الثقافة العلمية العربية بين استهلاك المنجز والمحرمات

أ. أشرف الصباغ

 

كيف يمكن تطوير الثقافة العربية، وجعل الثقافة العلمية جزء منها، والاستفادة من الفضاء الذى تتيحه وسائط الاتصالات، لزيادة معدل الحرية فى التفكير والإبداع، وكيف يمكن تطوير اللغة العربية حتى تكون صالحة للتعامل مع هذه الوسائط الحديثة، وإعدادها إلكترونيا للقيام بالترجمة من اللغات الأخرى واستيعاب العلوم الحديثة؟. 

هناك ارتباطات شرطية بين النقطتين السابقتين، إذ تتضمن كل نقطة جملة من التفاصيل الهامة التى لا يمكن أن تنفصل بأى حال من الأحوال عن بعضها البعض، ما يجعلنا نطرح تساؤلات حول مدى ارتباط الثقافة باللغة والعكس، وأيهما أحق أولا بالتطوير، وما هى الركائز الأساسية (الرصيد المعرفى المتراكم) لتطوير أى منهما أولا أو الاثنين معا، وما هى المحاور الأساسية للعالم الجديد التى تستدعى تطوير الثقافة واللغة، وما هى الإمكانيات المتاحة، هنا لا يمكن أن نتجاهل أن اللغة وسيلة وهدف فى آن واحد، وكذلك الثقافة أيضًا.

هناك شبه اتفاق على أن المحاور الخمسة الأساسية للعالم الجديد تتلخص، على الترتيب فى:

1- التقدم العلمى - التقنى.

2- الاقتصاد السياسى، بما فى ذلك الركيزة الأساسية للاقتصاد الدولى (الشركات متعدية القومية).

3- السياسة الدولية.

4- المجال الجيوسياسى.

5- الأمن الدولى.

وإذا لاحظنا، فالمجال الأول يتعلق بما نود أن نطرحه، قد يمكن تطوير الثقافة بمعزل عن اللغة والعكس، ولكن فى حدود ضيقة للغاية تخضع لقوانين التحولات الكمية والكيفية، فمن الممكن أن يعمل المتخصصون على تطوير وتبسيط قواعد النحو والصرف، وهو ما يمكن أن نطلق عليه عملية التطوير الذاتى، أى الجهود المتواصلة فى تطوير علم ما رغم عدم وجود طلب عليه، من الممكن أيضا أن يجرى تطوير الثقافة فى أطر هيكلية محدودة مثل استحداث مجالات ثقافية، إضافة إلى المتعارف عليه والدارج فى وسائل الإعلام والأعراف البسيطة.

وكذلك بلورة رؤية ما محددة فى مجال ثقافى محدد، ولكن أن يتواصل ذلك ويستمر على خطين متوازيين، فهذا من رابع المستحيلات، لأن الارتباط بين الثقافة واللغة ارتباط عضوى يصل بالاثنين إلى ما يسمى بالإطار المعرفى الذى يتضمن مجمل النشاطات الإنسانية، علما بأن العلم والتطور العلمى هما جزاءان لا ينفصلان لا عن الثقافة ولا عن هذا الإطار المعرفى الشامل.

كيف يمكن تطوير اللغة بحيث تكون صالحة للتعامل مع وسائط الاتصال الحديثة، وإعدادها إلكترونيا للقيام بالترجمة من اللغات الأخرى، واستيعاب العلوم الحديثة؟، سؤال مركب وفى غاية الصعوبة فى آن واحد، فاللغة العلمية هى اللغة الصالحة للتعامل مع وسائط الاتصال، هذه اللغة هى نتاج عمليات متواصلة من تطوير اللغة وتطوير العلوم معا، أى المشاركة فى المنجز العلمى وليس فقط استهلاكه؛ لأن الاكتفاء باستهلاك المنجز العلمى سيختصر المسافة ويجعلنا نقوم بإعداد اللغة إلكترونيا للقيام بالترجمة من اللغات الأخرى، أى ببساطة سيجعلنا نقوم بترجمة المصطلح العلمى، الذى أنتج فى بيئة مختلفة وبلغة مختلفة، إلى اللغة العربية فى كلمة أو جملة وكفانا الله شر القتال!.

أما فكرة استيعاب اللغة للعلوم الحديثة، تعتبر فكرة متشابكة وإشكالية، فنحن نتحدث أصلا عن لغة تتكلم بها مجتمعات لم تساهم فى المنجز العلمى - الحديث يدور هنا لا عن أفراد نجحوا فى الداخل أو فى الخارج ضمن منظومات أخرى مغايرة-، وبالتالى لم يألف ذهنها التفكير بشكل علمى محدد، ولم يتمرن لسانها على الحديث بشكل دقيق ومحدد، بل وتتعامل مع الأرقام بصورة بلاغية بعيدا عن دلالاتها المجردة والإحصائية.

قد يرى البعض أن عظمة اللغة العربية وإعجازها فى البلاغة والإطناب وقوة التعبير، وبالتالى، يعيدنا ذلك إلى مربع الصفر أو البداية، فلا أحد يستطيع أن ينفى البلاغة عن اللغات الأخرى، ولكن هذه اللغات استوعبت المصطلحات العلمية لوجود مقدمات اجتماعية وتاريخية، وجهود فى تأسيس هذه المصطلحات.

هذا الأمر يحيلنا إلى قضايا حرية البحث العلمى التى لا تزال من "المسكوت عنه" فى العالم العربى، ولعل الرقابة بنوعيها على هذا النوع من النشاط البشرى تشكل منطقة الفراغ الخانق أمام الباحثين، فهناك رقابة خارجية من جانب المجتمع تحت ستار الدين والأخلاق والعادات والتقاليد، ورقابة داخلية - الذاتية للباحث نفسه الذى تربى فى مثل هذا المجتمع، غير أن وسائل الإعلام ومراكز الأبحاث المتواضعة تتناول ظاهرة التخلف العلمى فى العالم العربى بصورة تدعو إلى المزيد من الدهشة؛ لأنها دوما تناقش النتائج، وتحاول قدر الإمكان الابتعاد عن الأسباب الحقيقية. فهى دوما تطرح قضايا هجرة العلماء العرب إلى الغرب، ونبوغ الباحث العربى عندما تتوافر له الإمكانيات، وكيفية رصد الميزانيات الخاصة بالبحث العلمى، وبناء المعامل والمختبرات، بل وأحيانا يذهب البعض إلى أهمية التربية العلمية من المدرسة والجامعة، والاهتمام بالمواهب والقدرات العلمية، كل هذه النتائج تشكل المادة الأساسية التى تجترها وسائل الإعلام العربية ونشرات مراكز الأبحاث، وأحاديث أساتذة الجامعات فى وسائل الإعلام، لدرجة أن الأسباب الحقيقية أصبحت من الأمور المحرمة.
 

مبتدا