ما يؤرقنا - تخطئة ماهو صحيح

أ. دوان موسى الزبيدي

من أبواب ثراء العربيّة في ألفاظها ما يأتي من اختلاف اللغات - أي اللهجات - فكما نشاهد في عصرنا الاختلافات في تسميات بعض الأشياء بين البلاد العربيّة ، أو بين المدن في البلد الواحد ، مع كون كثير من هذه الاختلافات باللهجات العاميّة ، إلا أنّ هذه الظاهرة ليست جديدة ، فقد كانت موجودةً في عصور الفصاحة بين الأقاليم المختلفة ، وفيما يلي نصّ قيّم يصوّر هذه الظاهرة ، فقد وقع حوارٌ بين الشاعر محمد بن المناذر، وهو من أهل البصرة ، وبين أهل مكّة :
قال الجاحظ :" حدّثني أبو سعيدٍ عبدُ الكريم بن رَوح قال: قال أهل مكّةَ لمحمد بن المُناذِر الشاعر:
"ليست لكم معاشرَ أهل البصرة لغةٌ فصيحة، إنّما الفصاحة لنا أهلَ مكّة، فقال ابن المُناذر: أمّا ألفاظُنا فأحْكَى الألفاظِ للقرآن، وأكثرُها له موافقةً، فضَعُوا القرآنَ بعد هذا حيثُ شِئتم، أنتم تُسمُون القِدر بُرْمَة وتجمعون البُرمة على بِرَامٍ، ونحن نقول قِدر ونجمعها على قُدور، وقال اللَّه عز وجل: "وجِفَان كالجَوَابِي وقُدورٍ رَاسِياتٍ" سبأ:31، وأنتم تسمُّون البيت إذا كان فوق البيت عُلِّيَّةً، وتجمعون هذا الاسم على عَلالِيّ، ونحن نسمِّيه غرفة ونجمعها على غُرفاتٍ وغرفٍ، وقال اللّه تبارك وتعالى: "غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيّةٌ" الزمر:02 وقال: "وَهُمْ في الغُرُفَاتِ آمِنُونَ" سبأ:73، وأنتم تسمُّون الطَّلعَ الكافورَ والإغْريضَ، ونحن نُسمّيه: الطَّلْع، وقال اللَّه تبارك وتعالى: "وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ" الشعراء: 841، فعَدّ عشر كلماتٍ لم أحفظ أنّا منها إلا هذا ..." قال الفراء : كانت العرب تحضر الموسم في كل عام، وتحج البيت في الجاهلية ، وقريش يسمعون لغات العرب ؛ فما استحسنوه من لغاتهم تكلَّموا به ؛ فصاروا أفصح العرب ، وخلت لغتهم من مستبشع اللغات ، ومستقبح الألفاظ ؛هذا الكلام يدل على أن هناك لهجات مستبعدة، ولهجات مستعملة،فالعرب لوعادوا إلى المستبعد لأثروا لغتهم بما هو غير مستقبح ،وبما له أصل في لغتهم الفصيحة المنتقاة على طريقة قريش،مثلاً،هناك مفردات يستعملها العامة يجب عدم تخطئتها دون دراية ، فربما تكون صحيحة ،ولها أصل في لغتنا السمحة ؛ فهناك من يقول: ( ينقِّز ) معناه عند أهل مكة : يثب ،ويقفز إلى الأعلى .
• وله أصل في كلام العرب ؛ ففي اللسان : (( نقز ينقز و ينقز نقزا ونقزانا ونقازا : وثب صعداً ))..كذلك روِّقني ، روِّقيني ، روِّقنا ، روِّقونا :
يقول بعضهم ،ومنهم اللبنانيون لمن طلبوا منه أن يتركهم وحالهم دون إزعاج أو تعكير : (روِّقني ) ، أو ( روقنا).
ولخطاب الأنثى : ( روِّقيني ) .
ولخطاب الجماعة : ( روِّقونا ) .
تنبيه : ولكنهم لا ينطقون القاف المقلقة من مخرجها المعروف عند العرب ، بل على صفة بين الكاف والقاف ، على نطق الإنجليز لكلمة ( go ) .
وقد تقدَّم أنَّ إبدالهم القاف بهذا الحرف أو غيره أن له أصلاً باباً عند العرب ؛ وهو الإبدال .
بصرف النظر عن موافقته للقياس أو عدمه ، وصحته أو عدمه .
والمقصود مما سبق : أنَّ معنى قولهم ( روِّقني يا فلان ) أو ( روِّقنا ) أي : اجعلني رائقاً ، أو اجعلنا : رائقين !
أي : صافي الذهن والحال ، لا تعكِّر عليَّ وتزعجني .
من الروق ؛ وهو الصفاء .
وللكلمة أصلٌ عند العرب :
قال في اللسان (10/135) : " راق الشيء إذا صفا ، ويكون للواحد ؛ يقال : غلام رَوْقة ، وغلمان رَوْقة .
... والراووق : المصفاة وربما سموا الباطية راووقا .
عن الليث : الراووق ناجود الشراب الذي يروق به ؛ فيصفى ، والشراب يتروق منه من غير عصر .
وراق الشراب والماء يروقان روقا و تروقا : صفوا .
و روَّقه هو ترويقاً .
واستعار دُكين الراووق للشباب ؛ فقال :
أسقى براووق الشباب الخاضل " ..فعلينا ألّا نخطّىء من يقول لنا عند ما يرانا معكري المزاج :"روقوا" اللهم اجعلنا رائقي البال في وقت اعتكرت فيه الأحوال" وإلى اللقاء في قضية أخرى إن شاء الله..