الاقتراض اللغويّ وهويّة اللغة العربيّة

أ. إنتصار ناصر السيف

 

لكلّ أمّة روابطها التي تربط أبناءها وتجمعهم، ومن أهمّها رابط اللغة الواحدة، الذي أصبح من أقوى الروابط بين الشعوب، كرابط الدمّ والدين والأرض والتاريخ والثقافة، وكثير من القوميّات اليوم أصبحت تنشأ على أساس الرابطة اللغويّة أكثر من غيرها، وتهتمّ الدول اليوم بلغاتها؛ لتعزيز وحدتها، والحفاظ على نفسها كأمّة ودولة ذات وجود، فأصبحت اللغة من أهمّ مقوّمات الهويّة التي تميّز كلّ مجتمع من الآخر.

وللحفاظ على اللغة يُنظر في المخاطر التي قد تصيبها، فقد تكون عرضة لخطر لغويّ، من بعض الظواهر اللغويّة التي قد تبدو بريئة وطبيعيّة في اللغة إن لم تُستخدم بريبة وحذر، مثل الاقتراض اللغويّ؛ وذلك إذا كانت هناك مبالغة كبيرة في الاقتراض دون اللجوء إلى بدائل أخرى، فلا يُترك باب الاقتراض مفتوحًا على مصراعيه، دون ضبط وتقييد، في هذا العصر الذي تتسارع فيه حركة الإنتاج الصناعيّ والمعرفيّ الذي يرافقه إنتاج لغويّ هائل يُصدّر يوميًا إلى أصقاع الأرض، مصحوبًا بمسمّياته التي أخذها من لغة بلاد المنشأ لتحتلّ مكانا في لغة أخرى.

فالاقتراض وإن كان ظاهرة لغويّة طبيعيّة فإنّه لا يمنع حدوث مخاطر عديدة تنجم عن هذه الظاهرة في اللغة العربيّة، ومن تلك المخاطر كما يرى ممدوح خسارة في كتابه "مخاطر الاقتراض اللغويّ على العربيّة" : ضياع القيمة التعبيريّة للجذر العربيّ، وتغيير البنيّة الصوتيّة العربيّة عبر إدخال أصوات غريبة عنها، وإرباك المعجميّة العربيّة بالكلمات التي تحدث مشكلة في الترتيب في المعاجم، وغموض معاني المُقترَضات في معاجمنا، وتجاوز القواعد الصرفيّة العربيّة، وضياع خصائص اللغة العربيّة التي تختلف في نظامها عن كثير من اللغات المقترض منها. وعلى الرغم من كلّ هذه المخاطر التي تبدو بوضوح لأبناء العربيّة فما زال هناك قصور في معالجة قضايا الاقتراض، حيث تُستحدث كلّ يوم كلمات جديدة في العلوم والفنون، وتدخل بمسمّياتها إلى العربيّة، ويشيع استعمالها على الألسن دون العمل على جعلها متناسبة مع العربيّة، عبر الوسائل المتاحة عن طريق الترجمة والتعريب اللذين يساهمان في تطوير اللغة العربيّة وتغذيتها ورفدها عن طريق وضع المصطلحات بالمسمّيات والمفاهيم لكلّ ما هو طارئ على اللغة من خارجها، فاللغة تستطيع الاقتراض من نفسها قبل أن تقترض من غيرها، من خلال توليد واشتقاق الكلمات من الأبنيّة الخاصّة بها بما يتلاءم مع مفاهيم ومسمّيات لكثير ممّا هو قادم إلى اللغة من غيرها، واللغة العربيّة هي الأجدر بهذا الأمر، وهو من صلب نظامها الصرفيّ الاشتقاقيّ، فهي غنيّة بالأبنية التي يمكن النحت والاشتقاق منها لكلمات كثيرة؛ لتكون بدائل عن المُقترَضات التي بلغت حدّا كبيرًا، ما يساهم في ضبط الاقتراض، فتعتمد اللغة على نفسها؛ لتحافظ على نفسها من الغزو اللغويّ.

فالاقتراض من طبيعة اللغات، وقد تدخل المُقترَضات رغمًا عن اللغة والمختصّين عندما يتداولها مجتمع اللغة؛ فتفرض نفسها على اللغة بينما أبناؤها يعانون من الكسل والرياء اللغويّ، وإنّ تدارك هذا الأمر يعود إليهم إذا ما صحوا من غفلتهم واستطاعوا مواكبة التطوّرات التي تواكب اللغة للنجاة بها؛ لتكون ظاهرة الاقتراض في حدودها المقبولة لا في حدودها المخيفة التي تهدّد الأمن القوميّ واللغويّ للعربيّة؛ لتبقى هويّتها ثابتة، ولا تذوب في هويّات اللغات الأخرى.
 

الراية