اللغة العربية وأسئلة البحث العلمي

د. مصــطفى غَــلْمَـان

 

لا تفتر الحقيقة من إبداع لحظات الاعتراف والانحياز للغة كوحدة مركزية زمنية وحضارية تفوق كل أولويات العقل ومنطق الوجود والكينونة.

ليس لأن اللغة محدودة بالاتصالية أو مهدورة باليقينيات الذائبة، أو هي قيم مأسورة بفعل التراكم والحضور الباهت في صياغة النظريات الاجتماعية والثقافية والهوياتية.

بل لكونها تغطي مساحة كبيرة من سيكولوجيا المجتمع، بما هو وجود تعددي واعتراف بالجماعات المغايرة واحتواء للاختلاف وبناء الطفرات.

ومن هذه الزاوية يمكن التدليل على أهمية تشكيل حدود واعية بالاندماج اللغوي والوعي بالراهنية العلمية ضمن ضوابط دقيقة للتفكير والبحث والإبداع، تصحح النظرة المغلوطة لعدم قدرة لغتنا الأم على مواكبة التطورات المتسارعة، وجمود علمائها عن الإتيان بما ينسجم ومتغيرات العصر والعلوم الناهضة.

وفي الوقت الذي تدعو العديد من الجبهات الدافعة باتجاه تحفيز الحكومات ومشرعي القوانين وقادة التفكير الإداري والمؤسساتي والدستوري إلى تأسيس تقاليد بيداغوجية وثقافية من أجل وضع مخططات حاسمة لتطوير اللغة العربية وجعلها لغة العلوم الحديثة وبوصلة التنمية بكل أبعادها الابستمولوجية والإنسانية والنفسية، منظرة للقيم العليمة المعاصرة، ومستوفية لكل عناصر الإلهام والابداع والوجاهة العلمية والبحثية، تراكم تشريعاتنا الغافلة مزيدا من الخيبات وأغلالا من السقطات وفوارق مذمومة من الفواجع والتراكمات.

وفي ظل الاستنزاف الضاغط الذي تآكلت عبراته على مرمى المدرسة المغربية، وما تشهده من مظاهر الاختلال والتضعضع، المفضيين للفشل الذريع والعطل المريع، لا نجد غير المسوغات التي تتردد كل حول على مدار سنوات من القحط والجفاء، هي نفسها مسوغات الجمود وانعدام الرؤية واستمرار أساليب التسويف والضعف، غير بعيد عن طرح مزيد أسئلة في المقاربات القديمة الجديدة، خصوصا ما يتعلق بوضع اللغة العربية على مستوى تدبير مرحلة الركود والجمود والغياب القسري:

* وضعية اللغة العربية في البحث العلمي الجامعي والأكاديمي، القصد هنا البحوث العلمية والبحوث الإنسانية والبحوث الفنية، وبحوث الأعمال التجارية والاقتصادية والاجتماعية، والبحث الممارس، بهدف الحصول على نتائج دقيقة ومدروسة في حقول معرفة المستقبل وتقديم حلول قوية للمشكلات وميدان الابتكار والتجديد وزيادة المعرفية البشرية المكتسبة.

* بالإضافة إلى تقييم الحالة العامة للغة العربية ضمن باراديجم البرمجيات العالمية والخدمات الموازية لها الداعمة للبحوث العلمية ؟ مثل ما يتصل بالبرمجيات التطبيقية وتوزيعها وتطويرها والاستعمالات الكبرى لإدارات المستندات الإلكترونية وقواعد البيانات الكيميائية والبيومترية وإدارة المعرفة وتخطيط الموارد المؤسسية والمشاريع ونظم المعلومات وكل ما يتعلق بالمجال المعلومياتي التي تقيم جملة معايير ومستهدفات خاصة ببيئة التطوير والبرمجيات الوسيطة ونظم إدارة قواعد البيانات ونظم التشغيل ...إلخ.

* ثم ما مدى مراعاة التصانيف العالمية والمعايير للجامعات ومراكز البحث والدراسات العلمية العربية للغة الضاد كهوية دستورية لمجال الأبحاث العلمية ونظمها الدراسية والتطبيقية ؟ وهنا لابد من الإشارة لضعف الإنفاق المخجل على البحث العلمي في جل البلدان العربية بما فيهم المغرب طبعا، ما يثير التساؤل حول مركزية القرار الدولي وغياب الاستقلالية السياسية. أحيل هنا لكتاب هام حول الظاهرة وتحليل أبعادها وتجلياتها ، وهو"التصنيف الأكاديمي الدولي للجامعات العربية الواقع والتحديات" للكاتب والباحث المغربي د. سعيد الصديقي الأستاذ بجامعتي العين للعلوم والتكنولوجيا في أبوظبي، وجامعة سيدي محمد بن عبدالله في فاس، ففيه ما يكفي لفضح اختلالات البحث الجامعي والأكاديمي العربي وانكماشه التراجيدي، وتعثراته في توحيد الجهود وإصلاح منظومة الاجتهاد العلمي ومرتكزات بنائه وتطوره.

إن الحديث عن بواعث انتقال التفكير من أدوار اللغة العربية إلى الحدود التي تستوفي أحقية إعمال منطق الاستمالات العقلانية "1"القائمة على مخاطبة العقل وتقديم الحجج والشواهد المنطقية وتفنيد الآراء المضادة بعد مناقشتها وإظهار جوانبها المختلفة، هو في البدء والنهاية محاولة لتأصيل سيميولوجيا تموقع اللغة في صلب التنمية الشاملة، بما هي أداة للقطع مع الأشكال التقليدانية، انطلاقا من تأسيس قواعد جديدة للاقتراب من مسوغات البحث العلمي المنظور، القائم على مبادئ عامة كالاستشهاد بالمعلومات والأحداث الواقعية، وتقديم الأرقام والإحصائيات وبناء النتائج والمقدمات.

وهي ذات الصيغة التي تستقبلها تساؤلات وفرضيات البحث العلمي عندما تجوسه اللغة بمنظارها وتستأثر بفنون تنظيمه وإبلاغه.

ولقد تفنن السابقون في تأصيل هذه المناقب في استحضارات شتى، منها ما يتصل بالمنشأ التاريخي الحضاري للغة العلمية العربية، التي ذاع صيتها وعلا نجمها خلال سيرورة القرن التاسع للهجرة، حتى ارتبط البحث العلمي باللغة العربية، وانتظمت وتوثق الارتباط بها منجما للعلم والترجمة والعرفان. كما اغترفت ينابيع القول الجسور بالنقل الترجمي العلمي من وإلى العربية، حتى صارت العلوم مضرب الأمثال ومحتد الأوصال، فازدهرت علوم الجبر والرياضيات وعلم المناظر ونظرية الأعداد. واتسع الفكر فيها وامتدت في كل اتجاهات الجغرافيا الدولية من السند إلى الهند وبلاد الفرس واليونان ومساحات شاسعة من جنوب أوربا وتخوم آسيا. دون أن ننسى فوران العلوم الإنسانية والاجتماعية قبل كل ذلك، ترصعت نواصي البدل والعطاء في علوم فكرية ولغوية وأخرى في التاريخ والفقه والتفسير وعلوم المنطق والكلام، فكان ذلك سر استدامة اللغة وتحررها وامتدادها في الحياة العلمية والعملية، حيث استمرت القطائع والطفرات في البحث العلمي الأصيل قرونا عديدة خلال ازدهار حضارات منفتحة وثاقبة في الشام والعراق والأندلس حملت أيقونات تفخر بذكرها ركبان الحضارات كلها إلى الآن، وفي ذلك مثال عظيم لذكر آيات من رجالات البحث العلمي العربي والإسلامي المرموق والراقي، كالبيروني وابن الهيثم ونصير الدين الطوسي وابن عراق وابن الشاطر.

وتعطلت لغة الكلام، عندما يفسح النظر تفكيك قلق الكينونة في مضمار ما تخوضه آلات حصر اللغة العربية وتسييجها داخل حدود تداولية مصطنعة، تبادر إلى تحييد حقيقة التشرذم والانقسام في الإجابة عن سؤال التقييد الذي دبر بليل، والإمعان في قتل الأنا بعد إذلالها، والتدجين المخل الذي ينسخ آلاف الحوافز لتوريط اللغة ذاتها، في النكوص والتأخر وعدم مواكبة متطلبات العصر!؟.

إنه الافتراء على اللغة والتعويم السياسي المقنع الذي يهرب الحقيقة ويشوه المآلات ويفاقم الفواجع المنتقمات. فاللغة مهما قيل ويقال تبقى الفكر المدبر للكيان البشري، الصمام القائم بين العقل والقلب، لا ينفك يحرر المثالب التي تغفل عليها الحصوات المبثوثة بين الحجية والمحجة، بين التدليل والإذلال، بين التنصيب والنصب. كما لو أننا بإزاء دحض فواعل الفينومينولوجيا كلغة لقياس حدس الأشياء بتوابع انتقالات تكون فيها ظواهر التأويل هي المبنى الذي تتأرجح فيه نجاعة لغتنا في القبض على الهارب، في إعادة طباعة الزمن لأجل أن يكون قابلا للتفرد والانفراد. تلك اللغة التي لا نيأس من التأشير على تحولها وتدافعها وانتقالها من حالة الركود واليأس إلى عالم الثورة والأمل.

اللغة التي نحيا من أجلها هي نفسها اللغة الأم التي خرجنا من رحمها ونستصرخها في الأحلام والواقع، وفي انتظاراتنا القوية لتكون جسرا لعبورنا لضفة العلم والنهضة والعمران وبناء الإنسان.

اللغة التي نحب .. اللغة التي نعشق .. اللغة التي نبغي .. اللغة التي نتأمل .. اللغة التي تحشدنا باتجاه الشمس وتعز عند المغيب .. اللغة التي نتعلم جديرة بالسعادة.
 

هسبريس