
الأدب السوداني مازال بكرا
أ.د. محمد عبد الله سليمان
ظل المبدع السوداني ينتج الأدب منذ أمد بعيد لاسيما الأدب الشعبي، الذي يعد علامة بارزة في الثقافة السودانية بما يحويه من عناصر التعبير عن واقع الحياة السودانية في أدق تفاصيلها، ويتوغل في حناياها البعيدة الأغوار، ويتمثل ذلك في قصص الأطفال، وحكاوي الجدات، والأحاجي والأساطير والخرافات والأمثال الشعبية التي تمثل عصارة تجارب الشعوب والتعبير عنها، كما أن شعر الدوبيت يؤدي دورا عظيما في ترسيخ القيم السودانية الفاضلة.
هذا الأدب الشعبي الغزير للأسف الشديد لم يجد حظه من التدوين والتوثيق لرموزه مما جعله في كثير من الأحيان عرضة للنسيان والضياع، ولم نجد موسوعات ومدونات توثق له إلا في محاولات بعض الكتاب مؤخرا؛ ولذلك عندما يريد الباحث أن يرجع إلى هذا الأدب لا يجد المصنفات الكافية التي تعينه على البحث في رموزه، والحقب الزمنية التي أنتج فيها، والنصوص المكتوبة في مدونات ويمكن الرجوع إليها، ومدى صحة الرواية الشفاهية المصاحبة له.
أما الأدب الفصيح فقد اشتد عوده مع بروز حركة التحديث في الحياة السودانية وما طرأ عليها من تغيير اجتماعي وسياسي وثقافي لاسيما في حقبة العشرينيات والثلاثينيات التي شهدت تطورا كبيرا في الحركة الأدبية والنقدية في السودان، فبرز عدد كبير من الشعراء الكلاسيكيين والرومانسيين آنذاك، وبعض كتاب القصة، والمقال النقدي، وصدرت مجموعة من الصحف والمجلات التي أبرزت ذلك النشاط الأدبي حيث كان يمارس الكتابة فيها بعض المثقفين السودانيين، وعلى الرغم من كل ذلك فإن تقصير النقد وعدم مواكبته لغزارة الإنتاج الأدبي ظل مصاحبا للحركة النقدية إلى يومنا هذا.
ونعدد في هذا المقال الأسباب التي أدت إلى تخلف الحركة النقدية عن حركة الإنتاج الأدبي، والتقصير في مواكبتها مما جعل البون شاسعا بين الإنتاج الأدبي والنقد، وهذا ما يدعونا إلى القول بأن الأدب السوداني مازال بكرا.
إشكاليات الأدب السوداني:
تتعدد الإشكاليات التي تواجه الأدب السوداني وتتنوع مما يدعونا إلي الوقوف عند بعضها لمعرفة القيود التي تكبل حركة الأدب والنقد في السودان، وتحول دون انطلاقها في الآفاق الرحبة.
أولا: شفاهية الثقافة:
يخيل إلي أن الله فطر الإنسان السوداني على جبلة الكلام دون الكتابة والتوثيق، فنحن نتحدث كثيرا، ونكتب قليلا، ولو أننا نكتب كل ما نتحدث به لملأنا الدنيا علما في كل المجالات، فالعجز عن الكتابة والميل إلى الشفاهية هي السمة المسيطرة على حياتنا، والعلم يقيد بالكتاب.
ثانيا: تأثير الثقافة الرافدة:
الثقافة الرافدة تتمثل في مصدرين هما الأدب الإنجليزي والأدب المصري وسأركز على الأخير، فمن المقولات المشهورة قديما"القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، والخرطوم تقرأ" وأعتقد أنها من المقولات السالبة التي تجعل من المثقف السوداني مستهلكا للثقافة وليس منتجا لها حيث ظلت الثقافة الرافدة القادمة إلينا من شمال الوادي تؤثر على الذهنية السودانية، فكانت لها إيجابياتها وسلبياتها وحقيقة ما يأتي من مصر كان مصدر إعجاب للمثقفين والشعراء والأدباء السودانين، فما من كتاب أو صحيفة أو مجلة تصدر في مصر إلا وتصل فورا إلى السودان فيتلقفها المثقف السوداني ويعكف على قراءتها، ولا شك أن لهذه الثقافة جوانب إيجابية على المجتمع السوداني، ولكن لها جوانب سالبة من أسوئها الانصراف إلى هذه الثقافة الرافدة، والانشغال بالمعارك الأدبية الدائرة في مصر آنذاك، ومن تأثيرات الثقافة المصرية أن مجموعة من المؤلفات النقدية في الأدب السوداني كانت من نقاد مصريين عملوا في الجامعات السودانية نذكر منهم عبد المجيد عابدين الذي كتب عددا من المؤلفات منها"تاريخ الثقافة العربية في السودان"،و"دراسات سودانية" و"التجاني شاعر الجمال" وغيرها، وعز الدين إسماعيل الذي ألف كتاب "الشعر القومي في السودان"، قدم فيه سهمه في الشعر الشعبي على صعوبة اللهجة السودانية المحلية بالنسبة إليه، وألف كتاب"القصص الشعبي في السودان-دراسة في فنية الحكاية ووظيفتها" وظلت هذه المؤلفات تتربع على قائمة المراجع في الأدب السوداني يرجع إليها الباحثون ويقتبسون منها.
ثالثا:الطقوس الاجتماعية:
الشعب السوداني من أكثر شعوب العالم ميلا إلى المجاملات في الحياة الاجتماعية، والمثقف السوداني ليس بدعا من هذا المجتمع فهي تستهلك منه أوقاتا كثيرة مما يجعله ينغمس في هذه المجاملات على حساب الدور الريادي الذي يجب أن يقوم به تجاه العلم والبحث العلمي والتأليف، فالمثقف يقضي جل وقته في المجاملات من أعراس ومآتم وغيرها من المناسبات الأخرى فكل العلماء الذين أنجزوا مشاريع علمية أو نقدية أو فكرية في العالم تفرغوا لهذه المشاريع تماما على حساب كل شيء فضغط المجتمع لا يترك مجالا للعلماء للإنتاج والإبداع في مجالاتهم والمثقف كذلك لا يستطيع الانفكاك عن المجتمع والانعزال عنه، فإذا حدث ذلك فإن المجتمع يعده نوعا من تعالى المثقف على قيم المجتمع وعاداته وتقاليده؛ ولذلك يموت جل هؤلاء العلماء محملين بعلمهم دون أن يدونوه، وفي هذا خسارة كبيرة للثقافة السودانية والعربية فلو أن المجتمع السوداني عذر المثقف، وسمح له باستثمار وقته في خدمة الثقافة لجنينا فائدة كبيرة وعلما غزيرا، فأوقات العلماء والمفكرين مهدرة في الطقوس الاجتماعية.
رابعا:الانشغال بسبل كسب العيش:
ضيق ذات اليد في السودان يدعو العلماء والنقاد والباحثين إلى اللهث وراء كسب العيش، وتأمين العيش الكريم لأسرهم، فهم مشغولون بتفاصيل الحياة المعيشية الدقيقة التي تستهلك ما يتبقى من أوقاتهم التي تستنزفها المجاملات الاجتماعية، وبالتالي فحياتهم غير مستقرة مما يحدث عليهم ضغوطا نفسية كبيرة، فلو توافرت لهم سبل الحياة الكريمة لتفرغوا للعلم وخدمته.
خامسا:تقصير دور النشر:
تقصير دور النشر لا تخطئه العين فهي لا تشجع المثقفين على طباعة مؤلفاتهم، وتسعى دائما إلى كسب المال، ولا تنشر إلا مايدر عليها دخلا وفيرا، وهي معذورة في ذلك لأنها ليست جمعيات خيرية، وإنما هي مؤسسات ربحية، ولكن يجب أن يكون عندها نوع من المقدرة على المغامرة مع الأعمال الجديدة، والكتاب الجدد حتى لا تكون كتاباتهم حبيسة الأدراج، فهي تهتم في الغالب بالنشر التجاري من كتب المقررات الدراسية، ومذكرات الأساتذة فأرباحها مضمونة، كما أن دور النشر لا تعيد نشر المؤلفات القديمة مما يتعذر على الباحث أن يجد هذه المصنفات إلا بشق الأنفس عند الوراقين، ويجدها قد بليت وفنيت وأكل عليها الدهر وشرب.
سادسا:غياب المشاريع النقدية:
ومن إشكاليات النقد في السودان غياب المشاريع النقدية التي تخدم قضايا الأدب السوداني كأن يتبنى الناقد جنسا من أجناس الأدب السوداني ويشتغل عليه وينجز فيه بحوثا ومؤلفات تكرس لخدمة النقد، وتعتصر هذا الجنس الأدبي لتخلص منه إلى نتائج يستفيد منها المبدع والمتلقي معا.
سابعا:التقصير الإعلامي:
لاشك أن وسائل الإعلام بكل أشكالها مقصرة في إبراز قيمة الأدب السوداني، ولم توله اهتماما كبيرا؛ ولذلك كثير من الشعوب العربية تجهل الأدب السوداني، والأدباء الذين اشتهروا لم يتحقق لهم ذلك إلا بعد أن هاجروا من السودان ومنهم الطيب صالح والفيتوري وغيرهم، ففي تقديري أن الصحافة السودانية والفضائيات ودور النشر عجزت عن التعريف بالأدب السوداني.
إمكانيات الخروج من الأزمة:
للخروج من أزمة شح النقد التي يعانيها الأدب السوداني وربما الأدب العربي بدرجات متفاوتة نقدم بعض المقترحات التي يمكن أن تسهم في تجاوز هذه الأزمة:
أولا:دور الجامعات:
الجامعات يقع عليها العبء الأكبر في التوجه نحو تبني مشروعات نقدية في كلياتها وأقسامها العلمية المتخصصة، وفي الدراسات العليا، وتوجيه البحث العلمي نحو دراسة الأدب السوداني، والإبحار في ثناياه بعمق، وتبني رؤية واضحة وإستراتيجية محكمة في النهوض بهذا الدور.
ثانيا:المقررات الدراسية:
شاركت بتعليق في ندوة في العام 2014م، أقامها مجمع اللغة العربية بالخرطوم في الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية بعنوان: "تطوير مناهج الأدب في السودان منذ الاستقلال وما حدث فيها من تغيرات" ترأس الندوة المؤرخ السوداني المعروف، ومدير جامعة الخرطوم الأسبق البروفيسور يوسف فضل،علقت في هذه الندوة تعليقا مستفيضا أختصره فيما يلي: القارئ للخارطة الأدبية لمناهج الأدب في السودان يلاحظ أننا نعطي الآخر مساحة كبيرة في مقرراتنا الدراسية، ونظلم الأدب السوداني على الرغم من أنه أدب ثر وغني، ويشتمل على جميع الأجناس الأدبية، وإذا رجعنا إلى مقرراتنا الدراسية نلاحظ قلة النصوص المختارة من الأدب السوداني، والنتيجة أن الطالب السوداني عندما يصل إلى التعليم العالي يكون ضعيفا في معرفته بالأدب السوداني، وهذا عيب كبير، وقد قدمت توصية للندوة تتلخص في زيادة جرعة الأدب السوداني في مقررات التعليم العام، والتعليم العالي.
ثالثا:دور المؤسسات الرسمية:
أعني بالمؤسسات الرسمية الوزارات، ومراكز البحوث، والإعلام وغيرها من الجهات المنوط بها نشر الثقافة السودانية والاهتمام بها، وتوصيل صوت الأديب والناقد السوداني إلى كل أرجاء العالم لاسيما أن وسائل التواصل وسبل نقل المعرفة أصبحت متيسرة وسهلة نحتاج فقط إلى الهمة العالية والشعور بقيمة الثقافة السودانية عموما، والأدب السوداني خصوصا، ومعرفة كيفية تسويقه حتى نتيح للآخر فرصة الاستمتاع به، والبحث في قضاياه.
|