لغتنا العربية في يومها العالمي

أ. أحمد نور الدين

 

كالعادة، وفى الثامن عشر من ديسمبر الحالي، احتفلت المؤسسات والهيئات المهتمة المعنية بلغتنا العربية، في يومها العالمي الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة لها بقرارها رقم 3190 منذ العام 1973، اعترافًا وتحدثًا بها ضمن اللغات الرسمية الست بها، بعقد العديد من الندوات والمؤتمرات وتكريم بعض خبرائها، فيقيم مجمع اللغة العربية غدًا احتفاله السنوي بها، كما تعقد رابطة الجامعات الإسلامية برئاسة أمينها العام الدكتور إسماعيل شاهين بالاشتراك مع رئيس مجلس أمناء جامعة سيناء الدكتور حسن راتب احتفالًا كبيرًا بلغتنا العربية، يشارك فيه نخبة من خيرة علماء وخبراء لغتنا العربية المرموقين، أعضاء لجنة النهوض بها بالرابطة، عبر سلسلة من القضايا البحثية التي تصب في مصلحة النهوض بها وإعلاء شأنها، والأخذ بيدها من مستنقع الإهمال، وتيه الهوان الذى وضعها فيه الغربيون، وبعض أبنائها من دعاة التغريب وأذنابهم.

 
لغتنا العربية، لغة الإعجاز التي جعلها ربنا سبحانه لسان كتابه الكريم، ولسان أهل جنته، ومعجزة إلهية تلطم خد العرب،الذين يتباهون متفاخرين ببلاغة لغتهم وفصاحة ألسنتهم، فكانت عمود فسطاط ديننا ورسالة نبيه، وسمتًا رئيسيًا لهويتنا، وشعيرة من شعائر إسلامنا، صارت تبكي دمًا لا دموعًا على ما آل إليه حالها، فعمد الغرب وأتباعهم من بني جلدتنا إلى التهوين من شأنها ووضعها موضع الاحتقار والاستهزاء وأهلها، فصارت تواجه حروبًا خسيسة شتى من الخارج والداخل، ضربا لهويتنا الإسلامية، وسلخا لديننا ولغة كتابه المقدس.

عمد أعداؤها - وما زالوا - إلى المناداة بإحلال اللغة العامية المصرية محلها، وكما أقرت ذلك أربع جامعات إيطالية في عام 2015 باتخاذ قرار أكاديمي باعتماد العامية المصرية فصحى العصر، تحقيقًا لحلم المهندس "ويل كوكس" الإنجليزي المنادي بهذا في أواخر سنة 1890، ومحاولات فرض ما يسمى بلغة "الفرانكوأراب" على مجتمعاتنا وشبابنا، هذا من ناحية ، أما من الداخل فلا تزال لغتنا العربية وأهلها ومتخصصوها موضع ازدراء وسخرية في وسائل الإعلام والأفلام والمسرحيات والمسلسلات.

وما زال مشروع قانون حماية اللغة العربية أسير أدراج مجلس النواب من أكثر من عام، بمواده الواحدة والعشرين، الذى نص على "إيجاب استعمال اللغة العربية في علاقات الأفراد والهيئات الحكومية ومصالحها"، وما به من وجوب فعله من قبل الأشخاص ومؤسسات الدولة صانعة القرار، والمؤسسات التعليمية والإعلامية والصحفية من الالتزام به في حق اللغة العربية، مشتملا في مادته التاسعة عشرة نصًا عقابيًا لمن يخالف أحكامه، ولكن هناك تسارع الى اللغات الأجنبية الأخرى تعليمًا للأبناء، والاهتمام بالتحدث بها، والتبرؤ التام من لغتنا الأم، وغيرها من المشكلات والمعضلات والأزمات التي تواجهها لغتنا العربية.

وفى حين نفعل نحن بأيدينا في لغتنا ما سبق، نجد كل الدول الأخرى تحتفي وتعلي من شأن لغاتهم، ولأضرب مثالا من فرنسا فقط، فهذا الرئيس الفرنسي الراحل فرانسوا ميتران يعرض أسقاط ديون السبعة وعشرين دول إفريقية أعضاء المنظمة الدولية للفرنكفونية لدى فرنسا، شريطة إبقاء اللغة الفرنسية لغة رسمية لتلك البلاد لا تتغير أبدًا، ودعا الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الحادي عشر من أكتوبر الماضي خلال افتتاحه القمة رقم 17 للفرنكفونية بيريفان الأرمينية إلى النهوض باللغة الفرنسية في المبادلات والمكاتبات بالمؤسسات الدولية على غرار الأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، مؤكدًا أمامهم أن الإنجليزية باتت لغة استهلاك والفرنسية لغة ابتكار.

كما نقلت صحيفة "لو باريزيان" الفرنسية عن مدير مشروع فوليتير"بسكال أوستاسي" تصريحه بإعداده ورشًا تدريبية عن قواعد اللغة الفرنسية، بناء لطلب ثلاثمائة مؤسسة في فرنسا لتحسين مستوى استخدام القواعد اللغوية الفرنسية لدى موظفيها، والأمثلة أكثر من أن تحصى وتعد في ذلك.

من الأشياء الجميلة التي أحب أن أشيد بها، أن بين المسيحيين والعربية رباطًا قويًا لا ينفك، ولعل هذا ما أكده لى فضيلة الأستاذ الدكتور محمد داود المفكر الإسلامي واللغوي عضو مجمع اللغة العربية في حوار سابق مع فضيلته، فذكر لي أشهر الأمثلة على ذلك، مثل ترجمات حنين بن إسحاق للفلسفة والعلوم الإغريقية، وكثير من محققي التراث العربي الإسلامي ذاته كانوا مسيحيين، ومن هؤلاء الأب أنستا سماري الكرملي، والأب جورج قنواتي، وإيليا حاوي، والأب يوحنا قمير، ومنهم أعضاء بارزون في مجمع اللغة العربية، كما أن من المسيحيين من دافع عن القرآن الكريم ورد على افتراءات الملاحدة مثل شبلي شميل الذي رد على اللورد كرومر حين هاجم القرآن وادعى أنه نص عادى يخلو من البلاغة والجمال.

ختاما.. أؤكد أن لغتنا أعز من أن نضيعها، وإذا أضاعت أمتنا لسانها، فسنفقد تاريخنا وحضارتنا وحاضرنا ومستقبلنا، وعلى النخب الغائبين المغيبين أن يفيقوا دفاعًا عن لغتهم العربية التي تطاول عليها العمر، وطالتها يد الإهمال والتحقير، بالتضليل وصناعة الزيف وبرمجة العقول، ولنحافظ على لغتنا العربية نهوضا بها، وتحقيقا لضرورة ملحة وواجب قومي وطني؛ وحفاظا على هويتنا العربية والإسلامية، كما ذكر فضيلة المفتى في بيانه.

ولنثبت لكل أعدائها ومناهضيها أن لغتنا العربية مازالت حية ترزق لن تموت، ولن تنته ولن تندثر، بل ستحيا وستسترد عافيتها بمفهومهما الواسع الشامل، الذي ارتضاه لها ربنا - سبحانه - بما تملكه أكثر من غيرها من اللغات من مقومات البقاء والتطور والازدهار.
 

الأهرام