
اللغة والعلوم عينة للذين يؤمنون وبرهان للذين يشكون
أ. سلام أورحمة
عندما تقف وقفة تأمل على وضح من نهار التاريخ، للبحث في موضوع من أكثر المواضيع جدلا في العصر الراهن، تقف على صهوة هذا الزمن اللغوي البئيس، المتسم بغياب الضمير اللغوي، واقع يجعلنا نقول إننا أمام مشهد لغوي تظهر تجلياته ويوحي بأننا أمام معالم انعطاف لغوي غير مألوف، سيترك أوشاما ولطخة عار على جبين الضمير اللغوي، فلا عاصم لنا في الوقت الراهن في ظل ثقافة الدفاع عن المشترك الجمعي للمجتمع من اعتماد سياسة لغوية واضحة المعالم تمكننا من إيقاظ الضمير اللغوي من سباته العميق بوضع المسألة اللغوية في المسار الصحيح قبل فوات الأوان.
نقول هذا الكلام لأننا لم نتخلص بعد من الأصوات التي تشك في اللغة وتتعالى باعتماد لغة الآخر كأنها العصا السحرية التي ستخرجنا من درك التخلف إلى سلم التنمية المنشودة، وأن اللغة العربية في رأيهم تفتقر إلى الخصوبة العلمية، وليس لها من الخصائص والمميزات ما يجعلها قادرة على استيعاب العلوم في شتى التخصصات، وأضحت قاصرة على منافسة اللغات العالمية الأخرى التي يروّجون لها، وغير ذلك من الأقاويل التي نسمعها متناثرة هنا وهناك.
إن رمي لغتنا العربية بالعجز والضعف والجمود والتخلف واتهامها بعدم مواكبتها مستجدات العصر واحتوائها للعلوم صفات ينعتها بها غير الناطقين باللغة العربية منذ زمن بعيد، فهو أمر ليس غريبا علينا، لأن هذا الأمر قديم جديد، ولا يحمل ما يثير الغرابة والدهشة، ولكن الذي يستثير الحافظة ويوقظ الإحساس بالأسف، أن يتسرب هذا الوهم إلى إلى نفوس أهلها.
وأمام هذا الوضع المؤلم والرؤية الضيقة أقول إننا كنا ومازلنا نؤمن بعكس ما قالوا؛ فقد كنت أومن وما زلت كغيري من أنصار هذا الرأي بأن اللغة العربية لها من الخصائص ما يجعلها قادرة على احتواء العلوم، لكنني كنت أشك في وجود أناس قادرين على القيام بالعمل الشاق الطويل النفيس لتأكيد الفكرة، وأنّ المشكلة ليست في قدرة اللغة العربية، بل في "إنساننا العربي الذي يعيش مرحلة انسحاق وانبهار وشعور بالدونية، فيمارس دونيته هروباً من أصالته وهويته".
إلا أن الذي كان ينقصنا هو البرهان والحجة للتدليل على عكس ما قالوا، ولنا في الموسوعة العلمية الواقعة في خمسة مجلدات "أسس الفيزياء المعاصرة" للدكتور محمد بغدادي المثال والبرهان والحجة على تأكيد أن اللغة العربية كانت وما تزال، وستبقى قادرة على استيعاب العلوم المختلفة ومصطلحاتها في جميع التخصصات والمستويات، والمقام هنا مقام تدليل وتمثيل لا سرد واستقصاء، فالاقتصار بالمثال والنموذج صون لوضوح الفكرة وتأكيدها.
واستنطاق مثل هذه الأعمال النفيسة يكشف أن اللغة العربية مع العلم وتطوره، لأنها مع الإنسان وعلمه، ومن أجلهما وجدت، ولها من الخصائص ما يجعلها وعاءً أساسيا يحتوي العلوم، والتّكنولوجيا، والثّقافة، والتّاريخ، والحضارة، والهوية، والمشاعر.
ولا ينبغي أن يفهم من كلامنا للذين يشكون أننا ضد تعلم اللغات الأجنبية وأننا ندعي الانغلاق اللغوي، بل إننا نؤمن بالتعدد ونحث على الانفتاح اللغوي، إلا أن ما يجعلنا نقول ذلك هو الضمير اللغوي الذي ينذر بانعطاف لغوي غير مألوف أمام تعالي الأصوات الداعية إلى إحلال لغة الآخر مكان اللغة العربية، ونردف قائلين: إنّ هناك فرقا بين أن نتعلم "اللغة الأجنبية" وأن نتعلم "باللغة الأجنبية"، أفلا ترى أن حرف الباء عندما يدخل على الاسم غير معنى الكلام والعبارة؟.
|