رحلة عم حمام مع الخط العربي

آمال عويضة‏

 لا يأتي ذكر أساتذة ومحبي وعشاق الخط العربي في مصر‏,‏ إلا ويرفرف اسم الفنان القدير محمد حمام بينهم‏,‏ ذلك الرجل الذي يعرفه محبو الخط ومريدوه والباحثون عن أثر فنون عريقة‏,‏ عرفها الذين لانت لهم الحروف واستكانت لتخرج جمالا لا يملك الناظر إليه إلا التمتمة‏:‏ الله‏..‏ الله‏.‏

ولن يأتي اسم حمام كاملا أو مختصرا: محمد محمود عبد العال أو حمام إلا مقترنا باسم الحي الذي عاش فيه عقود طفولته ومراهقته وصباه وشيخوخته, معتبرا إياه في إطار فلسفته الخاصة أحد أسباب الإلهام واحتراف الصنعة والبقاء علي قيد الحياة. وهكذا, يمكن القول إن الأستاذ حمام المولود- باسم الله ما شاء الله- في عام1935, ما زال متشبثا بأمور تجلب السعادة لقلبه, وتجلب الابتسام لوجهه الضحوك, وهي: الخط العربي, ومحل في عابدين مسقط رأسه, ورائحة دخان الشيشة القادم من المقهي القريب, الذي جاور مكتبه الصغير المشهور السابق في شارع الطباخ منذ1952, ومكتبه الحالي الذي لم يبتعد كثيرا عن المربع نفسه.
بداية, لن يضمك مكان واحد بالأستاذ حمام الذي عمل صحفيا ومخرجا فنيا وانتهي بالخط العربي, إلا وسيكون الأخير وتاريخه ومفارقاته بطلا رئيسيا للحديث الدائر بينكما, وشاهدا عليكما إذا ضمكما محله الذي زين حوائطه بلوحات الخط العربي المكتوبة بيده مناجيا ربه الهادي أو مرددا آية من آياته وما توفيقي إلا بالله, أو مسجلا إحدي حكم من فتح الله عليهم بالزهد والحكمة. وسيعود بك الأستاذ حمامكثيرا إلي الوراء ليقص عليك حكاياته التي لا يملها عن مكانة الخط العربي قبل قرون عندما ارتبط بأيام مجد الأمة الإسلامية وعزها, عندما كانت منزلة الخطاط عظيمة تأتي في مرحلة وسطي بين فم السلطان مصدرا الأوامر وبين أذن الوزير المسئول عن تحويلها إلي حقائق وأفعال. وستعرف منه أنه بعد غزو التتار لبغداد أصبحت مصر مركز الإبداع الرئيسي في الخط العربي, وبجوارها تركيا, واستمر الاحتفاء بالخط العربي علي مدار القرون الماضية, حتي تم إنشاء مدارس الخط العربي, التي ازدهرت بإصرار ودأب أساتذتها وروادها, الذين تركوا قبل أكثر من مائة عام بصماتهم علي لافتات حملت أسماء شوارع مصر التي تم تخطيطها علي يد الاحتلال الإنجليزي الذي استعان بثلاثة خطاطين من البكوات هم: محمد جعفر ومحمد محفوظ, وشريف بدوي.
لن يتركك عم حمام تخرج من محله قبل أن يكشف أمامك أرشيفه من العناوين المكتوبة لجريدة الأهرام في الخمسينيات والستينيات قبل أن يتركها للعمل في صحافة الخليج: كانت أيام الشباب, عندما جمعني العمل بالأساتذة: صلاح هلال, وممدوح طه, والزملاء: عزت السعدني, وعبد الوهاب مطاوع, وأحمد بهجت, تحت إدارة الأستاذ هيكل الذي انتقلنا معه من عمارة مظلوم بوسط البلد إلي مبني الأهرام الرئيسي في شارع الجلاء, الذي توقفت عن زيارته بعد أن تقطعت السبل وفرقت الأيام والمناصب بين الأصدقاء, ولم يتبق لي سوي ذكريات طيبة لرحلات عمل رائعة ومشاغبات لطيفة جمعتني ونجوم المجتمع والفن في مصر ثورة1952, تلك الثورة التي يذكرها الأستاذ حمام بحنين المحب, وذكريات العاشق لناصر, وأحلام الوحدة العربية التي لا يغلبها غلاب. وهنا سيتوقف الأستاذ حمام ليدفع إليك بألبوم آخر تفتتحه صورة فوتوغرافية لأم كلثوم تحمل توقيعها تذكارا إلي السيد محمد حمام, بالإضافة إلي صور أخري تضمه مع الراحل أنيس منصور والزملاء في مجلة أكتوبر, وأخري مع رفاق العمل في الاتحاد الإماراتية, ومجموعة مع تلاميذ الخط العربي في داخل مصر وخارجها وخاصة في بلغاريا الذين لم يجد طلابها وطالباتها أفضل من ريشة حمامة بلغارية ليهدوها إلي الأستاذ عرفانا بعلمه وتقديرا لاسمه الفريد.
يدين عم حمام برزق أيامه للخط العربي, الذي منحه حبا واجتهادا فمنحه في المقابل رزقا وفرحا وزهدا ونعمة. ومع ذلك فالأستاذ مهموم: ويقول: لست قلقا علي حياتي التي زينتها بتعليم آخرين, ولا علي بناتي الأربع لأنهن متعلمات وطيبات, ولكن الأرق الحقيقي بسبب100 مدرسة خط عربي معرضة للإغلاق من بين053 مدرسة, يذهب إليها الطلاب بكامل رغبتهم دون فرض أو إجبار, فضلا عن الأساتذة الذين لا يتلقون إلا جنيهات قليلة مقابل الحصة الواحدة, ومع ذلك مستمرون. تلك المدارس التي تسعي لنشر الخط العربي باعتباره عمود فقري اللغة والدين, والذي لا يعرف فضله إلا عشاقه مثل خضير البورسعيدي, الذي أنشأ متحفه الخاص تقديرا لهذا الفن المغبون ورجاله لتكتشف أن المحبة رزق, والرضا كذلك. ويحلم عم حمام بأن تتحرك الدولة لحماية مدارس فنون الخط العربي, الذي يتعرض للتراجع أمام هجمة التكنولوجيا, مع الأخذ في الاعتبار تجارب عدد من دول الخليج في الاهتمام بالخط العربي ومعارضه وفنانيه.
ستمر عدة ساعات قبل أن تكتشف أن الوقت قد سرقك في حضرة عم حمام ومريديه من كل الأعمار ومنهم فنان الكاريكاتير محمد عمر, وأن عليك أن تطلق سراحه ليلحق بآخر تاكسي إلي المعادي حيث يسكن, وستخرج بصحبته وعكازيه إلي ناصية الشارع مندهشا من إرادة الرجل الذي يعاني من أمراض عديدة تبدت إحدي آثارها في إصابته بمرض القدم السكري, ومع ذلك يداوم علي الحضور يوميا إلي دكانه الحبيب, الذي يكتفي بإغلاق بابه الخشبي بمفتاح, وسيضحك عم حمام بينما يقول لك: لا يضم دكاني إلا مكتبا خشبيا وبعض الأرفف ولوحات الخط العربي, وبعض الأوراق البيضاء المبعثرة فوق مكتبي, والتي تحمل شخبطات واسكتشات التدريب اليومي حتي أظل في لياقة دائمة, وسأكون سعيدا لو تعرض دكاني للسرقة, لأنني سأدرك وقتها أن ثمة لصا محترما يقدر الفن والجمال.

الأهرام