لغتنا العربية وافعالنا

د. رضا العطار

 

من الاوصاف المألوفة ان نقول عن احد الزعماء او الساسة انه – رجل اقوال وليس رجل افعال – واحيانا نسمع من ينبهنا الى ان الكلام غير العمل. وقد كان نابليون نفسه يصف الادباء بأنهم ( تجار الكلمات ) ولأبي تمام شطرة من بيت كثيرا ما تذكر هي

– السيف اصدق انباء من الكتب –

والواقع ان أبا تمام لم يقل كلمة هي ابعد عن الصحة والحقيقة من هذه الشطرة. لان السيوف لا تتحرك، الاّ للكلام الذي سبقها. والكلام هو القوة الروحية المتسلطة. والسيف

هو القوة المادية الخاضعة. أليس من الواضح ان السيوف انما جردت في حروب العرب والرومان لأن كل منهما كان يفكر بكلمات تحمل قوات ذهنية وروحية ونفسية تختلف مما كانت تحمله الاخرى عند الفريق الاخر.
 
ثم انظر الى نابليون ! لقد اضاع كل ما فتحه بالسيف في اوربا وافريقيا قبل ان يموت. اما الكلام الذي رتبه في – قانون نابليون – فلا يزال حيا الى الان. ولو ان نابليون عني بالكلمات ولم يحتقرها لكان الى جانب سيوفه ومدافعه دعابة لمذهبه الجديد في الحكم من حيث اتحاد اوربا. والغاء النظام الاقطاعي، لكنه اهمل هذه الدعابة. وبذلك استطاع اصحاب الكلمات القديمة بزعامة مترنيخ ان يفوزواعليه وان يطفئوا نورالعصرالى حين.

نحن البشر نختلف من الحيوان من حيث ان احسن اعمالنا هو اقوالنا اي هو كلماتنا التي نعين بها المبادئ والمثاليات. ولقد فتح الاسكندر الدنيا المعروفة في زمنه، فما هو ان مات حتى تشتتت. ولكن استاذه ارسطو طاليس، رب الكلمات لا تزال كلماته حية بعد 2300 سنة من وفاته.

وقد خابت الحرب العالمية الاولى. لأن عدتها من الكلمات كانت اقل من عدتها من السيوف والمدافع. فلما انتهى عمل السيوف والمدافع وهزمت المانيا وجاء السلم، لم تجد كلمات ولسون الاصلاحية الجو الملائم لنموها، فذبلت وماتت. امام الأعشاب التي زرعها كليمنصر ولويد جورج. ولو ان كلمات نلسون نجحت ووصلت الى قلوب المتمدنين، ولو انها كانت قد عُبئت بالقوة التي عُبئت بها السيوف والمدافع، لثبت السلم وعمّ الدنيا كلها،

وقد احتاج هتلر الى نحو عشرين سنة وهو يعبيء الكلمات ويشحنها بشحنات عاطفية حماسية تحمل في طياتها الروح العدوانية تجاه شعوب كثيرة، الهدف منها تهيأة الشعب الالماني للصراع القريب الذي ابتدأ في الاول من سبتمبر عام 1939 . يقول المؤلف: وانا الان في ابريل سنة 1944 . وقد خسرت المانيا شيئا كثيرا جدا من السيوف الحادة ومن المدافع ذات القوة التدميرية الهائلة. ولكن قوة الكلمات النازية لا تزال تدفعها الى المقاومة.
 
وما المثاليات والمبادئ الا الكلمات بل ماذا اعطانا الدين غير الكلمات التي كانت تحمل فضائل الاخلاق، لنبني عليها خطط الحياة ؟ وهل نسى ابوتمام ان الاديان تركت كتبا، وان هذه الكتب هي اصدق انباء من السيوف ! ومن هنا ينسى الكلمات الثلاث :

الحرية والمساواة والأخاء . هذه الكلمات التي احدثت الثورة الفرنسية وغيرت حياة المجتمعات في اوربا ولا تزال تغير مجتمعات اخرى في غير اوربا.
 
فميزة الاعمال، التغيير ولكن هذه الميزة نفسها تلصق ايضا بالأقوال. لانه ما من كلمة نقولها في المجتمع الا وتحدث تغييرا . كان ابو تمام شاعرا عربيا وكان ملتون شاعرا انكليزيا وقد قال الاول كلمته الكاذبة ( السيف اصدق انباء من الكتب ) وقال الثاني

( من يقتل انسانا طيبا فإنما يقتل مخلوقا عاقلا هو صورة الله، ومن يتلف كتابا طيبا فكأنما اتلف العقل الانساني )،

والحرب القائمة حاليا هي حرب بين كلمتين الديمقراطية والفاشية، اجل ان هناك اقوالا ليست افعالا وهنا كلمات جامدة لا تحرك المجتمع والاحرى بها ان تعتكف في معبد او في كتب قديمة لا يقرأها الشعب، ذلك لان اخص خصائص اللغة هو اجتماعيتها، فاذا لم يتكلم بها الشعب ولم يجر التفاعل بينه وبينها فقدت قيمتها العلمية ولم تعد الاقوال افعالا.

لغتنا العربية من ناحية العلوم متخلفة، ولهذا لا يتحرك مجتمعنا التحرك العلمي الذي تقتضيه معارف البيولوجيا والكيمياء والسيكولوجيا…الخ وكذلك يعد ادبنا متخلفا ايضا، اذ يكتب احيانا بلغة لا يفهمها الملايين من الشعب. فحيوية اللغة تقاس بقدر ما فيها من افعال وافعالها تقاس بقدر تفاعلها مع المجتمع الذي ينطق بها . فاللغات الانكليزية والفرنسية والالمانية اكثر افعالا من اللغة العربية لانها اكثر تفاعلا مع المجتمعات التي تنطق بها واكثر اتصالا بالعلوم العصرية التي تتحرك بها هذه المجتمعات.

* مقتبس من كتاب البلاغة العصرية واللغة العربية للموسوعي سلامه موسى.
 

صوت العراق