الفصيحة في مواجهة العاميات

أ. سامر أنور الشمالي

 

الدعوات إلى العامية لم تكن بريئة، فقد أتت إلى المنطقة العربية مع قدوم الاستعمار الأوربي الذي عمل ما بوسعه على تفتيت وتجزئة المنطقة العربية والإسلامية، ذات التاريخ العريق، تمهيدا لمحو ثقافتها والسيطرة عليها. فبعدما أحكمت بريطانيا قبضتها على مصر صدر قرارها عام 1889 باعتماد اللغة الانكليزية في المدارس، ورافق هذا القرار دعوات إلى المطالبة باستخدام العاميات بدل الفصيحة، والبداية كانت مع (د. ولهلم سبيتا) مؤلف كتاب (قواعد العربية العامية في مصر) الذي صدر بالألمانية في (لايبزغ) عام 1880 وتضمن نصوصا عربية مكتوبة بالحرف اللاتيني، وكانت حجة هذا وغيره من أنصاره من العرب أمثال (احمد لطفي السيد- سلامة موسى- سعيد عقل) أن اللغة العربية الفصيحة صعبة لا يمكن إتقانها بسهولة، فالأحرف العربية والحركات الإعرابية معقدة، وان التمسك بالفصيحة لفظا وكتابة أحد أسباب انتشار الأمية، إضافة إلى أنها لم تعد صالحة للعلوم المعاصرة، لذلك يجب استبدال رسم الحرف العربي وحركاته بالحرف اللاتيني، واعتماد اللهجات المحلية، كما فعل الأوربيون في عصر النهضة، حيث اعتمدوا اللهجات المحلية بعد انفراط عقد اللغة اللاتينية، وسرعان ما تطورت تلك اللهجات وأصبحت كل منها لغة قائمة بذاتها.

ومن الجدير بالذكر هنا أن الانكليزية التي كتب بها (شكسبير) أعماله في القرن السادس عشر يصعب قراءتها اليوم لغير المختصين، ويغيب عن أذهان أصحاب هذه الدعوات المشبوهة أن أي عربي متوسط الثقافة يستطيع قراءة واستيعاب أي كتاب عربي يعود لمئات السنين، ككتاب (البخلاء) لـ(الجاحظ) على سبيل المثال، وربما لم يغب هذا الأمر عنهم ولكن تغاضوا عنه لأسبابهم الخاصة.

الفكر واللغة
يقول الدكتور (سمر روحي الفيصل) في كتابه (الفصيحة والعامية): إن وجود العامية إلى جانب الفصحى قديم مذ كانت اللغة العربية، ولكن طرح هذا الموضوع كمعضلة بدأ مع منتصف القرن التاسع عشر، واستمر بين ظهور مؤقت وأفول عارض طيلة القرن العشرين، ومع بداية هذا القرن لم يحسم الأمر تماما، وان لم يعد بالحدة ذاتها، فقد تناقصت المشاريع المريبة التي تدعو إلى الاقتداء بالدول الأوربية التي هجرت اللغة اليونانية واستبدلت بها اللهجات المحلية حيث تحولت فيما بعد إلى لغات مستقلة بذاتها. ولكن الدعوة إلى الاستمرار وضرورة التعليم في الجامعات العربية باللغات الأجنبية التي خلفها المستعمر ظلت قائمة حتى هذه اللحظة، وهنا تكمن الخطورة على الهوية العربية، فلا يمكن فصل الفكر عن لغته.

اللهجات عربية
في شبه الجزيرة العربية كانت لكل قبيلة لهجتها الخاصة التي تتمسك بها من منطلق العصبية، ولكن ضمن نطاق اللغة الواحدة، فالقواعد النحوية، وتركيب الجملة، وصياغة العبارة لا تتغير، إذ يقتصر الاختلاف على استخدام مفردات بدل أخرى، حتى تلك المفردات كانت في الغالب من المترادفات في المعنى. وهذا التقارب سمح بظهور لغة أدبية رفيعة مفهومة لدى الجميع على اختلاف قبائلهم، والفضل يرجع بدرجة كبيرة إلى قصائد الشعراء العرب في العصر الجاهلي التي كان يتناقلها الرواة من قبيلة لأخرى. ومن هذا المنطلق يرى (الفيصل) انه يمكن إطلاق مفهوم الفصحى على اللغة المشتركة المتداولة في حال اعتبارنا لهجات القبائل عامية. واستمر حال الفصيحة والعامية في ذلك العصر حتى نزول القرآن الكريم ببيانه الفصيح، مضيفا إلى اللغة العربية قدسية لم تعهدها لغة من قبل، عندئذ انفرط عقد العصبيات القبلية-على المستوى اللغوي على الأقل- وصار القرآن الكريم المرجع الوحيد لمعرفة صحة اللغة العربية بعد دخول الإسلام.
كما أسهمت الفتوحات العربية في الحاجة إلى فصيحة متفق عليها كوسيلة للتعايش في بلاد مترامية الأطراف، لاسيما ضمن الجيوش العربية التي كانت تجمع أعدادا كبيرة من مختلف القبائل العربية. وهذا أدى إلى انتشار تلك الفصيحة واعتمادها في البلدان المفتوحة.
ويؤكد (الفيصل) أن المناطق الجغرافية التي كانت تتحدث اللغات التي تعود بأصولها إلى العربية تمسكت بالفصيحة واعتمدتها في الخطاب الأدبي، حتى في حال وجود عاميات إلى جانبها، أو استخدام اللغات الأجنبية المنتشرة في تلك الحقبة نتيجة القوة العسكرية في المنطقة آنذاك. لهذا نجد أن البلدان التي تحولت إلى عربية القرآن كانت تمتلك أرضية مُهيّئة لهذا الانتقال، بينما بقيت البلدان الأخرى على لغاتها الأصلية سواء اعتنقت الإسلام أم لم تعتنقه، ولهذا ظلت الفارسية المسلمة هي لغة إيران بينما سادت العربية في مصر.
ثم يقسم (الفيصل) العامية في تلك الفترة الزمنية إلى قسمين رئيسين يختلفان في طبيعتهما عن لهجات القبائل العربية فيما بينها -والتي اسمها عامية أيضا- الأولى تشكلت نتيجة الفتوحات العربية والتقاء العربية الفصيحة باللغات المحلية، ويميز هذه العاميات الجديدة قربها من الفصيحة لأنها العامل الوحيد في التفاهم بين المسلمين وأصحاب الأرض. أما الثانية فقد تبلورت بعد ضعف الحكم العربي وكثرة العجم بين العرب، لاسيما بعد تسلم الأعاجم مقاليد الأمور ونشوء حاشية من مقلديهم، وهذا ما أدى إلى تشكيل عامية بعيدة عن الفصيحة.
ومن الجدير بالذكر انه رغم تواجد العامية إلى جانب الفصيحة منذ مئات السنين لم يمنع هذا ويحد من تطور الأدب العربي الذي مر بأبهى مراحله في العصر العباسي الذي تفشت فيه العاميات على اختلاف درجاتها.

الازدواجية اللغوية
ويخلص الدكتور (سمر روحي الفيصل) إلى أن الإشكاليات ليست في اللغة العربية وقواعدها في الوقت الحاضر، بل في الطرق التدريسية، وفي فصل علم النحو عن علم المعاني في التعليم، وانه يجب العمل على اعتماد الفصحى كلغة لتدريس العلوم بدل اللغات الأجنبية في معظم الجامعات العربية، اقتداء بالتجربة السورية التي كان لها دور رائد في هذا المجال، وعدم الإغراق في العاميات في وسائل الإعلام المسموعة والمرئية.

 
 

الوحدة