اللغة العربية وسؤال القداسة

أ. محمد مغوتي

 

في الثامن عشر من دجنبر من كل سنة يحل اليوم العالمي للغة العربية، وهو الموعد الذي يحتفي بإقرار العربية لغة رسمية في الأمم المتحدة استنادا للقرار رقم 3190 الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في نفس التاريخ سنة 1973.هذه الذكرى السنوية تعيد إلى الواجهة نقاشا حول واقع اللغة العربية وحضورها بين لغات العالم. وهي أيضا مناسبة للخوض في سؤال يطرح نفسه باستمرار، وسنعيد طرحه هنا بصيغة: هل العربية لغة مقدسة؟. وهو سؤال لا يبتغي إثارة العواطف، ولا ينطلق من أية خلفية إيديولوجية ، ولا يستند على أي تصور عنصري أو انتماء عرقي ضيق.  

 تقوم المواقف التي تدافع عن قداسة اللغة العربية على أطروحة مفادها أن كون العربية هي لغة القرآن الكريم، فذلك يجعلها أفضل لغات العالم. لذلك مثل نزول القرآن بلسان عربي تشريفا للغة العرب وإعلاء من شأنها. وقد جاء في عدد من الآيات ما يشير الى هذا التشريف في مثل قوله تعالى: " إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون " ( الزخرف:3 ). وقوله أيضا: " كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعلمون " ( فصلت: 3 )....وهكذا يمنح القرآن اللغة العربية درجة رفيعة بين لغات العالم لأنها احتوت الكتاب المهيمن على ما قبله. وهذا جدير بأن يمنحها الهيمنة على كل اللغات الأخرى لأنها لغة خاتم الأنبياء والمرسلين. وانطلاقا من هذه الحقيقة تستنتج هذه المواقف بأن اللغة العربية  تستحق أن تكون لغة العالمين، مثلما أن رسالة الإسلام موجهة للعالمين.

 ان هذا الربط بين القرآن واللغة العربية أمر يمكن تبريره وفهمه، فالذي منح العربية مكانتها هو الإسلام بالتأكيد، وذلك على الأقل من حيث استمرارها حتى الآن كلغة متداولة... غير أن نزول القرآن بلسان عربي كان أمرا عاديا جدا، مادام حامل رسالة الإسلام ينتمي الى أمة العرب، ويتكلم بلسانها. ومن الطبيعي أن يخاطب قومه ويدعوهم الى الدين الجديد بلسانهم، وذلك ما تشير إليه الآية: " وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم..." ( إبراهيم: 4). أي أن لسان الرسالة السماوية ( الوحي) كان عربيا بهذا الإعتبار، وإلا لن تكتمل الدعوة في غياب هذا السنن اللغوي المشترك. وهو ما ينطبق أيضا على ما يسمى بالفتوحات، اذ لم يكن بالامكان أن تصل التعاليم الاسلامية الى الأمم غير العربية التي وصل إليها المسلمون لو لم تتم مخاطبتهم بألسنتهم. وهذا لا يجادل فيه اثنان. لذلك فإن محاولة اضفاء صبغة القداسة على اللسان العربي استنادا إلى لغة القرآن أمر يحتاج الى إعادة نظر، لأن الإرتباط هنا سبقه اصطفاء الله لنبي من العرب كخاتم للمرسلين. وهذا يجعل لغة القرآن عربية نسبة الى هذا الاختيار. لكن هذا الامتياز لا يرتفع الى مستوى القداسة. فالعربية لسان قوم كباقي اللغات الأخرى التي تحقق التواصل بين البشر... وفي ما يرتبط بحفظ الله للقرآن في قوله : " انا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون "، نقرأ في التفاسير المعتمدة عند الطبري مثلا: ( انا للقرآن لحافظون من أن يراد فيه باطل ما ليس منه، أو ينقص منه ماهو منه من أحكامه وحدوده وفرائضه ). وعند ابن كثير:( وهو القرآن، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل). وواضح أن المقصود بالحفظ هو مضمون الكتاب من أحكام وقيم وتشريعات حتى لا يتعرض للتحريف والتبديل. وهذا يعني أن وجه القداسة في القرآن هو مضمون الوحي لا لغة هذا الوحي. ثم إن القرآن لا يمكن أن يحفظ اللغة العربية، لأنه لا يتضمن إلا جزءا يسيرا من القاموس العربي من حيث المفردات والجذور والتراكيب اللغوية.  

     إن العربية لغة الفصاحة والبيان. وهذا أمر لا يمكن انكاره، لكن ذلك لا يعني أنها تنفرد بالقداسة دون سائر لغات الدنيا. فالقدرة على الإبداع والتعبير المجازي هي خاصية إنسانية يمكن أن تتجلى في كل لسان. ثم إن هذا الربط بين اللغة العربية ومكانة القرآن عند المسلمين ليس صحيحا واقعيا، فالمسلمون منتشرون في كل بقاع العالم. وهم في غالبيتهم لا يتكلمون لغة القرآن، ومع ذلك فهم يدينون بالإسلام بدون مركب نقص. وفهمهم للاسلام يتحقق أكثر بترجمة معاني القرآن إلى لغاتهم الخاصة. وهذا دليل آخر على أن ما يحفظ في كتاب الله هو معانيه  وأحكامه وأدلته البرهانية قبل ألفاظه. ذلك أن الترجمة تغير اللفظ لكنها لا تسيئ الى المعنى . أما الذين يصرون على توسيع دائرة المقدس الديني لتصبح اللغة العربية جزءا منه، فإنهم يصنعون كهنوتا لغويا يمارس الوصاية على أفهام الناس، وينصب نفسه وسيطا بينهم وبين النص لأنه يمتلك وحده ناصية اللغة، ومن تم فهو وحده يستطيع فهم المعاني وإيصالها للناس.

إن حاضر اللغة العربية يثبت خطأ الأطروحة التي تتحدث عن قداستها وتدافع عنها، فبالرغم من أن الإحصائيات الرسمية تتحدث عن لغة يتكلم بها حوالي 300 مليون نسمة، فإن واقع الحال يثبت أن لغة الضاد تعرف تراجعا كبيرا، وهي مرشحة للإنقراض مع مرورالوقت، لأنها عاجزة عن التطور ومواكبة العصر، وقد تتحول في المستقبل إلى مجرد ذكرى توثقها كتب التفاسير والأدب القديمة التي لا يهتم بها إلا الدارسون المتخصصون. ثم إن السياسات الرسمية في أغلب الدول التي تسمى عربية اختارت العروبة كهوية لتصبح عربية بالإلحاق مثلما هو الحال في دول شمال إفريقيا مثلا. وهي سياسات اختارت فرض العربية كلغة للمدرسة، لكنها لم تنجح في فرضها لغة للتواصل اليومي - رغم كل محاولات الطمس الهوياتي- بسبب الإزدواجية اللغوية في كثير من الدول، والإقبال المتزايد على تعلم اللغات القوية كالإنجليزية والفرنسية، وكذا الإستعمال الواسع للدارجة (العامية) في البيت والشارع والإدارة...

 لقد كانت اللغة العربية وسيلة تواصلية لتبليغ رسالة الإسلام بلسان النبوة، وكونها لغة لرسالة الإسلام لا يمنحها أي امتياز، ووضعها الإعتباري الذي منحها القرآن لا يجعل منها ركنا سادسا من أركان الإسلام، لأن مكانة اللغة لا يصنعها تاريخها بل حاضرها، وواقع العرب المغلوب على أمرهم ينطبق على لغتهم أيضا. ألم يقل ابن خلدون: " إن المغلوب مولع أبدا بالإقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائرأحواله  وعوائده... إن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها، أسرع إليها الفناء.." ؟؟.

لكم