|
كثير من الأدباء لا يخلصون لمشاريعهم بحثا عن أشكال جديدة للتعبير عن الواقع
محمد بن سليمان الحضرمي
يرى الكاتب القصصي الأردني الدكتور زياد أبو لبن في هذا الحوار، أن الشعر في حالة تراجع بسبب الالتباس الذي يدور حول القصيدة الحديثة، وقصيدة النثر خاصة، الأمر الذي جعل القراء يبتعدون عن الشعر، يقابل ذلك تقدم في الرواية على الشعر، لأنها تختزل الشعر، والسينما، والمسرح، والتشكيل، وفي بداية مشوراه الثقافي ظهر أبولبن شاعرا، وارتبط كثيرا بالشاعر الفلسطيني الراحل عبدالفتاح الكواملة، الذي أخذ بيده وأصبح وصيه الأدبي ووريثه الثقافي، ورغم رحيل الكواملة قبل 26 سنة، إلا أنه يعد بإخراج رسائله النثرية وكتبه غير المنشورة هذا العام، كما يرى أن الكاتب عليه أن لا يكون بمعزل عن كل أنماط التواصل التكنولوجي مع القارئ، ومن خلال صفحته في “الفيسبوك” استطاع أن ينشر نصوصا ويعلق على ثيمات بآراء لا تطالها يد الرقيب الذي يعمل في الصحف والمجلات، وبسبب هذه التقنيات الحديثة ظهر مفهوم “العربيز”، الذي يجمع بين العربية والإنجليزية، صرت له العديد من المؤلفات والدراسات، من بينها: “اللسان المبلوع” دراسة في روايات نجيب محفوظ، و”فضاء المتخيل ورؤيا النقد”، و”رؤى نقدية في القصة القصيرة”، و”هذيان ميت”، و”نقود أدبية”، إلى جانب مؤلفات مشتركة مع مجموعة من الكتاب، وكان قد حصل على الدكتوراة في “النقد الحديث، من معهد البحوث والدراسات العربية بالقاهرة، فمع تفاصيل الحوار الخاص لشرفات، حيث زار السلطنة ضمن الوفد الثقافي الأردني، المشارك في اجتماع المكتب الدائم للاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب، والذي انعقد في مسقط.
لديك نتاج ثقافي متعدد، واهتمامات تجمع بين كتابة النقد، والقصة القصيرة، والصحافة، كما أصدرت كتبا عن أدباء بعينهم، أين تجد ذاتك، وهل على المثقف أن يكون متعدد الاهتمامات؟
أجد ذاتي في حفر التراث العربي، والتقاط السرديات القديمة منه، وكيف كانت تتمثل في الأدب العربي القديم، وقد استفدت من نقاد لهم دورهم البارز في هذه تجربة، كالناقد العراقي الدكتور عبدالله ابراهيم، حيث أثار في داخلي الاهتمام بالسَّرديات، ولديَّ مشاريع مستقبلية حول هذه الدراسات النقدية في السرديات القديمة.
من جانب آخر فأنا أعد من النقاد الأردنيين، وكتبت دراسات كثيرة عن السرديات والشعر ونقد النقد، إضافة إلى أنني أكتب القصة القصيرة، مع أن القصة جاءت في وقت متأخر بعد النقد، لأني في الأصل مشتغل بالنقد، خاصة على حفريات النص، وأنا من خلال عملي في السرديات أشتغل على جزئيات غامضة ومغيبة في النصوص القصصية العربية، وأستطيع أن ألتقط ثيمة من هذه الثيمات وأشتغل عليها، وكتبت في نقد القصص القصيرة، كما في دراستي عن قصص الكاتب المصري يوسف أبو رية، وأصدرت الدراسة في كتاب بعنوان “الأطفال في قصص يوسف أبو رية”، حيث أدرس شخصية الطفل داخل هذه القصص، ووعيه في مجتمع الكبار، ثم كانت الدراسة الأكبر عن دراساتي حول “المونولوج الداخلي في روايات نجيب محفوظ”، وهذا العمل في أصله رسالة ماجستير، تطورت بعد ذلك إلى كتاب، قدمت هذه الرسالة بإشراف الدكتور سهيرة القلماي، وهي التي وجهتني باتجاه الدراسات النقدية عن نجيب محفوظ، وخاصة أنني قرأت كل رواياته حين كنت طالبا في الثانوية، وهو الأمر الذي جذبني إلى شد الرحال إلى مصر، والتقيت بنجيب محفوظ في القاهرة، وتحدثنا طويلا حول تفاصيل كثيرة في رواياته، وأجريت معه حوارا طويلا نشر في الصحف، ثم ظهر في أحد مؤلفاتي، وجزئية المونولوج لم يدرسها أحد سابقا ضمن مفهوم تيار الوعي، فأنا اشتغلت على هذه الجزئية في دراسة علمية، أصبحت مرجعا من المراجع بعد ذلك، وقبل سنوات كان هناك مشروع في القاهرة، ألا وهو إصدار كتاب لكاتب وناقد من كل الدول العربية، فكان الاختيار من الأردن أن ينشر هذا الكتاب في طبعة ثانية، وأيضا نشر في بيروت، تحت مصطلح “اللسان المبلوع”، وهو ضمن مفهوم “المونولوج الداخلي”، وهذا المصطلح لفت نظر الناشر الصحفي والكاتب رياض الريس، فأرسل لي شكره، واهتمامه البالغ بهذا المصطلح، كما نشرت الدراسة في مجلته الناقد، وواصلت دراساتي عن نجيب محفوظ في عدة كتب، حيث درست الشخصية الشعبية في روايات محفوظ، في إطار الفضاء المكاني والزمن وتعدد الرواة واللغة، ولم تصدر في كتاب ولم أنشرها، لأنني أفكر في تطويرها حتى أستطيع نشرها في كتاب يليق بالدراسات النقدية الحديثة، كما صدر لي عدد من الكتب تحت عناوين مختلفة، من بينها “رؤى نقدية في الشعر” و”رؤى نقدية في القصة القصيرة” وكذلك كتبت رؤى في الرواية، وصدر لي كتاب “ما بين النقد والأدب”، و”نقود أدبية” وكتب أخرى.
المونولوج أو اللسان المبلوع
هل يمكن القول: إن “اللسان المبلوع” هي نظريتك التي خلصت بها من تجربتك النقدية؟
لا، هي تجربة لم تكتمل بعد، وما زلت أشتغل على مناطق أخرى من الأدب، خاصة وأني أتوجه إلى التراث، وأشتغل على نقاط مظلمة في التراث السردي، لكن “اللسان المبلوع” هو محطة من المحطات في دراسة الرواية الحديثة، وهناك مشاريع كثيرة ترتكز على التراث والمعاصرة بالمفهوم الثنائي، وإلى جانب دراساتي النقدية هذه كتبت القصة القصيرة، والاشتغال على القصة نتج عنه مجموعتان، لفتتا نظر كثير من النقاد، أحدهم كتب كتابا عن مجموعة واحدة، وهي مجموعة “أبي والشيخ”، تحدث عن فنياتها والوعي المتشكل داخل المجموعة، والنقاد يجمعون أن هذه القصص تتحدث عن المهمشين في الحياة، وعن شخصيات منسية في التاريخ الحديث، وبعضهم قال: إنها قصص تشكل سيرة حياة زياد أبولبن، هذه الحياة المتشكلة في هذه الشخصيات المتحركة داخل القصص، مما أفسح المجال لأن تدرَّس في ثماني جامعات أردنية، بحيث إنها تشكل نموذجا للقصص الواقعية، التي تنحاز نحن المهمشين في الأرض، وليست الواقعية التسجيلية.
هل استفدت من التجارب النقدية السابقة، ومن النظريات الغربية في أطروحاتك النقدية؟
استفدت من أساتذتي الكبار، من أمثال الدكتور كمال ابو ديب، والدكتور جابر عصفور والدكتور صلاح فضل وآخرين، علموني في مراحل دراساتي، وكان لهم تأثير واضح في مجال النقد، إلى جانب أنني قرأت كثيرا في النظريات الأدبية الغربية والدراسات العربية، لكني أنا مزيج من هذه النظريات، ولا أتكئ على نظرية واحدة، إنما تأتي الدراسات ضمن سياق ثقافي تاريخي، هذا هو اشتغالي في هذه الدراسات، ولا أقول: إنني أسست منهجا نظريا معينا، بقدرما تأتي الدراسات ضمن أطر عربية مشتركة، تلتقي جميعا على الاشتغال في السرديات الحديثة.
تراجع الشعر
بعد هذا الحرث الطويل في السرديات العربية، هل تَرَى أنها واكبت تطور الإنسان في حياته، أم هي اجترار لماض منقرض وبكاء عليه؟
على العكس تماما، فالسرديات الحديثة الآن دخلت من باب واسع جدا، وكما سماها الدكتور جابر عصفور، بأنها عصر الرواية، وليس عصر الشعر، وقد يكون مخطئا أو مصيبا، لكن الرواية الآن تتقدم في الوطن العربي ضمن مفهوم السَّرديات، وأصبح لها صدى كبير ، وفي نظري أن الشعر بدأ يتراجع إلى حد ما، بسبب هذه الإشكاليات في القصيدة الحديثة، وكذلك القصة القصيرة، وإن كانت تأتي في المرتبة الثانية أو الثالثة في التصنيف الجنسي للأدب، لكن لها حضورا ضمن مفهوم السَّرديات الحديثة، كل هذه السرديات تقود الأدب باتجاهات مختلفة، وتؤسس لأعمال كبيرة في الوطن العربي، تلتحم مع السَّرديات الحديثة في العالم، هي جزء من هذا الإطار الكوني الواسع كما أسماه إدوارد سعيد.
هناك كتاب ظهروا شعراء في بداية مشوارهم، ثم تحولوا إلى كتاب الرواية، هل تعتقد أن الرواية أصبحت مبتغى الكاتب ومنتهى حلمه، وماذا تفسر هذا الميل والنزوع لكتابة الرواية؟
الرواية أكثر اتساعا للتعبير عن الانسان وتطلعاته وتغيراته، بخلاف الشعر الذي يعتمد على نمطية التخييل في الحياة، الرواية لها مساحات واسعة، يستطيع الكاتب أن يعبِّر ويوصل هذا الفكر من خلال هذه الأعمال، واللافت للنظر في هذه النقطة، هو أننا مجتمع عربي ذكوري، والشعر كما وصفه القدماء: إنه “ذكر”، في حين أن النثر “أنثى”، نلاحظ أن المجتمع الذي يرتد إلى المفهوم الذكوري يبدأ بالشعر، ونحن بطبيعتنا نحن العرب شعراء ونحب الشعر، وولد الشعر في بيئات عربية أولى، فبقي في داخلنا، لذلك يبدأ الكاتب منها بكتابة الشعر ثم ينتهي بالرواية، التي تجمع الأجناس الأدبية والفنية في داخلها، إذ نجد في الرواية الحديثة تقطيعا في الشعر، والسينما، والمسرح، والتشكيل، كل هذه الفنون تحتويها وتستوعبها الرواية، في حين أن الشعر لا يستطيع أن يحوي كل هذه الاتجاهات.
نجيب محفوظ روائي كبير، فهل يمكن القول بصورة مغايرة: إنه أيضا شاعر كبير؟
لا، المرحلة التي جاء فيها نجيب تختلف عما نتحدث عنه الآن، كثير من الكتاب تبدأ محاولاتهم الأولى بالشعر، ثم ينحون نحو اتجاه أدبي آخر، فيما كتب نجيب محفوظ القصة والرواية، وأبدع فيهما ابداعا كبيرا، لأن المرحلة التي كتب فيها نجيب هذه الأعمال كانت مرحلة انبهار بالشيء الجديد، وخاصة أن الرواية بالمفهوم الحديث مشبعة بالسَّرديات العالمية وليست العربية، من جانب آخر فإن نجيب محفوظ أخلص إخلاصا تاما لمشروعه الروائي ونجح نجيب في ذلك، والآن كثير من الأدباء لا يخلصون لمشاريعهم الأدبية، ويعود السبب إلى أنهم يجدون أنفسهم في أكثر من شكل أدبي، إزاء حركة التعبير عن هذا الواقع، وهذا العالم وهذه الإنسانية، لذلك يكتبون الشعر، والرواية، والقصة القصيرة، لكن الاخلاص في العمل في الجنس الأدبي الواحد، والاشتغال عليه بالصورة الأولى والكبيرة، هو ما يُعطي ميزة للكاتب أكثر من التعدد.
بين الرواية الهرمية والمشظاة
ظهرت أصوات مناوئة ومعارضة لبعض الكتاب الكبار، فقيل عنهم: إن الزمن تجاوزهم، وإن الرواية الحديثة تجاوزت في كثير من سردياتها ذات السرد الذي كتبه نجيب محفوظ وغيره من المؤسسين لمشروع الرواية العربية، ما هو تفنيدك لمثل هذه الآراء؟
لا يزال نجيب محفوظ يُقرأ، وله صدى كبيرا عند القراء، أو عند المتلقي العربي والعالمي، لكن الشكل الروائي والتعبير عن هذا العالم بدأ الآن يختلف عما كان عليه في السابق، نجيب محفوظ شيخ الروائيين العرب، ونحن نعترف جميعا بأنه المؤسس لمشروع الرواية، والشيخ الكبير الذي علمنا كتابتها، لكن التقنيات الحديثة تجاوزت ما كتبه نجيب، نحن نتحدث عن تقنيات وليس عن عمل روائي بالمطلق، إن نجيب محفوظ اشتغل على الرواية الهرمية، فيما أصبحت الرواية العربية الحديثة مشظاة أشبه بالفسيفساء، لأنها تحتمل أشياء كثيرة، لم يلتفت في السابق إلى هذه التقنيات الجديدة، ويعود السبب إلى أن الجو العام للكتابة الروائية العربية في الوطن العربي يأخذ هذا المنحى، الآن بدأ يأخذ منحى آخر.
محفوظ ابن مرحلة زمنية
نعم، يشكل مرحلة زمنية، ولا تزال الدراسات تكتب في أعماله، وهذا يدل على أن لديه أشياءً كثيرة، والنقاد يستطيعون أن يضعوا أيديهم على مفاصل جديدة في الرواية لدى نجيب، وإلا كيف يشتغلون على الرواية بمعزل عن أعماله، ثمة امتداد لأجيال الرواية، ونحن نتحدث عن كتَّاب وليس عن شخصيات أو أعمال، ثمة أجيال تجرِّب، تدخل عالم التجريب في الكتابة، وظهرت إلينا أسماء كبيرة في الوطن العربية، هي ليست بمفهوم التجاوز لأعمال محفوظ الروائية، بل بمفهوم الإضافة والتنوع في الشكل والمضمون، كما في أعمال عبدالرحمن منيف والطاهر وطار، وعدد كبير من الروائيين الذين استفادوا من تجربة محفوظ وأضافوا لها تنوعا، وكذلك الروايات التي تقدمها لنا جائزة البوكر، التي حفَّزت على التجريب، وبدأت تظهر لنا أعمالا عظيمة، وهي أعمال تتجاوز السائد، وقادرة على التغيير بالمفهوم، لكن يبقى نجيب محفوظ القامة الكبيرة والهالة الأكبر، إنه شيخ الروائيين العرب، وله المكانة والحضور المتوهج، رغم أننا قطعنا سنوات بعيدة من آخر عمل صدر لنجيب محفوظ وحتى الآن، ومع ذلك يظل حاضرا في ذاكرة الرواية العربية.
هل تريد القول: إن الرواية سابقا “فن كتابة الحكي”، فن سرد الحكاية، الرواية الحديثة الآن خرجت من مفهوم الحكاية بمفهومها الشعبي، إلى مونولوجات متشظيَّة.
في القديم كانت الرواية تركز على القيم الاجتماعية والاخلاقية في المجتمع، وكيف تصل إلى الناس، من خلال تصوير المجتمع بتناقضاته، والروائي يحمل هدف التغيير في المجتمع، في حين لا تسعى الرواية الآن إلى مفهوم التغيير، بقدر ما تنزع إلى مفهوم جمالي في الكتابة، أصبحت الرواية تستعين بالشعر، وتختزل أجناسا أدبية مختلفة، الرواية الآن كما قلت سابقا ما عادت تأخذ شكلها الهرمي، بل بدأت تدخل في تشظي الفكرة، وهذا التشظي ليس بالمفهوم السلبي بل الإيجابي، بحيث تصبح الرواية ذات مفاهيم جديدة مغايرة للمفهوم السائد.
التحفيز على الإبداع السردي
وماذا بخصوص جائزة البوكر، حيث يتهافت عليها الروائيون الآن، وأسماء روائية كثيرة حصلت عليها، والقائمة كبيرة من كل عواصم العالم العربي، فهل هذه الجائزة برأيك تنحو منحى سياسيا آخر بعيدا عن الجنس الأدبي؟
البوكر جائزة بريطانية، ونحن أوجدنا هذا الجائزة بهذا المسمى، لكن هي تحفز على الكتابة النوعية في السَّرديات، ولدينا عدد هائل من الكتابات الروائية في الوطن العربي، والأسماء التي حصلت على الجائزة هي أسماء مهمة، قدمت أعمالا مهمة جدا، وصحيح أن هناك روائيين تقدموا لهذه الجائزة ولم يحصلوا عليها، لكن أعمالهم لا تقل أهمية عن الأعمال الفائزة، هي جائزة تحفِّز على الابداع.
الغريب أن روايات البوكر أصبحت متابعة من قبل القارئ العربي، وكل سنة نبحث عن الأعمال التي تصل إلى القائمة القصيرة، وهو بحث عن فنيات السرد دون سواه، فيما هناك جوائز لا تقل جزالة مادية عن البوكر، مثل جائزة سلطان العويس وغيرها.
المد الإعلامي له دور كبير في شيوع الجوائز، أنا واحد من الكتَّاب الذين يتابعون البوكر باهتمام، ويهمني أن أٌقرأ الروايات العشر المتنافسة على الجائزة الأولى، وأجتهد دائما أن أحصل على الروايات العشر وليست الأولى، لأني أعتبر أن تلك الروايات لم تصل الى القائمة الأخيرة إلا لأنها تستحق ذلك، وثمة فروقات بسيطة جدا فيمن سيأخذ المرتبة الأولى أو الثانية أو الثالثة، لذلك نحن نجد أن هذه الجوائز تنبه القارئ إلى أعمال إبداعية محكَّمة.
والسينما إحدى النوافذ الفنية
هناك أعمال روائية ارتبطت بالسينما، وكما قال نجيب محفوظ: لولا السينما لما عرف الناس نجيب محفوظ، وأنا أقول أيضا: لولا السينما لما عرف الناس رواية “عمارة يعقوبيان” للأسواني، ولولا السينما لما عرف الناس روايات إبراهيم أصلان، التي تحولت إحدى رواياته إلى فيلم “مواطن مصري”، السينما ترتبط بالسرد والرواية، ولها دور في توجهات الناس نحو السرديات، وهذا ما لا نجده في الشعر.
الشعر لم يرتبط بتقنية أخرى تنهض به إبداعيا
الشعر منبري، صحيح أن ثمة اهتماما بالشعر والناس تسمع الشعر، لكن الالتباس الذي يدور حول القصيدة الحديثة وقصيدة النثر خاصة، جعل الناس يبتعدون عن الشعر، لكن يبقى الشعر يرتبط بالغنائية والجمال والتخييل، أكثر من الرواية التي ترتبط بالواقع وسرد التفاصيل.
لم أفكر في كتابة رواية
بعد هذه التجربة، والحرث الطويل مع القراءات والابحار في عوالم السرد، ألم تجرِّب كتابة الرواية؟
لا، لم أفكر في كتابة رواية، أنا أكتب القصة القصيرة، وأجد أن هذا الفن لم يأخذ حقه مثلما أخذت الرواية حقها، حيث لا توجد جائزة للقصة القصيرة بمستوى البوكر على سبيل المثال، لكني كتبت عددا من القصائد، وبداياتي كانت مع الشعر، ولكن في زحمة الشعراء وجدت نفسي أن لا أكون شاعرا، بحجم هذا الشعر الممتد في الوطن العربي، فأخذتني القصة إلى اتجاه آخر، ووجدت نفسي أعبر عن هذا العالم في قصصي، أكثر من القصائد التي كتبتها في مناسبات مختلفة وعن الذات، لذلك أنا ولدت شاعرا، ولا أعرف هل أنتهي روائيا أم قاصا.
القصة القصيرة التقاطات
ثمة جائزة باسم يوسف ادريس ونجيب محفوظ للقصة القصيرة
صحيح، لكنها أقل شهرة منها وليست أقل قيمة، الأمر الآخر أن الرواية تحتاج إلى زمن طويل, يتعايش فيه الكاتب مع شخصياته، في حين أن القصة التقاطات لهذا الواقع في مساحات قصيرة، أنا منشغل في قضايا كثيرة لها علاقة بالأكاديمية، فأنا أستاذ جامعي، ولديَّ أعمال ومشاريع في النقد، فلذلك أجد أن القصة القصيرة أشبه باستراحة المحارب في عالم النقد، في حين أن الرواية تحتاج إلى أكثر من ذلك.
حنينك الجارف إلى المكان، والكتابة بلغة الحنين إلى تلك الأيام الخوالي، هل يمثل لك المكان قيمة جمالية؟
المكان مهم جدا، وحتى هذا المكان موجود عند الانسان العربي عبر التاريخ، وحتى عند الشعراء، البكائيات على الأطلال هي ارتباط الانسان بالمكان، والمكان يشكل عالما للإنسان، أما عن تجربتي أنا مع المكان فلسبب أعزوه إلى أنني افتقدت مكاني الأول، والذي هو مسقط رأسي، أنا من مواليد “أريحا” عام 1962م، والتي احتلت من قبل الإسرائيليين، أجد أنني افتقدت المكان، أكتب عن الأمكنة التي أعيشها، لتصبح جزءا من ذاكرتي، كتبت عن أماكن كثيرة، ترددت عليها في الأردن والقاهرة، لأني عشت فيها سنوات طويلة، المكان جزء مهم من حياتي، ثمة حميمية عالية ما بيني وما بين المكان، علاقتي بالمكان علاقة متجذرة ووجدانية، فكتبت عن الأمكنة، كتبت أشياء كثيرة عن الأمكنة التي عشت فيها، ولهذه الأمكنة طابع مختلف، المكان له تأثير كبير على الناس، حتى على تشكيل وعيهم، ورؤيتهم للحياة، هذه الأمكنة تستهويني وهي أيضا تظهر في قصصي بشكل بارز.
عام عبدالفتاح الكواملة
نتحدث عن علاقتك بأستاذنا الشاعر الفلسطيني عبدالفتاح الكواملة، وهو شاعر كبير توفي عام 1987م، وقد تشرَّفت بالدراسة على يديه في المرحلة الابتدائية، المفارقة أن الكواملة لم يأخذك إلى حوزته الشعرية، بقدر ما نأيت بنفسك إلى السرد.
تربطني علاقة وثيقة جدا بالشاعر الفلسطيني عبدالفتاح الكواملة، وكلانا من قرية زكريا المحتلة، وهو شاعر كبير، وإن كان هو يكتب القصيدة الكلاسيكية بالمفهوم الحديث، لكنه استطاع أن يعبِّر في شعره عن الأماكن التي أحبها، عن نزوى ومنح في عُمان حيث عمل مدرسا خلال السبعينات الماضية، وارتبط قبل ذلك بصحراء نجد في المملكة العربية السعودية، الصحراء جذبت الكواملة، فظهر هذا الحب والجماليات في شعره.
ثمة حنين جارف إلى عبدالفتاح الكواملة الإنسان، وكما وعدت أن يكون هذا العام عام 2014م، أن يكون عاما لعبدالفتاح الكواملة، هل باعتبارك وصيا لأعماله غير المنشورة أم لشيء آخر؟
أنا وصي ووريث الكواملة الأدبي، وقد أصدرت عنه كتابين، الأول كان بعنوان “الأعمال الشعرية غير المنشورة لعبدالفتاح الكواملة”، والثاني “بين يدي النجديات”، ولديَّ أوراق كثيرة في الشعر والنثر والرسائل لعبدالفتاح تستحق النشر، وقد تأخرت كثيرا في نشر هذا النتاج منذ أن استلمتها منه قبل موته المفجع عام 1987م، لكن قد تأتي الأشياء في مكانها أو في أوانها، وأنا فعلا سأعتبر عام 2014م هو عام عبدالفتاح، وسأعرِّف الناس والعالم عن هذا الشاعر المغمور، والذي ترك نتاجا يستحق الاطلاع والقراءة، والاهتمام من الدارسين والباحثين والنقاد، وعبدالفتاح هو أستاذ ترك أثرا كبيرا في تلاميذه، ومن تلاميذه في الأردن الشاعر الكبير حيدر محمود، والذي وصل إلى منصب وزير للثقافة، والناقد الدكتور حسين جمعة، والناقد عبدالله رضوان، وعشرات التلاميذ في سلطنة عمان والسعودية، وحضرتك من تلاميذه، وأعترف لك بصراحة أنه لولا الكواملة، ما كان زياد أبولبن أديبا ويهتم بالأدب والثقافة، فهو صقل شخصيتي الثقافية والأدبية، وكان موجهي وأستاذي وأبي الروحي في حياتي، لذلك فإن الكواملة ترك أثرا كبيرا في حياتي، وفي توجهاتي الفكرية، وهذا الشعور الإنساني وإخلاصي لأصدقائه تمثل في شخصيته المفعمة بالإنسانية.
أما على الجانب الفكري والإبداعي فقد كتب شعرا جميلا في قرى عُمان وفلسطين، وانشغل بالشعر السياسي، والذي له محاذير كثيرة في نشره، وكتب نصوصا نثرية عن أماكن في عُمان، وهذه النصوص في غاية الروعة والجمال، مشبعة بلغة جميلة، وتحمل طابع علاقة الإنسان بالمكان، إلى جانب ذلك كتب رسائل إلى أصدقائه، وعندما أتحدث عن رسائل الكواملة، فهي ليست رسائل شخصية من صفحة واحدة، بل هي رسائل ترتكز على فكر وثقافة وفلسفة، بعض من رسائله وصلت إلى أكثر من مائتي صفحة، وبعضها أقل، تحمل ثقافة ووعي كاتب حريص على التعليم والتربية والثقافة والفكر، فقد درس الفلسفة في القاهرة، ثم تحوَّل إلى اللغة العربية، لأنه كان محبا كثيرا للأدب العربي، لكن الفلسفة ترتبط باللغة ولا تبتعد عنها، إذ لا يمكن لأحد أن يتخصص ويدرس اللغة العربية بمعزل عن الفلسفة، إنها جزء مهم في تشكل وعي الإنسان، ولا أقول: إن عبدالفتاح الكواملة مجرد شاعر فقط، بل هو مفكر وتربوي من الطراز الأول.
الفيسبوك ولغة “العربيز”
لديك صفحة في الفيس بوك، ماذا عن تجربتك معها، وهل ترى أن الخطاب الأدبي القادم سيختلف كثيرا، بتعامل الكتاب مع وسائل التواصل الالكتروني؟
لديَّ صفحة على الفيسبوك، لفتت نظر الكثير، ويعود السبب إلى أن الفيسبوك أصبح يتواصل مع العالم الاجتماعي، وهو الأكثر حرية في التعبير دون قيود، وقد نشرت كثيرا من قصصي ومقالاتي في هذه الصفحة، ووجدت فيها مساحة لالتقاط هوامش الأشياء، بحيث ننشر صورة او تعليق او مقالة أو قصة، أو ننتقد السياسات العربية بحرية مطلقة، دون أي تحفظ، المستقبل للتكنولوجيا الحديثة، والأدب لن يكون بمعزل عن ذلك، فكثير من الأدباء لهم صفحات على الفيسبوك، واستطاعوا أن يوصلوا نتاجهم إلى القارئ، أكثر من إصدار أو النشر في الصحف والمجلات، وهذه ظاهرة يجب أن تدرس من قبل النقاد، هي لغة الفيسبوك، اللغة التي بدأ يكتب بها جيل جديد، تأخذ مفهوم “عربيز”، وهي كلمة منحوتة تجمع بين الكلمتين العربية والإنجليزية، وأصبحت متداولة، وهذه الحروفية في الكتابة، كتابة اللغة العربية بالكلمات والحروف الانجليزية، نحن في حاجة إلى دراستها، ولا يمكن أن نكون بمعزل عما يحدث في العالم التكنولوجي، وقد كتبت بحثا طريفا تناولت فيه هذه الازدواجية.
أخيرا ما هو موقف اللغة من ذلك؟
نحن الآن في عولمة، العالم أصبح شاشة فضية وملونة، ولكن ثمة محاذير مستقبلية، تعود إلى تغيير لغة الشباب، بدأت تتسلل إلى الكتابات وكأننا نعيش عجمة جديدة دخلت على اللغة، وفي خوف على هذه اللغة، ليس خوفا من الاندثار، هو خوف من أن توجد قطيعة بين الماضي والحاضر، لذلك علينا أن نتنبه إلى أنه يجب أن نعمل على أن إيجاد وعي لدى الأجيال، ونعرفهم بمخاطر هذه اللغة التي يتخاطبون بها.
عُمان
|
|
|
|