اللغة العربية في احتفالات العشاء الأخير

د. مسفر بن علي القحطاني

 

هناك حالة غريبة في عالمنا العربي وهي حدوث الاحتفاء والاختفاء في مكان وزمان واحدين، وربما من الأشخاص أو الجهات نفسهم، وأعظم شاهد على هذه الحالة ما يحدث للغتنا العربية العريقة، من احتفاء وإجلال وتعظيم يدل على هيبة هذه اللغة وقداستها، وفي الوقت نفسه تتقلص من حياتنا يومياً، وتهُمّش من أبنائها الناطقين بها كلما تحدثوا عن النهوض والتقدم!، وتزداد غربتها في اجتماعاتنا ومؤتمراتنا وشاشات التلفزة التي نشاهدها، وفي كل يوم تخرج لنا مناسبة أو ندوة أو كتاب يشيد بعظمة هذا اللغة، وأحياناً تأتي هذه الإشادات على طريقة خطبة وداع حزينة على حافة قبر عزيز مضى، أو على هيئة حفل العشاء الأخير لهذا الرمز الأثير، الذي سنفقده وهو في تمام شبابه وعنفوان قوته، فالجامعة أو الهيئة أو الوزارة التي تقيم ندوة في يوم الاحتفاء باللغة العربية، كالذي تقيمه اليونسكو كل عام في 18 كانون الأول (ديسمبر)، هي ذاتها الجهات التي تقرر أن تتم الدراسة الجامعية باللغة الإنجليزية أو الفرنسية، وهي ذاتها التي تصدر لوائحها باللغة الأجنبية، وهي ذاتها التي تفرض على من يتقدم للعمل فيها ألا يتحدث إلا بلغة أجنبية غير العربية، وتلزم الجميع بقراءة خطاباتها والاستماع الى خطبها باللغة الأجنبية، وأصبحت المنافسة بين أجيال العرب اليوم على حفظ معلقات ميلتون وشكسبير، وقراءة لسان العجم لابن جونسون، والتمتع بروايات همنغواي وتولستوي، هذه الحالة ماذا تعني بعد عقدين من الزمن؟ وماذا تعني للإرث الأدبي والمخزون الثقافي الذي حملناه معنا جيلاً بعد جيل؟ وما الباعث والمغزى من التمرد على روابطنا اللغوية نحو روابط لغوية أجنبية لها امتداداتها الثقافية والاجتماعية اللصيقة بها؟ أسئلة كثيرة تدور في أذهان القاعدين في حفلة التوديع أو على طاولة العشاء الأخير للغتنا الخالدة! هكذا كان يقال لها (الخالدة)، ولا أدري أي خلود يقصدون؟! أمام هذا المشهد الصامت الصارخ، أعلق ببعض القضايا على النحو الآتي:

أولاً: هناك قاعدة يسلّم بها دارسو الحضارات: أن الحضارة لا تقوم إلا بنهضة وتقدم، ولا تقدم بلا فكر وثقافة، ولا ثقافة بلا هوية، ولا هوية بلا لغة خاصة بهذه الحضارة. والواقع يشهد أن لغات الحضارات هي التي كتبت مجدها وتاريخها، ولم يحصل أن ظهرت علومٌ وأمجاد حضارة مميزة بلغة أجنبية عنها. وما يحصل اليوم في عالمنا العربي، من تهميش مقصود للّغة العربية وحصرها في زوايا ضيقة ومتخلّفة، يُشعِر بأن هناك خللاً إما في الفكر وإما في الهوية لدى القائمين على شؤونها، وكم ناقشنا هذه الحالة عندما نتلبس ثوب الدين أو القومية، ثم لا نخرج بعد تلك المناقشات وتبادل مشاعر الأسى بأي حل عملي يعالج موقع هذه اللغة في أذهاننا ومحيطنا الذي نعيش فيه، وفي اعتقادي أن الحلّ يكمن في استفاقة عاجلة، تُنقذ رصيد المجتمع الثقافي والفكري والحضاري من الذوبان والتلاشي الذي نراه مثل جبال الجليد المتهاوية في البحر بفعل التسخن المناخي، وإلا فالأجيال المقبلة ستحاسبنا عن هذا التهاون ولن تغفر لنا هذا التخاذل. ودائما ما نكرر، بلا جدوى عملية، تلك المقارنات بيننا وبين أمم الأرض المتشبثة بلغتها كاليابانيين والصينيين والكوريين وغيرهم، وكيف حفظوا هويتهم الحضارية عندما تمسكوا بلغتهم المحلية، مهما كانت تلك اللغة ضعيفة المحتوى وصعبة التداول مع الآخر، لكن خيارهم في النهوض كان يعني: إما البقاء أو الموت بلا قبر!

ثانياً: مشكلتنا في عالمنا العربي هي التهميش المتعمد للّغة، فكثرٌ من القائمين على شؤون التنمية والتحديث جاؤوا من المجتمعات الغربية، فإبداعهم وميدانهم المهني يظهر من خلال النقل واللصق المباشر لما درسه أو اطّلع عليه أو مما لا يعرف سواه، وقد يحضر مع هذه الحالة عامل نفسي واجتماعي يجعل من هذا النقل البسيط والمحاكاة لما في الغرب سبباً مقنعاً للمعان الذات وسمو الشأن، وهذا ما جعل البعض يتمادى من حيث لا يشعر، ويطلب المحاكاة في كل شيء تقع عينه عليه، حتى ما هو غارق في خصوصية الغرب وليس قابلاً للتصدير، ولنأخذ على ذلك مثالاً ليس في مجال الصناعة والتقانة والعلوم، بل في مجال التفلسف الذي يعبّر عن حالة خاصة من إنتاج الفكر وطرح التساؤلات وتفسير الظواهر وفق أوعية اللغة المعبّرة عنها، فهذا المجال الفلسفي مرتبط باللغة التي ينطق بها الفيلسوف، وأن هذا الارتباط بلغ من القوة درجة أصبح معها الاستمرار في القول بفكر فلسفي عالمي تعترضه صعوبات جمة، فمثل هذا التفكير، وإن افترضنا أنه ممكن، يقتضي وجود لغة عالمية يتداولها الناس جميعاً، ويستعملونها استعمالاً موحداً، وهذا كما هو معلوم مستحيل، فلا يمكن أبداً التفلسف إلا في حدود لغة معينة، وهي التي تؤثر في وضع المسائل الفلسفية، وهذا ما حاول هايدجر وهوسرل وغيرهما تأكيده في غير كتاب، وهو ما دفع الفيلسوف العربي طه عبدالرحمن الى أن يوجه رسالةً في ضرورة تخليص لغتنا الفلسفية من اللغو الذي علق بها أثناء النقل والمطابقة من الفلسفات الأجنبية، والذي حال دون تحررنا العقلي، ودون إبداعنا الفكري، ثم يقول: «رسالة الفيلسوف العربي رسالة لغوية في منطلقها» (سؤال المنهج، طبعة المؤسسة العربية للفكر والإبداع 2015م، ص 112). ويمكن حمل قول عمر بن الخطاب: «تعلَّموا العربيةَ، فإنَّها من دينِكم» (رواه البيهقي في شعب الإيمان 2/258)، أن اللغة هي مناط الفهم ومفتاح الاجتهاد، وبها يتحقق حفظ الدين بإعمال دلالات ألفاظ النصوص ليتسع لها المعنى للجديد المستنبط ولا يقف الدين عاجزاً عن المواكبة. وصدق الحق تعالى: «وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمه لِيُبَيِّن لَهُمْ فَيُضِلّ اللَّه مَنْ يَشَاء وَيَهْدِي مَنْ يَشَاء وَهُوَ الْعَزِيز الْحَكِيم» (سورة إبراهيم ،آية 4) فحتى يحصل لهم البيان الحقيقي جاءهم النبي بلسانهم الذي يعرفون.

ثالثاً: غالب من يختار موضوع استقلال اللغة العربية وضرورة احترام هيبتها، عليه أن يصرح في شكل دائم بأمر بديهي، أن احترام اللغة العربية وتبنيها كخيار ضروري للهوية وبناء التنمية، لا يعنيان التقوقع عليها، وإهمال المنجز الإنساني، وترك تعلم اللغات العالمية التي تمكن الفرد من التعلم والمقارنة والإبداع. وأصبحت هذه المقدمة التي تعني عدم نسيان المنجز الحضاري للأمم هي النتيجة الحتمية التي لم نخرج عنها! والتي تم معها تناسي كامل القضية وللأسف. وأصبح طرح موضوع اللغة العربية في التعليم وإعادة التحدث الرسمي بها في القطاعات كافة، مادة جدلية، ومملّة عند البعض، تنتهي لمصلحة اللغة الأجنبية التي تمدّ المتعاطين معها بالحضور والتأثير والتفرد بالقرار. أما أنصار اللغة العربية فهم مثل أنصار الحفاظ على البيئة كلامهم مقنع وقضيتهم نبيلة، لكنهم أثناء تجمهرهم يمنعون مرور شاحنات رمي النفايات الضارة أن تأخذ طريقها القانوني نحو النهر أو البحر لتفرغ حمولتها الملوثة في المكان الذي نشرب منه يومياً!

رابعا: لغتنا العربية لا مثيل لها في لغات العالم. وهذه الحقيقة تتكرر على لسان الغيورين بها. ثم ماذا بعد؟! أين جهود علماء اللغة العربية من تطوير أدواتها اللغوية، وتقريب آدابها الجميلة، وتعميق إحساسنا بمتعة القراءة بها، ذلك كله أصبح مثار نقد ومساءلة خصوصاً عند المقارنة بلغات أجنبية أخرى، حينها لا يجد أولئك المحبون للغتهم العربية سوى العودة للتراث واستخراج بعض نصوصه كأدلة إثبات على جمال البلاغة والأسلوب، لكنها في الواقع اليوم لم تعد مقنعة ولا ممتعة بسبب سوء التوظيف لقواعدها ومجالاتها البلاغية، والتي باتت عسيرة على فهم المتخصصين فضلاً عن العوام المحبين. ولكي أثبت هذا الخلل المعاصر لدينا، أضرب على ذلك مثلاً بقصص الأطفال العربية، فالمنتج ضعيف جداً بالمقارنة بمثيلاته من القصص باللغات الأخرى، والإخراج الفني لا يوازي الدقة والفهم في مثيلاته الأجنبية المبنية على دراسات في فهم نفسية الطفل واحتياجاته للألوان والرسومات ونوعية الأوراق، والأهم من وجهة نظري أن لغة هذه القصص لا تقترب من فهم الأطفال على رغم ثراء اللغة العربية بالمترادفات البسيطة التي توضح المعنى، ومع ذلك المؤسسات الناشرة لأدب الطفل ذات الجودة وحسن المحتوى قليلة جداً ولا تليق بلغتنا ولا بعالمنا العربي. ولا يختلف الحال أيضاً عن ضعف المحتوى العربي على الشبكة العنكبوتية العالمية، وهذه القضية تحتاج إلى بسط يليق بها لاحقاً.

وفي الختام، هل حاولت أن أغير النظرة عن أهمية عودة اللغة العربية إلى منصتها اللائقة وسؤددها السابق؟ هل سيغير هذا المقال قناعات أصحاب تمكين اللغة الجنبية في بلادنا العربية؟ لا اعتقد ولا أظن أن كلمات هذا المقال تختلف عما كُتب في هذا الموضوع من كتبٍ ودراساتٍ أعمق وأقوى في بيان المقصود. والحل – من وجهة نظري - في الخروج من هذا التيه اللغوي وضياع الهوية، يكمن في مبادرة تنفيذية يصدرها أصحاب القرار في البلاد العربية، تكون علامة فارقة لصاحب هذا القرار على المستوى الشخصي، ومنعطفاً مهماً في مسيرة ثقافة بلاده وحضارته. وأظن أننا في انتظار تلك اللحظة التاريخية التي نرى فيها لغتنا العربية كغيرها من لغات العالم في المقام الأول من التكريم والتبجيل، فالله تعالى قد اختارها لكتابه المعجز والخالد، فلماذا نتعالى بانهزامنا ونختار غيرها؟ وما الذي جنيناه من ثمار هذا التخلي عن لغتنا؟ فعلاً نحن في حاجة الىى لحظة العودة التاريخية للّغتنا، فقد هرمنا في انتظارها!
 

الحياة