|
بين الهوية والانتماء: القصة العربية تبحث عن مكانتها الفنية بين الآداب العالمية
الجيلاني شرادة
استطاعت القصة العربية أن تأخذ مكانتها الفنية بين الآداب العالمية منذ نهاية القرن الماضي.
حيث أصبحت تنافس غيرها، من آداب الشعوب الأخرى، على مكانة الريادة . فمن جائزة نوبل للآداب، إلى جوائز أدبية أوربية أخرى، تحصل عليها أدباء و روائيين عرب.
والسؤال المعرفي المطروح في هذا السياق،هو: ما هوية هذه القصة،وما تفاصيل انتمائها الفني؟
إن الباحث في أصول الرواية والقصة العربية عموما، قد يجد صعوبة في تحديد ملامح ميلادها ومحيط تكوينها الأول وبالتالي نشأتها وتطورها، وبالتأكيد أيضا- أنه سيصطدم بالسؤال التقليدي المعروف : هل القصة الفنية المعاصرة هي نتاج تطور القصة العربية القديمة ؟ أم هي نتاج تأثر بالقصة الغربية الحديثة.؟. و هو السؤال الذي يبدو من الوهلة الأولى وكأن جوابه ينبغي أن يحتمل فقط إحدى المسارين (العربي أو الغربي). وكانت الإجابات السابقة في أغلبها تحاول أن تتوسط بين الخيارين، وكأنها تقول بأن العرب كانوا قد عرفوا فن القصة قديما، إلا أنها لم تنضج فنيا إلا بعدما تأثرت بالقصة الغربية الحديثة . وفي هذا الجواب جانب مهم من الصحة إلا أنه منتقص لشيء من العلمية ومن الدقة التوصيفية كذلك.
أما إذا حاولنا البحث على الجواب الصائب لهذا السؤال، خاصة بعد توفر المعلومات ووفرة المراجع، فإن الأمر يدعونا للعودة السريعة إلى الأصول الأولى للقصة العربية، والتدرج معها وصولا إلى التلاقي مع القصة الغربية ثم القصة الفنية العربية الحديثة. عملا على تقصي أصول انتمائها وحقائق هويتها. وبالعودة إلى المهد الأول للقصة العربية فسوف نستشف ثلاث ملامح أساسية ظهرت عليها صورة القصة في بداياتها الأولى.
01 ـ القصص الشعبي : وهي قصص تروى مشافهة يتداولها العامة من الناس . ظهر هذا النوع من القصة منذ البدايات الأولى (العصر الجاهلي) واستمر حتى العصر العباسي، وهذا النوع من القصة، هو عبارة عن حكايات تتناول سير الأبطال ووقائعها الحربية، وكذا أساطير الأولين وغيرها، كسيرة عنترة، وبطولة سيف بن ذي يزن، وسير الخلفاء والملوك والأمراء، كما تعرض لحكايات العشاق، كقصص العذريين وما إلى ذلك .
2 ـ القصص المترجمة:تبعا لحركة الترجمة التي مست العلوم والمعارف المختلفة في العصر العباسي، فقد اختص بعض المترجمين في نقل قصص وحكايات الشعوب الأخرى خاصة الهندية والفارسية ـ إذ ترجم عن الفارسية عبد الله بن المقفع كتاب : ‘هزار أفسانه’ (ألف خرافة) وهو الكتاب الذي يرجح بأن يكون نواة لكتاب ‘ألف ليلة وليلة’ بعد مروره بعدة مراحل. كما ترجم ابن المقفع كتاب ‘كليلة ودمنة’ (مع تصرف في بعض فصوله ومحتوياته) كما ترجمت عن اليونانية بعض الكتب السردية، ذات الطابع الفلسفي، وأهمها : ترجمة ‘حنين بن إسحاق’ لكتاب:’سلامان وأبسال’ مع ملاحظة عدم ترجمة الملاحم اليونانية ؛ كونها شعرية ؛ ولذا فـ’ الشعر لا يُستطاع أن يترجَم ولا يجوز عليه النقل ومتى حوِّل تقطَّع نظمُه وبطلَ وزنُه وذهب حسنُه وسقطَ موضعُ التعجب..’.. حسب قول الكاتب ‘الجاحظ’ في ‘كتاب الحيوان’. كما لا يستبعد الرقيب الديني الذي كان يتحفظ على ترجمة القصص التي تقترب، في سردها وشخوصها، من العقائد، نظرا لكون الملاحم القديمة تعدد الآلهة كأبطال لها، إذ تعد ـ حسب بعض المراجع الدينية ـ حينئذ ـ من الوثنيات.
03 ـ القصص المبتدعة: وهي القصص المكتوبة والتي ابتدعها أصحابها في البيئة العربية مشكلة لنواة القصة العربية بلسانها الفصيح. ويعتبر ‘كتاب البخلاء’ للجاحظ خير من يمثل هذا الصنف، وفيه تم إطلاق تسمية ‘القصة’؛ بحيث وظفت هذه التسمية على أغلب ما ورد من سردياته،وهو مصطلح متطور عن ‘الخبر’، و’المثل’ وما سبق من تسميات للحكايات والنوادر. كما تخلصت بعض قصص ‘كتاب البخلاء’ من الإسناد الذي كان يثقل كاهل القصة العربية وأسلوبها حتى ذلك الزمن. وهكذا أصبحت القصة تتداول مكتوبة وفصيحة بشكل رسمي، بعد أن كانت شفهية شعبية، لا ترتقي إلى مستوى الأدب الرسمي.
ومما لاشك فيه أن هذه الأنواع المختلفة من الفن القصصي قد تفاعلت فيما بينها، واستفادت من خبرات صانعيها وأذواق المقبلين عليها، لتزداد نضجا، ويتجلى ذلك لاحقا عندما يبرز فن المقامة، هذه الأقصوصة الجميلة التي تقترب في فنياتها من القصة القصيرة في العصر الحديث،
لولا أسلوبها الذي يعتمد على السجع كدعامة فنية أساسية، مع إغراقها في الصناعة اللفظية، والمحسنات البديعية، هذا الفن القصصي الجديد الذي ابتدعه ‘الهمذاني’ وارتقى به ‘الحريري’ قي بداية القرن الخامس الهجري (11م). وفي نفس الفترة ظهرت قصص نقدية وفلسفية علمية لازال لها وقعها في الفكر العربي ؛ كـ’رسالة الغفران’ وقصة ‘حي بن يقظان’ . كما ستلمع أسماء قصصية كبيرة : كابن طفيل والسهروردي وابن شهيد الأندلسي. كما ستأخذ هذه القصص جاذبيتها وهي تقف على أبواب أوربا الهامة بالنهوض، حيث يأمر ‘ألفنسو الحكيم’ ملك ‘قشتالة’ بترجمة : كتاب ‘كليلة ودمنة’ ( المقفعي) إلى القشتالية (الاسبانية) كما ترجمت المقامات إلى اللاتينية، وهكذا نشطت حركة الترجمة حيث يرى المستشرق ‘جب’ بأن القصص العربي وآدابهم كانت بدء انقلاب هام في تاريخ الأدب الأوربي. وهكذا انتقلت هذه التجارب القصصية على ما فيها من نضج أولي إلى الأدب الأوربي. والملاحظ أن العرب سوف يستقبلون هذا الفن في حلة غربية جديدة بعد مدة قد تزيد عن ثلاثة قرون وسوف يتأثر بها الكتاب والأدباء ويكتبون على منوالها ..
أما جهود الكتاب العرب المحدثين، في كتابة القصة وتطويرها، كامتداد للقصة العربية القديمة، فلم تتعد هذه الجهود دور المحاكاة للقصة القديمة وبخاصة ‘المقامة’، كما لم تنضج هذه التجارب ولم ترتق إلى المستوى الفني المطلوب ؛ ومن الكتاب الذين خاضوا هذه التجربة نذكر: ناصف اليازجي ومحمد المويلحي وحافظ إبراهيم . وعلى الرغم من نبل تجارب هؤلاء الكتاب إلا أن جهودهم لم تذهب بعيدا، حيث توقفت عند التقليد، وتجمدت المحاولات، كما تجمدت ‘المقامة’ في شكلها القديم، فلم تستطع هذه الجهود أن تقنع النقاد، ولا أن تشد إليها القراء.
القراء العرب الذين تأثروا ببريق وفنيات القصة القادمة من الضفة الأخرى، مما يجعلنا نؤكد بأن القصة العربية الحديثة ليست نتاج تطور القصة القديمة، بل هي نتاج تأثر بالقصة الغربية الوافدة من الشمال .. وحدث هذا التأثير بعد التلاقي الأدبي بين العرب والغر ب، سواء كان هذا التلاقي عن طريق انتقال الطلبة العرب إلى أوربا للدراسة، أو عن طريق ترجمة المؤلفات الغربية. ففي الحالة الأولى نسجل بأن كان للرحلات العلمية دور أساسي في التأثر بثقافة الغرب وفنونه عموما، فقد نهل الطلبة العرب من الآداب الأوربية، وتأثروا بمذاهبها ومناهجها، مثلما قلدوا فنونها المختلفة وعلى رأسها القصة والرواية والمسرحية، ومن هؤلاء نذكر : محمد حسين هيكل، طه حسين وتوفيق الحكيم. أما الحالة الثانية أي عن طريق الترجمة والاقتباس، فقد دخلت القصة الغربية إلى المكتبة العربية، بروحها وقالبها الغربي، وبلسان عربي، وقد سجلت الساحة الثقافية حراكا أدبيا في مطلع القرن الماضي، كان فيه للترجمة نصيب وافر. وممن ساهم في هذه العملية نذكر: حافظ إبراهيم، ومصطفى لطفي المنفلوطي، طه حسين وغيرهم. وهكذا احتك المثقفون العرب بالفنون والآداب الأوربية، فتأثروا بها وكتبوا على منوالها. فقصة ‘زينب’ لمحمد حسن هيكل ـ وهي الرائدة في هذا المجال ـ ما هي إلا قصة عربية بمقاييس فنية غربية وكذلك الحال بالنسبة للقصص والمسرحيات الناجحة والتي ستتوالى بعدها.
ويمكن أن نستخلص ـ بعد هذا العرض السريع ـ بأن القصة العربية، منشأها الأولي ؛ قصص شعبية، انطلقت منذ العصر الجاهلي لتلتقي في العصر العباسي مع ما هو مترجم، خاصة من الفارسية والهندية ؛ ولعل كتاب ‘ألف ليلة وليلة’ هو خير من يمثل هذا التلاقي، فنواته الأولى هو كتاب ‘هزار افسانة’ الفارسي، أضيف إليه قصص أخرى في بغداد (ق10م) ثم أضيف إليه في تاريخ آخر قي مصر ( ق14م) لتنصهر هذه المجموعات في كتاب واحد، وهو الكتاب الذي سيتلقفه الغرب لاحقا . يضاف إلى ذلك القصص العربية الفصيحة والمتولدة من التأثر بالنموذجين السابقين، كل هذا شكل بعد ترجمته للغرب الأوروبي ـ رافدا من روافد القصة الغربية في بداية نشأتها..
إن حوار الحضارات وتثاقفها سنة تاريخية، وانتقال العلوم والمعارف من حضارة إلى أخرى أمر منطقي، جرت عليه تقاليد الحضارات، لذا فقد استقبل العرب معارفا وفنونا من الحضارات الأخرى، كاستقبالهم لأكثر العلوم والفلسفة من اليونان والرومان، واستقبالهم لأكثر الفنون والمعارف الإنسانية من حضارات الشرق القديمة كفارس والهند ..
وخلاصة القول بالنسبة لهوية القصة العربية المعاصرة، فإنها وبجميع أشكالها الحديثة، وبمواصفاتها الفنية الحالية ؛ بما فيها القوالب والأساليب والفنيات السردية المستحدثة ؛ هي وليدة تطور القصة الغربية بالتحديد والعالمية عموما، نقول العالمية نظرا لشفافية الانتماءات الجغرافية في عصرنا الحالي،وللتقارب الفني والأدبي، الذي أصبح يميز ثقافة الشعوب الحديثة؛ وذلك بفعل التواصل الإعلامي، بثورته في عالم تكنولوجية الاتصال، المتعددة الأشكال والخدمات، هذا الإعلام الخارق الذي وحد الرؤى، وقارب الأذواق، وشارك الثقافة والفنون بين الجميع؛ وأكد بثورته المعلوماتية وبتدفقها الإعلامي المتسارع ؛ أنه حتى وان اختلفت الألسن وتباعدت الأمكنة فثورة الاتصالات الحديثة لم تعد تؤمن بالحواجز اللغوية والجغرافية..
القدس
|
|
|
|