بؤس اللغة العربية في تونس

أ. حسونة المصباحي

 

في نهاية السنة الحالية، احتفل في تونس باليوم العالمي للغة العربية بشكل محدود ومُحتشم للغاية. والحدث الوحيد الذي اهتمت به وسائل الإعلام هو تكريم الدكتور إبراهيم بن مراد الذي بدأ قصاصا بارعا، ثم خيّر في النهاية أن يوجه اهتماماته إلى بحوث لغوية ظلت منحصرة إلى حد هذه الساعة في دوائر أكاديمية ضيقة بحيث لم يستفد منها أحباء لغة الضاد على نطاق واسع.

وقد يعود عدم الاهتمام باليوم العالمي للغة العربية في تونس هذه السنة إلى انشغال جل أبنائها بأوضاعهم السياسية والاجتماعية التي تزداد سوءا يوما بعد آخر، وبحكومة طال وقت تشكيلها، وبصراعات بين أحزاب، يدّعي كل واحد منها امتلاك الحلول لبلاد تئنّ تحت ثقل أزماتها، وبخطب الرئيس الجديد “العصماء” التي يبذلون جهودا مضنية في فكّ رموزها ومعانيها ومقاصدها خصوصا بعد خطابه في محافظة سيدي بوزيد في السابع عشر من ديسمبر والذي تحدث فيه عن “مؤامرة تُدَبّرُ في الغرف المغلقة”.

لكن قبل أن نتعرض إلى البعض من الجوانب السلبية التي تَسمُ أحوال اللغة العربية في تونس راهنا، يجدر بنا أن نعود إلى أطوار مفصلية مرت بها على مدى ما يناهز القرن من الزمن. ويمكن القول إن اللغة العربية في بلاد ابن خلدون، عرفت الانتعاشة والتجديد في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي بفضل جهود أدباء وشعراء شبان كانوا قد تأثروا بالنهضة التي تشهدها اللغة العربية في المشرق العربي. كما تأثروا أيضا بموجات التجديد في الآداب الغربية.

وكان الشابي أبرز هؤلاء إذ كان أول من خلص الشعر من ركاكة وضحالة لغة عصور الانحطاط ليخرج به من دائرة المدح والهجاء، إلى الحياة في معانيها العميقة، وفي نبضاتها اليومية، وفي إيقاعاتها المنسجمة مع إيقاعات عصر مضطرب كان فيه التونسيون يعيشون التخلف والجهل في ظل استعمار بغيض كان يعمل على تدمير هويته الوطنية، ومَسْخه لغويا من خلال “الفرنسة” التي فتنت البعض حتى أنهم راحوا يروّجون أن اللغة العربية في طريقها إلى الانقراض تماما مثلما كان حال اللغة اللاتينية قبل قرون.

 وإلى جانب الشابي، لعب أدباء لقبوا بـ“جماعة تحت السورّ” (وهو اسم مقهى في قلب المدينة العتيقة) دورا مهما في إحياء اللغة العربية لتكون عاكسة من خلال قصصهم، وأزجالهم، وأغانيهم لواقع التونسيين في تلك الفترة. وبشجاعة كبيرة تحدوا شيوخ جامع الزيتونة الذين كانوا يتعاملون مع اللغة العربية “حكرا” عليهم وحدهم فلا يجوز لغيرهم المس من “قداستها”. وقد تمثل هذا التحدي في أن القصاصين الموهوبين؛ علي الدوعاجي ومحمد العريبي، وآخرين من جماعة “تحت السور”، تجرؤوا على تطعيم اللغة الفصحى باللهجة الدارجة خصوصا في الحوارات، وفي الأغاني ليجد الجمهور العريض في ذلك ما يُبهجه، ويعكس روحه التي ظلت شبه مُغيّبة حتى ذلك الحين.

أما محمود المسعدي الذي كان يُتْقنُ الفرنسية، فقد ردّ على من كانوا يزعمون أن اللغة العربية مهددة بالانقراض من خلال أعمال أدبية أعادت الإشراقة إلى لغة الضاد مثلما كانت في عهود شهدت فيها ازدهارا وانتشارا واسعين بفضل رموزها الكبيرة في مجال الشعر والنثر. لذلك نحن نجد في لغة المسعدي في مجمل آثاره ما يُحيلنا إلى التوحيدي، وابن عربي، والجاحظ، والأصفهاني، وكتاب المقامات.

وفي الستينات من القرن الماضي، عادت النخب التونسية إلى مناقشة أوضاع اللغة العربية خصوصا بعد أن تم غلق جامع الزيتونة الذي قلّص من تأثير ومن هيمنة شيوخه فما عادوا يتحكمون في الأوضاع الدينية والفقهية واللغوية مثلما كان حالهم من قبل. وفي هذه الفترة، برز تيّاران. التيار الأول يرى أن لغة المسعدي هي المثال الأعلى للكتابة الأدبية. لذلك كان يرفض كل من لم يقلدها، أو يجاريها.

 أما التيار الثاني فقد انتصر لجماعة “تحت السور”، ليبدع أعمالا هامة في مجال القصة والرواية والمسرح. وقد لاقت جل هذه الأعمال انتشارا واسعا لدى القراء التونسيين. مع ذلك ظلت أبواب الجامعة التونسية التي يتحكم فيها المناصرون للغة المسعدي، والمتمسكون بما يسمونه بـ”متانة اللغة الفصحى” مغلقة أمام هؤلاء حتى هذه الساعة.

لكن ماذا عن الوضع الذي تعيشه اللغة العربية في تونس راهنا؟

شخصيّا أعتقد أنه وضع بائس للغاية. والظاهرة التي يزداد خطرها استفحالا يوما بعد آخر، هي ظاهرة الفرانكو – أراب التي هي اللهجة الدارجة مُطَعّمَة بكلمات ومفردات باللغة الفرنسية. وغالبا ما تكون هذه الكلمات وهذه المفردات مُشَوّهة للغة الفرنسية نفسها. وجميع الإذاعات، والقنوات التلفزيونية، تتنافس على استعمال الفرانكو – أراب في برامجها من دون حسيب ولا رقيب.

 وهناك سياسيون من الأحزاب الجديدة يميلون هم أيضا إلى الفرانكو – أراب من دون أن يعوا بأن ذلك يضرّ بهم، ويجعلهم عاجزين عن التأثير في الجمهور الواسع خصوصا في الأرياف، وفي المناطق الداخلية. وقد اقتحم الفرانكو – أراب المسرح والسينما أيضا ليكون لغة هجينة فاقدة لروح وعمق اللغتين، أي العربية والفرنسية. وحدهم الإسلاميون والقوميون يحرصون على استعمال اللغة العربية في خطبهم، وتدخلاتهم، وكلامهم. لذلك هم يتمتعون بقاعدة شعبية واسعة ترى فيهم الممثلين الشرعيين لهويتهم الحقيقية. وربما لهذا السبب أيضا صَوّت قرابة الثلاثة ملايين تونسي لصالح قيس سعيد في الانتخابات الرئاسية الأخيرة لأنه يخاطبهم بلغة عربية مُفخّمة قد لا يفهمون مضمونها ومعانيها، لكنها تبدو لهم عاكسة لهويتهم الوطنية التي باتت مهددة بالتفكك والتمزق أكثر مما كانت عليه في فترة الهيمنة الاستعمارية المباشرة.
 

العرب