عفوا هل تعرف كيف تتكلم؟

د. منير عامر

 

دارت بى الطائرة من المغرب العربى إلى قاع المشرق العربي. وفى كل بلد رسوت فيه لبعض الوقت كنت أشعر بالفخر الخاشع لله لأنى من القاهرة؛ وسمعت وصف بلدى عشرات المئات من المرات بأنها قلب العروبة النابض. وطبعا كان الفرح يغمرنى بتلك الاقوال؛ لكن بقليل من التأمل الصادق كنت أرى اللسان العربى مجروحا بألسنة الأجيال الشابة؛ وأتذكر إصرار بن جوريون مؤسس دولة إسرائيل على ألا يتحدث يهودى واحد هاجر إلى فلسطين ليشارك فى احتلالها؛ بلغة غير العبرية؛ كان هذا هو حال القادمين من الشتات، بينما حال اجيالنا الشابة يثير الدهشة والتعجب. ففى المغرب العربى بدا اللسان العربى مختبئا تحت وطأة اللغة الفرنسية، ولم أكف عن تذكير كل من التقيته من أهل المغرب «طبعا تحبون بلدا أهداكم اغانى عبد الحليم حافظ وام كلثوم. وكان يزعجنى سماع الرد بالفرنسية «نعم بالتأكيد»؛ تماما كما أزعجنى سماع واحد من ابناء الجزائر الذى سألنى بالفرنسية «لماذا زرعتم هذا التطرف الأرعن الذى كاد يفتك بالجزائر نفسها فى أوائل التسعينيات؟ «كان الجزائرى يحاسبنى على أننا بعد ان ساعدنا الجزائر بالسلاح من عام 1954 إلى أن نالت استقلالها فى اوائل الستينيات، لم نلتفت إلى من حولوا دين الله إلى هجمة التأسلم؛ وصلت إلى الجزائر على جناح تعاون وثيق من اجهزة مخابرات فرنسية مع نظيرتها الإنجليزية؛ وتسللت تحت عباءة التأسلم لتزرع العنف الذى كاد يفقد الجزائر مكانتها كجسر تحضر بين أوروبا وإفريقيا.

ولماذا أضرب المثل بماجرى فى المغرب العربى ولا أتوقف عن جلسات مصرية فى أنديتنا الاجتماعية الكبرى كنادى الصيد والجزيرة وهيليوبوليس والمعادي، وهى جلسات كانت تصيبنى بإزعاج بالغ، والسبب أن أمهات الجيل الناشىء يتحدثن مع صغارهن بالفرنسية او الإنجليزية؛ وطبعا الكل يشكو لطوب الأرض من احتراف المدارس الأجنبية فنون نهب الأسر حتى ولو كانت متوسطة الحال.

وعندما عدت إلى القاهرة أصابنى زلزال مرضى مفاجئ؛ وكأن هناك من يضغط على هيكلى العظمى ليكرمشه بعنف، وكأنى صندوق كرتونى وقع فى يد مصارع فراح يطبقه ليرميه بعيدا لأنه بلا قيمة .

حاولت الاتصال بالإسعاف فلم ترد ولم يكن هناك مفر من تاكسى فى الثالثة بعد منتصف الليل لينقلنى إلى المستشفى ويتم التشخيص «انيميا حادة» ؛ فقد تكسر الحديد الذى يحفظ لخلايا الدم تماسكها. أفقت بعد أن تم نقل أكياس من الدم لترميم المفقود من الحديد. وكان الإشراف الطبى لاثنين من كبار العلماء؛ أولهما عميد الرعاية الحرجة بالشرق الاوسط د. شريف مختار وثانيهما سيد تشخيص تفاصيل الجهاز الهضمى عبر المنظار وهو د. مازن نجا. وبتحليل أولى لصورة الدم قيل لى إنها انيميا ليست غير حميدة بمعنى انها ليست سرطانية. حاولت فهم معنى كلمة انيميا لاكتشف أنها تسرب الحديد من الدم عبر تسريب غير معروف المصدر. وطبعا كان لابد من استكشاف ما بداخل الجهاز الهضمى عبر منظار يدخل من الفم ليرى الطبيب تفاصيل ما يجرى . ويكتشف مازن نجا ان هناك تسريبا بسيطا لكنه متواصل من بعض القروح فى المعدة والامعاء. وما ان أفيق حتى اقول ساخرا «يبدو ان جسدى يخدعنى فيقلد عالمنا العربى بحالة الفخر بالعروبة دون تحمل مسئولياتها؛ وأبسط مسئوليات أن تكون عربيا هو اللسان العربي؛ فالأمهات عليهن الحوار مع الأبناء بلغة العرب؛ ولا داعى لادعاء التحضر الزائف باللسان الاجنبي، خصوصا انه لا يوجد بيت يتحدث بلغة غير العربية إلا ويشكو أهله من نيران فى حياة كل من الأستاذين المعالجين؛ فأولهما شريف مختار يعلق على جدار مكتبه صورة جمال عبد الناصر مؤسس القومية العربية فى عصرنا؛ ويطل عبدالناصر وهو على هيئة ساعة تشير إلى الوقت فضلا عن تأسيس د. شريف لعلم الرعاية الحرجة فى مصر المحروسة بمساعدة النبيل حقا وصدقا د. إبراهيم بدران عام 1982 ؛ ومنذ ذلك التاريخ دخلت كلمة الرعاية الحرجة حياة المصريين، لكنها وقعت فى ايدى الانفتاح فارتفع سعر سرير الرعاية الحرجة من خمسين جنيها إلى عدة مئات من الجنيهات تصل إلى آلاف مؤلفة . ولمقاومة ذلك أسس الرجل أكاديمية تتبع نقابة الأطباء لتدريس علوم الرعاية الحرجة كى يواجه أخطبوط ارتفاع تكلفتها. وكان الأستاذ الثانى القائم على رعايتى هو مازن نجا الذى يتحدث بفخر عن أستاذه وصديق قديم جليل رحل عن عالمنا هو الاستاذ الدكتور جمال مجاهد الذى كان يرى الانفتاح الاقتصادى هو غول يأكل ضمن ما يأكل الصحة العامة لعموم المصريين الذين لن يقدروا على تكلفة مقاومته, وكان يقدس فى تجربة عبد الناصر نشره الوحدات المجمعة التى تصون القرى من المرض وتعالج خطايا التاريخ الطويل من إهدار إنسانية البشر.

ومازن نجا هو واحد من ابرز تلاميذ جمال مجاهد؛ فضلا عن كونه ابن العالم الازهرى وكيل كلية اللغة العربية الاسبق د.إبراهيم نجا الذى وضع كتبا ليس فى فقه اللغة العربية فقط ولكن فى كيفية صيانتها. وحين قلت له إن ما أصابنى يشبه تماما حال بناء كبير نزع منه الحديد المقام عليه تسليح المبنى ولهذا كاد بناء جسدى ان يتهدم. قال العالم الكبير: وهذا ما يحدث للمجتمعات العربية التى تفقد علاقتها مع لسانها الأساسى وهو اللغة العربية. وعدت الأستاذين ان اكون وفيا لفكرة اى منهما. ووعد كلاهما بأن أهمس فى أذن أمين عام الجامعة العربية الجليل احمد ابو الغيط: ألست أنت أحد فرسان اختبارات الدبلوماسيين فى أثناء عملك بوزارة الخارجية؟ أليس من المفيد والمجدى ان تقود حملة لتحرير اللسان العربى من هذا «الاستعمار السري» الذى أدمنا تقديم السنتنا له بهدوء ورضا وطيب خاطر؟.

ودعوت بالرحمة لصديقى فاروق شوشة الذى وهب عمره لتقديس هذه اللغة التى يتم هدرها فى أيامنا تلك دون أن نأبه لما يفعله ذلك من إلغاء لمعنى نحتاجه فى حصار اللغة الفارسية للخليج العربى وحصار الإنجليزية لمن ينخلعون عن جذورهم بدعوى التحضر؛ ومن يرفعون شأن اللغة الفرنسية حلما بالهرب من واقع شرس. ويتناسى الجميع أن الشر الأعظم هو فقدان الهوية عبر استعمار اللسان فلا يعرف أى منا كيف يتكلم.
 

الأهرام