعليم الخصوصي لطفل وأخته من طرابلس، أتيا في الصيف من فرنسا لقضاء الإجازة في لبنان. الطفل نسي الكثير عن اللغة العربية والطفلة تكاد لا تعرف شيئاً. شهر سريع من المتعة الخالصة انقضى في تعليم هذين الطفلين، مع حافز كبير في قلبي لإكسابهما حب اللغة أولاً ليهون عليهما من بعدها أي شيء. كنت أحبّ والديهما وتضاعفت محبتي لهما عندما لمست حرصهما ليحافظ الطفلان على لغتهما العربية. وجدتني أيضاً، نهاية هذه الدروس، أقدّم لهما أكثر ما حفزني لأتعلم لغتي في صغري، فكرت أنهما قد لا ينسيان اللغة العربية مثلما جعلتني هذه البرامج أحبها وبالتالي لا أنساها. قدمت لهما أقراصاً مدمجة سجلت عليها حلقات من "المناهل" و"إفتح يا سمسم" حظيت بها في مكتبة صغيرة في أبي سمراء. الطفلان فرحا لأنها هدية، ولكن الأم فرحت أكثر لأنها عادت معهما الى زمن مضى أحبته هي كما أحببته أنا وأردت أن يذوقه طفلاها.
نفكر أن اللغة العربية بخطر وهو خوف مشروع ويحمل وجهاً عظيماً من الصحة، خصوصاً بعدما هجنت الكتابة العربية بلغة الانترنت واخترقت حروفها بالأرقام وأشكالها بحروف لاتينية لها نفس الأثر السمعي، وغزا الإنكليزي لكل وسائل التواصل والاتصال والmass communication، ناهينا عن ارتباط العربية الوثيق بالدين الإسلامي والصورة الملتبسة للإسلام في المنطقة والعالم، مما جعل الدفاع عن هذه اللغة دفاعاً عن الإسلام وما يسوّق له على أنه دين التطرف والعنف والإرهاب. نضيف الى هذه الأسباب الخاصة جداً باللغة العربية، المؤامرة الكونية التي تحاك ضد اللغات، كل اللغات، وإيلاء العلوم أهمية متنامية في المدرسة كما في سوق العمل. 
إنما الواقع يشير الى فرجة بإمكانها أن تتوسع تبعاً لإرادتنا أولا وللظروف السياسية بالدرجة الثانية. وضع اللغة العربية ليس بالكارثية التي نعتقدها. المجلس البريطاني نشر مؤخراً تقريراً مفاده أن اللغة العربية ستحل اللغة الثانية في بريطانيا بدون منازع، مقابل تقهقر اللغة الفرنسية في البلاد الفرنكوفونية وفي فرنسا نفسها. الخبر الثاني المفرح، بل أخبار مفرحة تفدنا من خلال الدكتورة سوسن الأبطح في مقالة حديثة لها في جريدة الشرق الأوسط بعنوان "العالم يطالب بالعربية"، مما جاء فيها أن تركيا تعيد العربية إلى المدارس، وتعزز مكانتها التاريخية في البلاد. وفي السويد أيضاً أصبحت لغة الضاد هي الثانية فأخرت مرتبة اللغة الفنلندية. صفوف تعليم هذه اللغة تتضاعف في كل مكان، لحاجة لها في البلدان الأوروبية والأمريكية وليس بتشجيع من أحد، فهؤلاء يتحسسون التغيرات المقبلة. وتضيف الكاتبة "إضافة إلى اللاجئين، ثمة مصالح وعلاقات تجارية يتم التحضير لها. إنجلترا تعتبر تعليم اللغات "أولوية وطنية" وعلى رأسها العربية، لأن 2 في المائة فقط من طالبي العمل، يستطيعون سد الثغرة. ألمانيا تريد إدماج جحافل المهاجرين السوريين ولا تجد وسيلة سوى إدخال العربية كمادة إلزامية في المدارس. لكن هناك أيضاً المسلمين من الأتراك الذين يجدونها مناسبة لتعلم لغتهم الدينية، أما في الصين فامتد تعليم لغة الضاد إلى 13 جامعة غير المراكز الصغيرة المتفرقة".
تبقى اللغة العربية الآن وفي هذا الأسبوع بالذات المكون الوجودي الوحيد لنا كقوم عربي. يحق لنا أن نفخر بلغتنا ويجب علينا ذلك. لغتنا العربية هي الحق والواجب، في يومها كانت تحتفل 22 دولة عربية، إذا لم تنسَ هذه الدول أن 18 كانون الأول يصادف اليوم العالمي للغة العربية،. ويبدو أن اللغة العربية ستغدو عالمية حقاً. 
 

البيان