مثقفون يبنون جسرا للتوفيق بين العربية وروافدها المحلية

أ. مصطفى عبيد

 

بات استخدام عبارات عامية في الحوار سمة غالبة في الكثير من الروايات الحديثة، ما جدد الاشتباك بين أنصار الفُصحى وأصحاب أو مروجي اللهجات المحلية.

تعد قضية الكتابة بالفصحى أو العامية ظاهرة جديدة، لكنها معركة دارت رحاها منذ خمسينات القرن الماضي، وعادت إلى الأضواء بسبب التنافس المحموم على الجوائز الإقليمية، وطلب كل فريق وضع قواعد وشروط تتناسب مع كتاباته.

ساهم اعتراف لجان بعض المسابقات الأدبية في العالم العربي باللهجات المحلية في تجدد واحتدام النقاش الذي تحول إلى معركة بين فريقين كلّ منهما له حججه المنطقية.

يرى الفريق الأول أن الفصحى تتسع للتعبير عن كافة الصور والمواقف الموحدة بين الشعوب العربية، والحفاظ عليها ضرورة لازمة للارتقاء بالذوق الفني والأدبي.

يقول الفريق الآخر إن اللهجات المحلية (العامية) أكثر واقعية في الحوار وأنسب للتعبير عن بيئات ومجتمعات بعينها، وإنه في ظل السماوات المفتوحة صار من السهل لكل عربي فهم اللهجات العربية المحلية.

النزاع بين الفريقين
يظل نجيب محفوظ، الأديب المصري الحائز على جائزة نوبل في الآداب سنة 1988، النموذج الأشهر الذي يطرحه أنصار الفصحى لتعزيز وجهة نظرهم، لأنه أصرّ على استخدام الفصحى في الحوار، وعوّض صعوبة استساغة بعض الكلمات باستخدام فُصحى قريبة من العامية.

على النقيض كان المفكر المصري لويس عوض أكثر المستخدمين للعامية ونظّم حملات عديدة للمطالبة بضرورة كتابة الأدب بالعامية متجاوزا الحوار إلى السرد نفسه.

ومضى الأديب السوري الراحل حنا مينا على خُطى محفوظ في الالتزام بالفصحى في الحوار، ونجح في تقديم صور شديدة القرب من بيئة المُدن السورية محققا توفيقا بارعا بين الفُصحى والحياة اليومية في الشام.
 
واعتمد آخرون تجارب جديدة قدموا فيها حوارات كاملة بالعامية، كان أبرزهم المصري مصطفى مشرفة في رواية “قنطرة الذي كفر” عام ،1960 والروائي السوداني الطيب صالح في رواية “عرس الزين” عام 1976، ثُم توالى استخدام اللهجات المحلية لدى الكثير من الأدباء.

بين الفريقين، ثمة أدباء آخرون سعوا إلى تبسيط لغة الحوار بشكل أكبر ليتضمن تعبيرات بسيطة باللهجات المحلية، مثلما فعل الأديب الجزائري الطاهر وطار في الكثير من رواياته، والمصري إحسان عبدالقدوس، والأديب العراقي غائب طعمة.

مع ذلك لم يقبل البعض استخدام كلمات أو عبارات محلية في الحوارات، وكان على رأس هؤلاء عميد الأدب العربي طه حسين الذي كتب مقالا في الستينات هاجم فيه الأديب المصري يوسف إدريس بسبب استخدامه كلمات عامية في محاورات قصصه.

بلغ النزاع بين الفريقين حد الاتهامات بتدمير اللغة وإهانة العربية وعدم احترام التراث. بينما يتهم مناصرو استخدام العامية الآخرين بالتزمت والرغبة في فرض سطوة أبوية على الأدب العربي، وعدم قدرتهم على التجديد والتطور.

خطر على اللغة
شكل دخول أجيال جديدة في مجال الأدب تغييرا كبيرا في موازين القوى الثقافية بين الفريقين المتنازعين على اختيار اللغة السردية، فتم اللجوء إلى التوسع في اعتماد العامية كلغة حوار، ووصل الأمر إلى استخدام لهجات مغرقة في المحلية ومعبرة عن بيئات ضيقة مثل أهل الصعيد في مصر، وأهل حلب في سوريا أو الشاوية في الجزائر أو الأكراد في كل من سوريا والعراق.

أدى ظهور العالم الافتراضي ومنصات التواصل الاجتماعي إلى ولادة لغة جديدة يتم تداولها بين الشباب، تعمد إلى استخدام بعض التعبيرات المضادة للفصحى وكلمات أجنبية في حوارات النصوص الأدبية.

أضحى استخدام ألفاظ مكتوبة بالـ”فرانكو-عربية” مثل “ميسد كول” و”ديليت” و”بلوك” و”شات” على ألسنة أبطال الروايات العربية أمرا معتادا وليس غريبا، مثلما كان في بداية التسعينات.

يفسر مؤيدو استخدام العامية موقفهم بأن مهمة الأديب التعبير الصادق عن الواقع، ونقله بصورة أقرب إلى الحقيقة، وهو ما لا يتأتى في ظل تحدّث لص أو مجرم أو شخص يفترض أنه غير متعلم بالفصحى.

ويشيرون إلى أن اللغة العربية مرنة وتتغير كل يوم بفعل التطورات الحياتية، ما يعني أن بعض كلمات العامية قد تنضم إلى الفصحى ويتم اعتمادها عبر مجمعات اللغة بفعل الاستخدام اليومي.

أوضح ياسر رمضان، مدير دار كنوز للنشر بالقاهرة، أن اللهجات المحلية في العالم العربي لم تعد مجهولة، وأن الكتابة بالعامية في مصر تعبر بشكل أصدق عن الواقع الحياتي.

وأكد لـ”العرب” أن كلا من فيسبوك وأخواته (تويتر وإنستغرام وتليغرام..) ساهم في تواصل وتفاهم المثقفين العرب وتجاوز تماما حدود اللهجات المحلية.

وذهب الرافضون لاستخدام العامية في الحوارات، إلى أن الفصحى مُهددة بالانقراض نتيجة الإغراق في اللهجات المحلية، لأن اللجوء إليها يمثل نوعا من الاستسهال، خاصة أن الفصحى قادرة على إحداث المعايشة بين النص والواقع، وتلك هي الموهبة الحقيقية. 

قال الأديب المصري ناصر عراق لـ”العرب” إن “استخدام اللهجة العامية في الرواية، أو في الحوارات بين شخوص الرواية، أمر غير مستحب بالمرة، والعامية تسهم في إضعاف النص الأدبي بصورة يصعب علاجها”.

وأضاف أن “الأدب الحقيقي يجب أن يتكئ على قواعد لغوية معروفة، يستطيع المبدع الموهوب أن يستلهمها ويطوّر فيها، واللهجة العامية لأي بلد عربي محرومة من قواعد محددة، لذا فهي فقيرة وتفتقد الخواص الواجب توفرها في العمل الأدبي الجيد”.

بينما اللغة الفصحى ذات قواعد مستقرة منذ قرون، وتسمح للكاتب الحصيف بأن يفجر طاقتها المخبوءة. ويعدّ نجيب محفوظ دليلا بعد أن جعل الشحاذين والقوادين والعاهرات وبائعي البسبوسة يتحدثون في حواراتهم باللغة الفصحى الرشيقة والجميلة البسيطة.

يسعى بعض الأدباء والنقاد إلى التوفيق بين الفريقين، ويؤكدون أن إطلاق مبدأ حرية المبدع ضرورة دون اتهامات متبادلة ووصاية على الجمهور، ويمكن استخدام العامية في أماكن وجزئيات بعينها.

تحمل نظرية التوفيق أطروحة أن اللغة الفصحى جسر للتقارب بين الشعوب العربية. وتمكن الاستعانة بالعربية الميسرة التي توصف باللغة الثالثة المتوافقة مع العصر، لكن لا ينبغي إغفال اللهجات المحلية المتداولة على ألسنة الناس واستخدامها بحذر.

ويشير الكاتب والمترجم الجزائري يونس بن عمارة إلى أنه لا مشكل في الكتابة بالعامية غير أنه يتحفظ على ترجمة الأعمال الأجنبية إلى العامية مباشرة، ومحاربة اللغة العربية بجعل العامية بديلا عن كل شيء تعني رفعها إلى مرتبة اللغة الكاملة ووضع قواعد لها وتقنينها.

ولفت في تصريحات لـ”العرب” إلى أنه “لو فطن الداعون لذلك لأدركوا أن هذه النقطة بالذات تمثل نعشا يمكن أن تقبر فيه أي لهجة”، مدللا على ذلك بأن الشعر العامي قرّب الكثير من الكلمات العربية الصعبة التي ما كانت لتدخل في المخيلة الشعبية”.

العَرب