الكسل اللغويّ

أ. إنتصار ناصر السيف

 

من الأعراض التي تفتّ في عضد اللغة العربيّة الرِّياء اللغويّ، وهو من أسباب الاقتراض اللغويّ غير المُبرَّرة، خلاف الأسباب الأخرى المُبرَّرة التي تضطرّنا للاقتراض، وإضافة إلى الرياء اللغويّ نجد الكسل اللغويّ، يذهب محمود محمّد الطناحيّ في كتابه «في اللغة والأدب دراسات وبحوث»، عند حديثه عن جموع التكسير والعرف اللغويّ، إلى أنّه قد تُستسهل بنية دون بنية ويُستحسن وزناً دون وزن، وهذا ممّا يمكن أن يُسمَّى الكسل اللغويّ. فالكسل اللغويّ لديه هروب المُتكلِّم من الصعب إلى الأسهل.

ولكن ممّا نراه ينطبق على الكسل اللغويّ ظواهر أخرى غير ما ذكر الطناحيّ، كالاقتراض اللغويّ، فقد يستطيع أهل اللغة إيجاد بدائل لقسم من المُقترضات من لغتهم نفسها؛ فيقومون بعمليّات قد تغنيهم عن شيء من الاقتراض؛ فيخضعون المقترضات لنظام لغتهم، مثل التعريب والترجمة في العربيّة.

ولكن إذا كان مجتمع اللغة متكاسلاً وعاجزاً عن السعي إلى إيجاد تلك البدائل، أو عاجزاً عن إخضاع المقترضات لقوانين لغته، فيأخذ المقترضات كما هي؛ لكيلا يقوم بأيّ جهد يسهم في تلبية حاجته اللغويّة؛ فيصبح مستهلكاً لغويّاً يستهلك من اللغات الأخرى كما يستهلك أيّ منتج من المنتجات، فلا يجهد نفسه للعمل والبحث عن أيّ بديل من لغته، ويتناول المقترضات الوافدة كما هي وإن كانت كثيرة.

وزِدْ على ذلك أنّه قد يجد البديل للمقترض ولكنّه يستخدمه ويرجم البديل الذي من لغته، فيستخدم المقترض ويهمل عَرَبيّها، ومثل ذلك كلمة: الحاسوب والهاتف والمذياع، ومقابلاتها المقترَضة:

الكمبيوتر، والتِّلِفُون، والراديو، فتجد بعض أبناء اللغة يتكاسلون ولا يلقون بالاً لذلك، ولا تأخذهم غيرة أو حَمِيَّة على لغتهم، وهذا يفعّل خطر الاقتراض على اللغات المقترِضة ويعزّز الانتصار اللغويّ على لغتهم، ويضعها موضع خطر وتهديد، ويكون سبباً لتدفّق المقترضات بشكل مبالغ فيه ولا سبب له.

والكسل اللغويّ تجده لدى الأفراد، وكذلك لدى الجماعات والمؤسّسات بل على مستوى الأمّة في الوطن العربيّ، فهل بحثت يوماً عن مستوى حركة الترجمة في البلاد العربيّة التي يشوبها الركود؟ ترجمة الإنتاج الأدبيّ والعلميّ إلى غير العربيّة أو الترجمة من لغات أخرى إلى العربيّة.

عندما نهضت الأمّة ونفضت غبار الكسل عنها، نشطت حركة الترجمة في بغداد في عصر المأمون في دار الحكمة، ولكن اليوم في هذا العصر يُلاحظ الركود في النشر والترجمة، فإحدى الدراسات تشير إلى أنّ ما ترجمه العرب من عصر المأمون لا يتجاوز عشرة آلاف كتاب، وهو يعادل ما تترجمه إسبانيا كلّ عام، وأنّ ما تترجمه الدول العربيّة جمعيها في السنة الواحدة لا يبلغ خُمْس ما تترجمه اليونان في السنة الواحدة.

فلِمَ كلّ هذه الغفلة وهذا الكسل؟! فللترجمة دورها في تغذية المجتمع فكريّاً، ورفد القُرَّاء بما يستجد من علوم لدى الأمم الأخرى، وتعريفهم بإنتاجنا، وهو أحد عوامل الحفاظ على اللغة؛ لأنّه يمنح اللغة تجديداً من خلال التعريب للمفردات المستحدثة، لكي يترك المتحدّثون المفردات الأجنبيّة التي تتدفّق كلّ يوم، ويستبدلونها بكلمات مُعرَّبة من لغتهم، فإنّ هذا الكسل اللغويّ الفرديّ والجماعيّ لا يلائم أمّة لها تاريخها في النهضة العلميّة في كافّة مستوياتها، ويجب أن يُبصر المسؤولون ذلك، وأن يسهموا في إنشاء دور النشر والترجمة.
 

الراية