
التأثير والتأثّر بين اللغة العربية واللغة التركية
د. ابراهيم شعبان
من الجدير بالذكر أن العلاقات السياسية والتجارية والاجتماعية والثقافية القائمة بين الشعوب الناطقة بلغات مختلفة، تؤدي مع مرور الزمن إلى حالة من التأثير والتأثّر والتبادل بين لغات تلك الشعوب. وهذا ما حدث تماما بين اللغتين العربية والتركية. فلا يخفى على أحد أنّ العرب والترك لديهم ما لديهم من أمور كثيرة مشتركة كالدين والتاريخ والثقافة، وكل هذه عوامل أدت إلى خلق حالة من التأثر المتبادل بين اللغتين، حتى أصبح تبادل الكلمات بينهما أمر لا مفر منه. بيد أن اللغة العربية كان لها الغلبة في مسألة التأثير في لغات الشعوب المسلمة الناطقة بغير العربية، وذلك راجع إلى كونها لغة القرآن الكريم. وهذا ما حدث مع اللغة التركية.
ويعود تاريخ معرفة العرب بالأتراك إلى ما قبل ظهور الإسلام، أي الى العصر الجاهلي. والدليل على ذلك أن شعراء العصر الجاهلي، قد ذكروا الاتراك في قصائد لهم. فعلى سبيل المثال قال الشاعر الجاهلي النابغة الذبياني في قصيدته التي رثى فيها الامير الغساني نعمان بن الحارث بن أبي شبر:
قعدوا له غسّانُ يرجونَ أوْبهُ وتُرْكٌ ورهطُ الأعجمينَ وكابل
وعلى نفس الشاكلة فإن الشاعر الجاهلي الأعشى ميمون بن قيس قال في قصيدة له:
ولقدْ شربتُ الخمرّ تر كُضُ حَوْلَنا تُرْكٌ وكَابُلْ
كَدَمِ الذَّبِيحِ غَرِيبَةً مِمَّا يُعَتَّقُ أَهْلُ بَابِلْ
فذكر شعراء العصر الجاهلي الأتراك في قصائدهم دليل واضح على معرفة بعضهم بعضا. ولقد بدأت العلاقات المباشرة بين الشعبين التركي والعربي في عهد الخلفاء الراشدين وخاصة في عهد الخليفة عمر بن خطاب اي في النصف الاول من القرن السابع الميلادي بعد فتح ايران ووصول الجيش الاسلامي الى حدود بلاد ما وراء النهر حيث كان يعيش فيها الأتراك، حتى وإن كانت تلك العلاقات غير ودية.
ونظرا لأن العلاقات في بدايتها كانت غير ودية كما ذكرنا، فقد تأخّر اعتناق الاتراك للدين الإسلامي. لكن مع مرور الزمن، بدا الترك يعتنقون الإسلام، رويدا رويدا بدءً من القرن الثامن الميلادي، ليعتنق معظم التركي الإسلام في القرن الحادي عشر، ليشملهم عندئذ محيط الدين الإسلامي وثقافته.
ولقد أصبحت اللغة العربية اللغة الرسمية للدولة الإسلامية في عهد الخليفة الاموي عبدالملك بن مروان، نظرا لكونها اللغة التي نزل بها القرآن الكريم. الأمر الذي أدّى بدوره إلى انتشار اللغة العربية بين الشعوب الإسلامية الناطقة بغير العربية. وبدأ العلماء من تلك الشعوب يهتمون باللغة العربية التي كانت لغة العلم في ذلك الوقت. كما أن القبائل التركية التي هاجرت إلى المناطق العربية بدأت التحدث باللغة العربية بدلا من التركية وبدأ العلماء الاتراك يكتبون مؤلفاتهم بتلك اللغة. ومن هؤلاء العلماء البارزين العالم عبدالله بن المبارك التركي (ت 797م) والاديب والمؤرخ ابو بكر محمد بن يحيى الصولي (ت 917 م) والفيلسوف الفارابي الذي اشتقّ مقابلا عربيا لمصطلحات الفلسفة اليونانية (ت 950 م) وهكذا قد أصبح الاتراك عنصرا هامّا في العالم الاسلامي.
منذ ذلك الحين بدأت اللغة العربية تؤثر في اللغة التركية، ليتسع ذلك التأثير في القرون اللاحقة، حيث بدأت تدخل الكلمات والعبارات والقواعد العربية إلى اللغة التركية بشكل ملحوظ.
واعتمد السلاجقة والعثمانيون اللغة العربية لغة للعلم والدين والسياسة، لذلك تعلّموها وعلّموها في المدارس. ولقد سارت الجمهورية التركي على نفس المنوال في تعليم اللغة العربية، نظرا لكون اغلبيّة شعبها من المسلمين. وكل هذه الأمور ساهمت في دخول العديد من الكلمات والعبارات العربية إلى اللغة التركية.
ويعتقد أن لغة الكتابة والمحادثة التركية، فيها حاليا حوالي 6500 كلمة اصلها عربية. بعض هذه الكلمات قد دخلت الى التركية بدون تغيير أي كما هي ولكن الكثير منها دخلت الى التركية بعد ما تعرضت لبعض التغييرات الصوتية التي طرأت عليها. بعض الكلمات دخلت الى التركية بتغيير حرف (ب) إلى حرف (پ)، وبتغيير حرف (ت او ط) إلى حرف (د)، وبعضها بتغيير حرف (ج) إلى حرف (چ)،وبعضها بتغيير حرف (خ) أو (ح) إلى حرف (هـ) أو إلى حرف (ك)،وبعضها بتغيير حرف (غ) إلى حرف (ك)، والبعض الآخر بتغيير حرف (ع) إلى حرف (أ) أو إلى حرف (هـ)،وبعضها بتغيير حرف (ن) إلى حرف (م) والخ.
مثل: باذيجان (پاتليجان/Patlıcan)، توت (دوت/Dut)، طبل (دابول/Davul)، جورب (چوراپ/Çorap)، مطبخ (متفاك/Mutfak)، خليل (هاليل/Halil)، حساب (هساپ/Hesap)، غائب (كايپ/Kayıp)، عطّار (أتّار/Attar)، طمع (تماه/Tamah)، سنبل (سمبل/Sümbül) والخ.
أمّا بالنسبة لتأثير اللغة التركية في اللغة العربية، فبدأ مع تولي الاتراك مناصب عالية في جيوش الخلافة الاسلامية وبإنشائهم دولا مستقلة لم تدم طويلا. ومن هذه الشخصيات البارزة التي تولت مناصب مرموقة في جيوش الخلافة الاسلامية أحمد بن طولون (835-884 م) الذي أسس في مصر والشام الدولة الطولونية (868-915 م) ومحمد بن طغج الفرغاني (882-946) الذي أسس في مصر والشام أيضا الدولة الإخشيدية (935-969 م). فهذه الشخصيات البارزة نشرت سمعة للأتراك بشكل إيجابي.
وهكذا بدأت تدخل كلمات من اللغة التركية إلى اللغة العربية، حتى إن هناك كلمات تركية من الكلمات التي كانت مستخدمة في لغة المحادثة العربية في تلك الآونة، دخلت بشكل محدود وقليل إلى لغة الكتابة العربية أيضا، فعلى سبيل المثال في كتاب تاريخ الرسل والملولك للمؤرخ الكبير محمد بن جرير الطبري (ت 923 م) تتواجد بعض الكلمات التركية. مثل: تغار، خاقان، دبوس، دبوق، طرخان والخ.
وفي الفترات اللاحقة أيضا كان دخول الكلمات التركية إلى لغة الكتابة الادبية العربية محدودة جدا وظل ذلك محدودا حتى الآن. ويُعتقد أن هناك حوالي 2000 كلمة من اللغة التركية في اللغة العربية الدارجة أي في اللهجات العربية
وبعض هذه الكلمات التي دخلت الى اللغة العربية أسماء علم أصلا عربية ولكن الخاصة باللغة التركية (حكمت،بدري،تُركي). وبعضها أسماء أماكن (جامع الاغاوات،جامع الباشا،سرجخانه). وبعضها أسماء عائلات (جادرجي،يازيجي،قزانجي). وبعضها كلمات مصنوعة جمع بالقواعد العربية (شوادر،قوشجيه،كبابجيه)، وبعضها عبارات (ليشهزاآيري،ايكيبير،عقليوختر). وبعضها أفعال (بلش،يبلش،تنبل،يتنبل) والخ.
وختاما يمكننا القول إن الدين والتاريخ والثقافة المشتركة بين الشعبين التركي والعربي أدت إلى حدوث تأثير وتأثر بينهما في اللغة التي يتحدثونها، حتى أصبح تبادل الكلمات بينهما أمر لا مفر منه. بيد أن اللغة العربية كان لها الغلبة في مسألة التأثير في لغات الشعوب المسلمة الناطقة بغير العربية، وذلك راجع إلى كونها لغة القرآن الكريم. وهذا ما حدث مع اللغة التركية. الكلمات والعبارات العربية التي دخلت إلى اللغة التركية العربية تستخدم في لغة الكتابة والمحادثة التركية في نفس الوقت. كما أن الكلمات التركية التي دخلت الى اللغة العربية تستخدم غالبا في اللهجات العربية الدارجة أكثر من اللغة المستخدمة الكتب الأدبية.
|
|
|