التحليل النفسي للأدب

د. محمد سعيد حسب النبي

 

بدأ التعامل مع التحليل النفسي في الحقل الأدبي منذ زمن بعيد، تجلت مع الفترة السريالية، وهي حركة ثقافية في الفن الحديث والأدب تهدف إلى التعبير عن العقل الباطن بصورة يعوزها النظام والمنطق كما أشار "أندريه بريتون"، وقد ساقت "هدى وصفي" في كتابها النقد الأدبي مثالاً تفسيرياً فيما يعرف بالدعابة السوداء، حيث أشارت إلى أنه ومن المسلم به أن الفكاهة هي انتقام عنصر المتعة المرتبط بالأنا الأعلى من عنصر الواقع المرتبط بالأنا عندما تواجه هذه الأخيرة موقفاً صعباً للغاية، ومن المعلوم الآن أن الأنا والأنا الأعلى من المصطلحات النفسية الشائعة، وكما أشار "فرويد" بأن تشخيص الذات هي التي تدل على مجموع القوى المجهولة واللاواعية، والمكبوتة، والتي لا تشكل الأنا إلا تعبيراً عنها في حدود المسموح وخاضعاً للحذر.

ولقد اتجه النقد نحو تحليل الكتابة المرضية، والسيرة الذاتية النفسية، ووفقاً "لشارل مورون" الذي أسس المنهج النفسي في دراسة الأدب، وهو منهج يستمد آلياته النقدية من نظرية التحليل النفسي عند "فرويد"، وفسر في ضوئها السلوك البشري برده إلى منطقة اللاوعي أو اللاشعور، أراد "مورون" اكتشاف ما في النصوص الأدبية من وقائع ومن علاقات خفية لم يفطن لها أحد بما فيه الكفاية، ومصدر هذه العلاقات الشخصية اللاواعية للمؤلف. وتشير هدى وصفي إلى أن التحليل النفسي يعمل عن طريق تداعي الأفكار والأحاسيس، بينما يعمل النقد النفسي عن طريق مطابقة النصوص، فهو يدرس الطريقة التي تتكرر فيها، وتتغير شبكات ومجموعات صورية في أعمال كاتب ما، ثم يستخلص البنى التي تستند عليها الأشكال والمواقف الدرامية، باحثاً عن الأسطورة الشخصية للمؤلف، وهي تلك الصور والاستعارات المتكررة التي تخلق الطابع المميز لمجموع الأعمال الأدبية للمبدع، ولا يلجأ إلى السيرة الذاتية إلا في النهاية ومن باب التدقيق الأخير.
ولقد تعرض النقد النفسي لهجمات عنيفة ولاسيما من أنصار التاريخ الأدبي الصارم، وكما أشارت هدى وصفي إلى أن "بيكارد" كان على حق عندما أشار إلى أن إخضاع المبدعين إلى التحليل النفسي ليس أبداً كإخضاع كائن حي للمعاملة نفسها؛ فكيف يمكن تشبيه العمل الذي ينجزه كاتب على مكتبه بالكلام الذي يبوح به عشوائياً مريض ممدد على مقعد. 
كما اصطدم النقد النفسي بالخارجين عن نظرية "فرويد" ولاسيما مع أتباع "يونج" الذين استبدلوا مصطلح اللاوعي الشخصي بالنماذج الأصلية المنتشرة في الروح الجماعية. ومن هؤلاء عالم الإنسانيات "جلبرت دوراند" والذي يعد نفسه متأثراً بمدرسة "يونج" ونظريته النفسية حول اللاشعور الجمعي. وإذا كانت الشخصية عند "مورون" تعبيراً عن الشخصية اللاوعية وعن تطورها؛ فإن "دوراند" يعتبرها شذوذاً اصطلاحياً يغطي مفاهيم مضللة –في حد تعبير هدى وصفي- لأن الأسطورة تتجاوز الشخصية وسلوكها ومعتقداتها الفكرية، كما يجب الإقرار بأن تسلطها يفوق تلك التي توزعها الأنا، ثم يرى أن الأدب يشكل مقاطعة من الأسطورة، وينطلق النقد الأساطيري من تكميل وتنظيم كافة مؤلفات كاتب ما، بشرط رسوخها في عمق أنثروبولوجي يتجاوز الحياة الفردية المسجلة في طبقات اللاوعي المتعلق بالسيرة الذاتية.
ومن الإسهامات المهمة في مجال علم النفس والأدب ما قدمه  "جاك لاكان" في تحليلاته النفسية المعتمدة على اللغة، مما أثر بدوره في الدراسات اللغوية والأدبية، كما أنه أعاد تفسير أعمال "فرويد" متكئاً على علم اللغة البنيوي، وأعاد تفسير الكثير من مقولات "فرويد"حول الدافع الجنسي من زاوية اللغة. ومن إسهاماته المهمة في النظرية التحليلية هي محاولته رصد ما أسماه "طور المرآة"، وهي اللحظة التي يتماهى فيها الطفل للمرة الأولى مع صورته في المرآة كمكون للأنا.
وتطرح هدى وصفي في كتابها النقد الأدبي تساؤلات عن ذاتية المريض، وذاتية الشخصية، وذاتية الكاتب الذي يدور البحث حوله، وذاتية الناقد الذي يدرس العمل الأدبي، وتشير إلى أن إجابات هذه التساؤلات تقتضي العودة إلى "فرويد" نفسه في دراسته الشهيرة حول "الأحلام  الهذيانية" التي تناولت أحد أعمال الكاتب الدنماركي "جنسن". 
ويبدو أن "فرويد" قد قام بتحليل أبطال الروايات، وليس كاتب الرواية؛ فقد أراد أن يثبت نظريته حول اللاوعي عند العصابيين غير المبدعين، وكما تشير هدى وصفي؛ فقد أراد أن يلخص مطمحه بأن نتعلم كيفية معرفة رصيد التأثرات والذكريات الشخصية التي بنى به المؤلف أعماله، والطرق والعمليات التي من خلالها أدخل هذا الرصيد في العمل. 
ولقد عرض "فرويد" فيما كتبه عن حياته والتحليل النفسي مسلمة أشار فيها أن الفنان مثل العصابي، انسحب من واقع غير مرض إلى عالم الخيال، لكن وعلى خلاف العصابي؛ فإن الفنان يعرف سبيله في العودة إلى أرضية الواقع الصلبة. وأعمال الفنان مثل الأحلام، هي إشباع، إلا أنها محسوبة بحيث تثير اهتمام الآخرين وتعاطفهم.  
وفي سبعينيات القرن الماضي ظهر مصطلح ما وراء القص، والذي يعني الكتابة الأدبية التي ارتبطت بظواهر ما بعد الحداثة، ولم يكن التحليل النفسي بعيداً كما ترى "أماني أبو رحمة" في مقالها "التحليل النفسي والأدب والثقافة"؛ فقد أشارت إلى تعريف شديد التكثيف لما وراء القص؛ فتراه القص الذي يجعل من نفسه موضوع حكيه، أو ما يعرف بالسرد النرجسي، وهي الرواية التي تتضمن تعليقاً على سردها وهويتها اللغوية. 
ويعرّف التحليل النفسي النرجسية في حدها الأدنى؛ بوصفها تمحور الذات حول نفسها، هذه الخاصية المعرِّفة للنرجسية وجدت صداها في الانعكاسية الذاتية في أدب ما وراء القص، ومهدت الطريق إلى توظيف مصطلح النرجسية لوصف هذا النوع بطريقة فضفاضة وازدرائية.
وهكذا يكشف التحليل النفسي تعقيدات النفس البشرية، الأمر الذي كان ولم يزل مجال انشغال الأدب، وقد بدأ "فرويد" عملاً حقيقياً في هذا الإطار، إلا أن الصلة البنيوية بين الأدب والتحليل النفسي قد تعمقت على يد "يونج" الذي يرتبط نظامه عن الأنماط البدائية بالخيال الإبداعي وبالأساطير حين وظف عالمية الأساطير لتوضيح الوعي الجمعي كما ترى أماني أبو رحمة. إضافة إلى "لاكان" الذي كان يرى أن الاستعارة والمجاز والكناية جوهرية للتحليل النفسي، وأن ما تكشفه تجربة التحليل النفسي هو بنية اللغة بكاملها، وأن تحليل النفس هو تحليل للنص. 
وتضيف أبو رحمة، لقد تحولت اللغة على يد "لاكان" من "وسيط" بين اللاوعي والعالم العلاجي إلى شيء يُعرّف اللاوعي نفسه، كما ساهمت كتاباته في اللاوعي واللغة في تقدم النقد الأدبي وتوثيق الصلة القائمة بين الأدب والتحليل النفسي .