عربيتنا.. في يومها العالمي - 2
أ. أحمد نور الدين
تزامنا مع احتفالنا بيوم "عربيتنا" العالمى الموافق الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، وما تم سرده وذكره سلفًا، في المقال الأول، ويدعو إلى الحسرة وبكاء قلوبنا قبل عيوننا، أسفًا على لغتنا العربية التي ضاعت، وتضيع من أهلها، بنكرانهم لها، وتبرئهم منها، انهزامًا نفسيًا وروحيًا، وخروجًا من إزار هويتهم، وتمزيقًا له، لكن ثمة تساؤل، هل واقع لغتنا العربية ما زال شديد الظلام، معتمًا قاتمًا؟ وهل أديبنا القدير مصطفى صادق الرافعي صدق عندما قال فى كتابه "وحي القلم": "ما ذَلّت لغة شعب إلا ذل، ولا انحطَّت إلا كان أمره فى ذهاب..." ؟
أرى يقينًا أنه صدق قولا، وصدقنا فعلا، ولننظر إلى حال لغتنا، وحال متكلميها، فقوتهما وضعفهما يدوران معًا، في علاقة جدلية وجودًا وعدمًا، حياة وموتًا.
في الدول المتقدمة القوية كاليابان ترى لغة التحدث والتعليم، اليابانية ويحظر غيرها، وفي فرنسا وألمانيا وإنجلترا كذلك، يحظر التحدث بغير اللغة الأم على المواطنين هناك، مع وجود قوانين مسنة لذلك، وفي تركيا لا يتكلمون إلا التركية، حتى في مؤتمراتهم الدولية، اعتزازًا وإكبارًا للغتهم الأم، وفي سويسرا تتكامل وتتحد اللغات الفرنسية والإيطالية والألمانية باعتبارها لغات وطنية اعتمدت جميعها كلغات رسمية لذلك البلد، وفي بلجيكا تتقاسم الألمانية والفرنسية اللغة هناك.
أما في إسرائيل، فقد أحيوا لغتهم العبرية الميتة منذ قرون، على يد اللغوي والأديب والمفكر اليهودي الصهيوني إليعيزر بن يهودا، المعروف" بمحيي اللغة العبرية" لكونه من أول المروجين للتكلم باللغة العبرية لدى اليهود؛ حيث نشر مقالته الأولى في أبريل عام 1879- وفقًا للموسوعة الحرة ويكيبيديا- قائلا: "إن نهضة اليهود ستكون في فلسطين ("إيرتس إسرائيل") وإن أساسها سيكون تبني اللغة العبرية في جميع مجالات الحياة اليهودية؛ لأن الشعب لا يتمكن من النهضة دون لغة مشتركة لأبنائه"، وفي 1890 أسس بن يهودا "لجنة اللغة العبرية" التي جمعت كبار الأدباء واللغويين اليهود في فلسطين في ذلك الحين، حيث عملوا من أجل ترويج التعليم بالعبرية في المدارس اليهودية.
تلك نماذج - نختلف معها عقيدة ولغة وفكرا - لكن نحترم ونجلّ فيهم غيرتهم على هويتهم، المتمثل في لغتهم، دون جحود فاضح نحياه نحن، وتبرؤ نمارسه ليل نهار بلغتنا وتاريخنا، فكان لهم الريادة والقوة والمنعة، ولن تضعف تلك الدول وتذل، إلا إذا ضعفت لغاتهم، وتخلو عنها كما فعلنا نحن.
لكن وسط تلك الضبابية والمشهد الحالك السواد، ثمة أسئلة يجب الإجابة عنها، وهي: هل ستظل لغتنا العربية حبيسة حدود لغتنا الدينية فحسب؟ وهل هناك محاولات جادة مثمرة للخروج بلغتنا العربية من أزمتها وكبوتها الآن؟
أقول أولا، إنه نعم ستظل "عربيتنا" رهينة الحدود الدينية، متمثلة في أداء العبادات كالصلاة والدعاء والحج وخطب الجمعة، أما عن خروجها لآفاق الاقتصاد والاستثمار والسياحة والسياسة، فلن تخرج حتى يأذن أهلها وبنوها بذلك، معترفين بها، متحدثين بها في كل المحافل الدولية السياسية والاقتصادية والسياحية وغيرها.
أما عن المحاولات الجادة المثمرة للخروج بلغتنا العربية من أزمتها وكبوتها الآن، والعمل على انتشارها دوليًا ومحليًا، فهناك أوجه كثيرة مشرقة، مشرفة في ذلك، منها جهود قطاع الشئون الثقافية والبعثات، التابع لوزارة التعليم العالي، والذي كان سباقًا في تعليم العربية لغير الناطقين بها منذ عام 1959، ثم جهود المركز التعليمي للغة العربية للطلاب الوافدين المنشأ في الرابع من أبريل عام 1964.
وحديثا هناك جهود مبذولة ومقدرة من مركز الشيخ زايد لتعليم اللغة العربية لغير الناطقين بها من الطلبة الوافدين والباحثين، تمكينًا لهم من إجادة اللغة العربية تحدثًا وكتابة واستماعًا، إضافة لإعداد وتأهيل معلمي العربية لغير الناطقين بها، والذين ينتشرون الآن بدول العالم المختلفة، ناشرين ومعلمين للعربية، مما استحق صدارة الترتيب العالمي، وإشادة مركز التطوير والجودة الألماني والإفريقي، تقديرًا لدوره في تعليم الآلاف من الطلبة والباحثين غير العرب، من أكثر من 25 جنسية مختلفة.
كذلك هناك جهود مخلصة من لجنة النهوض باللغة العربية برابطة الجامعات الإسلامية ، ومن الرواق الأزهري، عبر دوراته المتعددة المجانية وشهاداته المعتمدة، في ذلك أيضًا، وجهود كلية دار العلوم جامعة القاهرة، ومركز التدريب اللغوي بها، ومعهد الدراسات التربوية، وكلية الدراسات العليا للتربية بجامعة القاهرة، وبرامج تعليم اللغة العربية بالجامعة الأمريكية، ومراكز تعليم العربية لغير الناطقين بها، وإعداد وتأهيل معلمي اللغة العربية لغير الناطقين بها، بالجامعات والكليات المصرية المختلفة كعين شمس، وكان آخرها بكلية الآداب جامعة بنى سويف، هذا بالإضافة للعديد من الأكاديميات الخاصة المختلفة المنتشرة بالقاهرة والمحافظات المختلفة، والتي تحظى بانتشار واهتمام كبير من غير العرب لتعلم وإجادة لغتنا العربية.
مع ما تشهده دول أوروبا وآسيا من اشتداد الطلب على دراسة وإجادة العربية مثل ألمانيا، وفرنسا، وبلجيكا، وكوريا الجنوبية التي اعتمدت اللغة العربية لغة ثانية، ويتقدم تعلم العربية بها اللغات الأخرى الأشهر كالإنجليزية والفرنسية، ثم دور مجامع اللغة العربية كما بمصر والأردن، ومجمع اللغة العربية السعودي على الشبكة العالمية، والمجلس الدولي للغة العربية بفعالياته وأنشطته الدولية الخادمة للغة القرآن، وفق التحديات التي تواجهها ومتعلميها.
ختاما .. نحن في حاجة لاسترداد وارتداء لباس هويتنا الغائبة، المختطفة بإرادتنا، الممزق والمهترئ بكامل حريتنا، إعزازًا وتمكينًا للغتنا، والتي كتب لها الله - سبحانه - الحفظ والخلود بحفظ القرآن وقدسيته وخلوده بأمره.
الأهرام