أفكار تفتح آفاقاً جديدة للبحث في جذور مفردات اللغة
يطرح هذا المقال عدداً من الأفكار بهدف إثارة المتخصصين في اللغة والنحو، لأجل التفكر والتدبر والتأمل فيها،
تفتح آفاقاً جديدة للبحث في جذور بعض المفردات التي شاعت وتداولتها الألسن من دون أن نتساءل عن أصل ميلادها؛ فاللغة كالإنسان تولد وتنمو، وتتطور وتتسع، واللغة العربية وعاء ثقافي، وإطار قومي، وسياج حضاري، ولسان الإسلام، ولسان الأمة المعبر عن الذات العربية، والثقافة الإسلامية، ومن ثم فهي الرباط المتين، الذي يجمع الناطقين بالضاد، وهي من أغنى اللغات كلماً، وأعرقها قُدماً، وأرحبها لكل ما يقع تحت الحس، أو يجول في الخاطر من تصوير خيال، وتحقيق علوم؛ عبّر بها البدوي عن كل ما يُحيط به، وأسعفته بالعبارات والألفاظ، فوصف بيئته وصفاً دقيقاً، وصورها تصويراً ناطقاً، واستوعبت العلوم المترجمة عن الفارسية والهندية واليونانية وغيرها، وعلى رغم أن اللغة العربية لم تُفرض على البلاد المفتوحة بقوة البطش إلا أنها سيطرت على النفوس، وسحرت القلوب بما توافر فيها من سحر بيان أثر في تلك الشعوب، واستطاعت أن تهضم كل العلوم والحضارات، وأن تجد لمفرداتها المسميات والوصف الدقيق، وحسبها فخراً أنها لغة القرآن الكريم، الدستور السماوي الذي يحوي كل أمور الدنيا والآخرة، يقول الحق سبحانه وتعالى «ما فرطنا في الكتاب من شيء».
تُثير كلمة «اللغة» عدداً من التساؤلات، من أين جاءت؟ ومتى ولدت؟ ومتى استخدمت لأول مرة للدلالة على القول بديلاً عن «اللسان»؟ فإطلاق كلمة اللسان، مصدر القول أو النطق، شائع ومعروف عند العرب منذ ما قبل الإسلام، ويقول أبو حيان (البحر المحيط، ج5، ص 519) «اللسان في كلام العرب اللغة»، ولم يستخدم العرب «لغة» للإشارة إلى اللسان، ويرد جذر الكلمة «لغو» في القرآن الكريم إحدى عشرة مرة؛ بأنه لغو الحديث أو الأيمان «لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم» (المائدة: 89)،»، والإعراض عن اللغو من صفات المؤمنين، أي إن اللغو كل ما لا يُتحصل منه فائدة ولا نفع، ولا يُعتد به، ولا رؤية فيه ولا فكر، ولعلنا لا نزال نستخدم كلمة «لغو»، أو «رغي» في العامية المصرية؛ للإشارة إلى الكلام الكثير غير الواضح وغير المفهوم.
يُعبر القرآن الكريم عن القول العربي باللسان في أربعة عشر موضعاً، يقول الحق سبحانه وتعالى «لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ» (النحل: 103) «بلسان عربي مبين» (الشعراء: 195). ولما أراد الحق سبحانه وتعالى التعبير عن كلام الطير المفهوم البيّن الواضح لما علمه نبيه ورسوله داوود عليه السلام، يقول «عُلمنا منطق الطير» (النمل: 16)، وعبر عن أصوات الطير بلفظ «منطق» تشبيهاً له بنطق الإنسان؛ من حيث هو ذو دلالة على ما في ضمائر الطير، فحقيقة المنطق الصوت المشتمل على حروف تدل على معان، ويقول ابن كثير (التفسير، ج6، ص 148) «سُمي صوت الطير منطقاً لحصول الفهم منه، كما يُفهم من كلام الناس»، أي النطق البيّن الواضح أو القول الفصيح غير المُبهم، ولم يقل علمناه لسان أو لغة الطير، ويرثه نبي الله سليمان في معرفة ذلك، فيُخاطب الهدهد والنملة ويُحادثها، ويفهم قولها، وتجيبه، وفي ذلك الإعجاز، يقول الحق «وإن من شيء إلا يسبح بحمده» (الإسراء: 44)، والشيء هو الجميع سواء كان حياً من منظورنا أم غير حي، وفي ذلك دلالة على أن التسبيح لا يقتضي بالضرورة أن يكون بالقول أو باللسان أو بالمنطق، وقد يقول قائل «وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم» (الأنعام: 38)، إلا أننا يجب أن نُدرك أن المستخلف من الله في إعمار الأرض هو الإنسان.
يقتضي التدليل الرجوع إلى بدء الخليقة، وخلق أبي البشر آدم عليه السلام، وأم البشرية حواء، أو أن الله عز وجل قد أوحى إلى آدم بطريقة اللغات كلها، ثم كتب بها آدم كل الكتب، وبعد زوال طوفان نوح عليه السلام أصاب كل قوم كتابهم، فكان من نصيب إسماعيل عليه السلام الكتاب العربي. ونجد القرائن في القرآن الكريم تؤكد أن لسان أو لغة تخاطبهما وتفاهمهما كانت العربية، ويؤكد الحوار القرآني ذلك، إذ يقول الحق «وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة» (البقرة: 30)، فالإنسان هنا مخلوق ليكون خليفة الله في الأرض، فلما خلقه الله وسواه وأحسن خلقه، «علم آدم الأسماء كلها، ثم عرضهم على الملائكة فقال أنبئوني بأسماء هؤلاء إن كنتم تعلمون قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم» (البقرة: 31)، فالله سبحانه وتعالى علم آدم اللسان الجامع الشامل لكل المنطوقات، فاللسان هو النطق، قال تعالى «أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء» (فصلت: 21). وهناك طور غيبي أخبر عنه في القرآن، وهو الإشهاد والعهد على البشر في علم الذر، «وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بلىۛ شَهِدْنَا ۛأَن تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَٰذَا غَافِلِينَ» (الأعراف: 172) فبأي لسان أجابوا؟ بلسان أبيهم آدم، فكان إقرارهم بلسان واحد في حضور تام وكمال بيّن، وهو اللسان العربي المبين.
ترد للدلالة على الكلام الواضح المبين كلمة «الآية»، كما في قول الحق سبحانه «ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم» (الروم: 22). إذن منطوق أو قول الألسن هو آية من آيات الله سبحانه وتعالى، فالنطق والكلام آية من آيات الله، جعلها طريقة لترجمة الدلالات والمعاني المخزنة لدى الإنسان إلى نطق باللسان، وإخراج للأصوات والحروف والحركات والسكنات. إلا أن الأمر يختلف عند الحديث عن كلام الله عز وجل؛ فهو «كلام الله» أو «قول الله» وليس لغة الله، فاللغة تدل على المفردات التي تخرج من اللسان، أي تنطق أو تُقال، وبالتالي لماذا لم نقل «لقة»، اشتقاقاً من القول، وليست لغة إذا كان المدلول على القول؟
يذكر البعض أن كلمة لغة وردت عند العرب ما قبل الإسلام للدلالة على اللهجة، كأن يقولوا لغة قريش، أو لغة كنانة، وهكذا. إلا أن الجذر «لغو»، هو كلام غير مفيد كما في قوله «لغو الحديث»، وليس بالضرورة أن يكون كلاماً غير بين أو مفهوم أو واضح، ففي الحديث الشريف لما خرج الرسول(ص) على صحابيين يتكلمان في المسجد، وكان كلامهما مفهوماً وبيّناً وواضحاً في متاع الدنيا، قال لهما «لا بارك الله لكما في لغوكما»، لأنه أتى في غير موضعه، كما أن الحديث الشريف يقول «نزل القرآن الكريم على سبعة أحرف»، ولم يقل سبع لغات أو لهجات، ولعل ذلك من باب إطلاق الجزء للدلالة على الكل، لأن الحرف هو أصغر وحدة في اللغة، وقد يطلق ويراد به الكلمة، فهو تعبير مجازي يراد به الكلمة أو اللهجة أو اللغة. وقد يقصد به كذلك النفي القاطع، كأن يقال «حرف لم تعرفه قريش»، فالمقصود نفي معرفتها نفياً تاماً من باب الجزم بالنفي.
يدفعنا ذلك إلى التساؤل: إذا كانت لغة البشرية الأولى التي علمها الحق سبحانه وتعالى للأساس الأول للبشرية هي اللغة العربية، فكيف ولد اللسان الثاني بعد آدم؟ إذا كان أبناؤه أخذوا اللغة عن أبيهم، وبالتالي الأحفاد والأسباط، وهكذا دواليك. ولعل ذلك يدعونا إلى التخمين بأن المدلول الأول للأشياء الثابتة في الكون كان ثابتاً، فلما هاجر الأبناء وتباعدت بينهم المسافات، وتفرقوا إلى جماعات كثيرة العدد وطوائف مختلفة من الناس استقلت بعضها عن بعض؛ بدأت تظهر بينهم لغة تحمل مدلولات كلماتها الأشياء الثابتة في الكون، فاللغة ليست إلا اتفاقاً بين مجموعة من البشر مجتمعين على مفردات تدل على أشياء ثابتة وموجودة، فمثلاً لو اتفقنا على أن كلمة «بوق» ذات دلالة على الكتاب، باتت الكلمة تؤدي المعنى، ونقيس على ذلك، كل الموجودات، وإذا ما سمعت كلمة كمبيوتر مثلاً يتبادر إلى ذهنك ذلك الجهاز الإليكتروني ذي الشاشة والفأرة ولوحة المفاتيح، فهكذا بات المصطلح ثابتاً للدلالة على شيء متفق عليه سلفاً، وهكذا تتشعب اللغة إلى لهجات، وتسلك كل لهجة في سبيل تطورها منهجاً يختلف عن غيرها، فتختلف الأصوات حروفاً وطريقة تبعاً للغة السائدة، وينفتح الباب لدخول الغريب والجديد من الكلمات، وتتغير الدلالات تغيراً واضحاً زمنياً ومكانياً، فاللفظ الذي ينشأ في بيئة يُعبر عن مدلول جديد، فهو ككل كائن حي يتأثر بالظروف والبيئات، وبمرور الوقت تتسع مسافة الاختلاف بينها وبين أخواتها حتى تصبح لغة متميزة مستقلة غير مفهومة إلا لأهلها، لكنها تظل متفقة في كثير من الوجوه؛ إذ يترك الأصل الأول في كل منها آثاراً تنطق بما بينها من صلات قرابة ولُحمة نسب لُغوي.
يدور هنا سؤال من نوع آخر، إذا كان لسان النبي(ص) هو اللسان العربي، وهو مرسل للناس كافة وللعالمين، فهل ذلك يُخالف قول الحق «وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه» (إبراهيم: 4)؟ وكيف يفهم غير العربي اللسان العربي؟ والرسول يقول «بلغوا عني ولو آية»، فكيف نبلغ المتلقي آيات الله، وأحاديث رسول الله، وهو لا يفهم القول واللسان العربي؟ وفي ذلك آية وإعجاز آخر للنبي فهو خاتم الأنبياء والمرسلين، وبالتالي يجب أن تكون رسالته للبشرية، فالحق سبحانه بعلمه للغيب علم أن العالم سيُصبح قرية كونية صغيرة، وسيعرف من يعيش في أقصى شرق البسيطة، ما يحدث في أقصى غربها لحظة وقوعه، وبالتالي فإن رسالة النبي عامة للأرض والبشرية كلها، ولهذا كان التبليغ آيات، وليس أقوالاً؛ يقول الحق «سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق» (فصلت: 53)، فالآية دلالة ثابتة عن القول، واللسان، فحينما ندعو للإسلام لا ندعو باللغة، وإنما بآيات ومعجزات الرسول، وآيات الخلق في الكون، وفي جسم الإنسان، فنخاطب العقل والقلب لمن يتلقى، فإذا ما هداه الله للإيمان بوحدانيته آمن؛ «من يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإيمان».
الوفاق
|