مخطط التلهيج: الخلفيات السياسية والمبررات البيداغوجية

أ. فؤاد الفاتحي


غم المقاومة الشديدة التي أبدتها شرائح واسعة من المغاربة، الرافضة لمخطط "التلهيج" والهادف إلى اعتماد العامية (الدارجة) كلغة للتدريس في التعليم الأساسي، نجح أخيرا عراب المخطط، نورد الدين عيوش، من فرضها في المقررات الدراسية العمومية للموسم الجديد، في تحدّ سافر للدستور الذي يعتبر العربية اللغة الرسمية الأولى في البلاد، وخروجا على منهجية التوافق داخل المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي، المناط به إصلاح أعطاب منظومة التعليم، وضدا على الإرادة الجماعية للشعب المغربي، الذي يرفض المس بلغته العربية، لتحقيق أهداف سياسية بعيدة المدى.

وقد أثارت صور تتضمن مصطلحات عامية (البريوات، البغرير، الغريبية) في المقررات الدراسية للموسم الحالي ردود فعل ساخرة ومنتقدة، حيث عبّر عدد من المغاربة على مواقع التواصل الاجتماعي، عن معارضتهم لهذا الاختراق الخطير للمقررات الدراسية، واعتبر بعض الغيورين، أن هذا القرار يمس جوهر المنظومة التعليمية ويزيد من تأزيمها، وأن لغة التدريس في السنوات الأولى من التعليم، يجب أن تكون هي اللغة العربية، باعتبارها اللغة الأم التي خرجت من رحمها العامية .

في المقابل، حاول بعض المحسوبين على التيار الفرونكوفوني العلماني، الدفاع عن إدراج العامية في مناهج التعليم، معتبرين أن ذلك من شأنه أن يساعد التلاميذ في السنوات الأولى، على سهولة الاستيعاب والفهم، لأن الدارجة هي لغة التواصل اليومي بين التلميذ ومحيطه الاجتماعي، نفس الموقف عبرت عنه الوزارة الوصية معتبرة أن اعتماد أسماء علم لحلويات وأكلات وملابس مغربية يعود إلى " مبررات بيداغوجية صرفة، هذا في الوقت الذي التزمت فيه الأحزاب السياسية الصمت إزاء هذا القرار المثير للجدل، طالب الفريق الاستقلالي بالبرلمان، عقد اجتماع عاجل للجنة التعليم والثقافة والاتصال، لتدارس استعمال "العبارات الدارجة في المقررات الدراسية، وكذا مسطرة إعدادها والمصادقة على جودة مضامينها، وكيفيات تحديد أسعارها".

لم يتأخر ردّ نور الدين عيوش، صاحب مخطط استخدام الدارجة في الإعلام والتعليم، وبدا منتشيا بتحقيقه أول انتصار في معركة اختراق العامية للمقررات التعليمية، وأشاد بما قامت به الوزارة الوصية، قائلا إن "الوزارة لديها شجاعة كبيرة وتقوم بعمل احترافي لصالح المغاربة عبر إعطاء الأولوية والأهمية للدارجة"، واعتبر عضو اللجنة الدائمة للمناهج والبرامج والتكوينات والوسائط التعليمية بالمجلس، في تصريح صحفي أن "هذا القرار في صالح اللغات العربية والأمازيغية والأجنبية"، موضحا أن الهدف البعيد هو " أن تصبح الدارجة لغة المستقبل، وضمن اللغات الرسمية إلى جانب العربية والأمازيغية". 

الخطير في كلام عيوش أنه يعلن صراحة أن الهدف من مخطط التلهيج هو أكبر من استخدام مصطلحات دارجة في مقررات التعليم الأساسي، وإنما هو  إبعاد اللغة العربية من التدريس وتعويضها بالعامية، وهذا يدخل في سياق الحرب المستمرة على العربية الفصحى، من طرف لوبيات فرونكوفونية علمانية تخدم أجندات خارجية معادية للهوية العربية الإسلامية، ولإدراك أبعاد هذا المخطط، يجب التأكيد على أن موضوع تدريس الدارجة المغربية، أثير قبل حوالي ثلاث سنوات داخل الكيان الصهيوني، وكان في البداية عبارة عن برنامج اختياري لتعليم العامية لأبناء وأحفاد اليهود المغاربة المقيمين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، وبعد أن لقي إقبالا ملحوظا على تعلمها، قررت وزارة التعليم الإسرائيلية إدراجها ضمن برامج التعليم في مقررات المؤسسات التعليمية..

وسبق لعالم المستقبليات الراحل الدكتور المهدي المنجرة رحمه الله، أن كشف مبكرا عن هذا المخطط المعادي للغة والثقافة العربيين، من خلال الترويج للدارجة المغربية، حيث أوضح في حوار صحفي سابق:  "إذا كنا اليوم أمام مشكلة تعويض الدارجة للعربية، فإننا غدا سنكون أمام مشكلة حقيقية، إذ سنكون مجبرين على تقبل احتجاج المراكشيين على استعمال لهجة الطنجاويين، وثورة المكناسيين ضد استعمال لهجة الوجديين وهكذا دواليك"، مؤكدا على "أننا أمام توجه مدروس ومقصود، يسعى إلى تركيز العنصرية، فمثلا عندما يسمع شخص من مراكش مذيعا يتحدث باللهجة التطوانية، فإن ذلك يجعله يشعر بالإهانة والعنصرية"، محذرا "نحن أمام خطة تهدف إلى القضاء على اللغة العربية القرآنية، إنه جزء من الحرب الحضارية التي تهدد كياننا اللغوي الآن"، مبرزا  "نحن اليوم أمام ظاهرة جديدة، ولم يعد الاستعمال المكثف للدارجة في وسائل الإعلام بريئا ولا اعتباطيا"، وأكد" أنه ليس ضد الدارجة، لكنه ضد المقاصد غير البريئة من توظيفها، مشيرا إلى أن الدارجة لها مكانتها ودورها في تحقيق التواصل الشفهي، لكن إذا تعلق الأمر بخطاب تلفزي أو إذاعي أو مكتوب لا بدّ من احترام اللغة العربية، التي وُجدت أساسا للعب هذا النوع من التواصل".

في نفس السياق، اعتبر الأستاذ عبد الله العروي أن الدعوة إلى استعمال الدارجة في التعليم الأولي، مبادرة غير واقعية، لأنه في السنوات الثلاث الأولى للتعليم، يتم التواصل مع الأطفال بالدارجة، ردا على عيوش - في مناظرة تلفزية سابقة- الذي اعتبر " أن الطفل يجد صعوبة في التواصل مع المعلم، الذي يستعمل لغة مختلفة عن تلك التي يسمعها في البيت، وهو ما يؤدي في نظره إلى ارتفاع نسبة الهدر المدرسي "، واعتبر الأستاذ العروي أن ما يدعو إليه عيوش يوجد على أرض الواقع، مشيرا إلى أن " العقبة الرئيسية أمام استعمال اللغة الدارجة أو العامية في التدريس مرتبطة بالحرف الذي ستكتب به هذه اللغة"، و" أن الإدارة الاستعمارية الفرنسية كانت قد شكلت في 1934 لجنة تضم عددا من الخبراء لبحث سبل ترسيم اللغة الدارجة كلغة وطنية بالمغرب، فكان جواب اللجنة أن ذلك أمر غير قابل للتطبيق. في المقابل، شدّد العروي على ضرورة " تبسيط تدريس اللغة العربية، وتنظيم دورات تكوينية لفائدة الأساتذة من أجل تلقين لغة عربية مبسطة يسهل على الطفل فهمها واستيعابها".

لكم