العربية الحديثة

أ. محمد ولد محمد سالم

يرى الكاتب محمد بنيس في مقال حديث له أن اللغة العربية ما تزال تعاني سيطرة التقليد وهيمنة الفكر الماضوي، وأن الخطوة الأولى لتطويرها هي أن نفك ارتباطها مع هذا الماضي ونفسح المجال ل"العربية الحديثة" لكي تأخذ مكانها، لأنها هي المستقبل للعرب وللثقافة العربية، وهي التي ستضعهم على طريق الحداثة، ولا يشرح بنيس ما يعنيه بالعربية الحديثة، لكنه يشير إلى أنها هي التي تحتضن العاميات و"تستضيف اللغة الأجنبية خاصة الإنجليزية والفرنسية"، وهناك ملاحظة دالة في أثناء حديثه يقول فيها إنه كثيراً ما يصادف في نصوص كتاب محدثين من مختلف المناطق العربية ألفاظا غريبة عليه، فيبحث عنها في القواميس فلا يجدها، ويستنتج من ذلك أن الخطأ منه هو وليس من الكاتب، لأن الكتّاب المحدثين حساسون للغة ويعبرون عن ثقافتهم، أما هو فلا تزال تسيطر عليه أطر اللغة القديمة وقواميسها، يمكن أن نقول إذن إن بنيس يعني باللغة العربية الحديثة اللغة التي تتخلى عن قواعد العربية التقليدية، وتفتح أذرعها دون تحفظ للّهجات العربية وللغات القوميات غير العربية داخل الوطن العربي كالكردية والأمازيغية والتركمانية، وللّغات الأجنبية كالفرنسية والإنجليزية، وهذه اللغة ما تزال مغيبة محظورة بسبب سيطرة اللغة التقليدية .
قد نتفق مع محمد بنيس في القول بوجود "اللغة العربية الحديثة"، لكننا نختلف معه في توصيف هذه اللغة، ومستوى وجودها، ففي حين يرى بنيس أن هذه اللغة هي تصور وإمكانية فكرية لم تمارس بعد، فإننا نعتبرها موجودة وممارسة فعلا في واقعنا اليوم، وهي تتحرك بحيوية وتدخل في حوار أخذ وعطاء مع لهجاتها، وكذلك مع اللغات التي تتقاطع معها جغرافيا، لكنّها على عكس ما يتمناه بنيس ويدعو له لم تقطع صلتها مع ماضيها اللغوي، ولم تلغ قواعدها دفعة واحدة، وليست لها مصلحة من ذلك، لأن اللغة تخضع للاستعمال الجمعي، ولا يتحكم فيها عند الاستعمال إلا منطقها الداخلي، وأنساق أبنيتها النحوية والصرفية والبلاغية، ومرونة تلك الأنساق في استيعاب الجديد، وفي التطور الذاتي، ولا يمكن بقرار من لغويين أو سياسيين التخلي عن تلك القواعد أو صناعة قواعد جديدة .
العربية الحديثة اليوم ليست هي دواوين الشعر الموروثة عن الماضي وحدها ولا كتب الناثرين والمؤرخين والعلماء والفقهاء التقليديين، ولا ما يكتبه العرب اليوم أو يتكلمونه فحسب، بل هي أكثر من ذلك، إنها ما تتعامل به مصانع السيارات في اليابان وأسواق البضاعة في الصين ومختبرات العطور ومحال الأزياء في فرنسا وإيطاليا، وشركات الإلكترونيات والموبايلات شرقا وغربا، وشركات صناعة السينما في هوليوود، والفضاء الإلكتروني الهائل، وآلاف الفضائيات، ومنظمة الأمم المتحدة والمنظمة الأوروبية، والاتحاد الإفريقي، هذه هي العربية الحديثة، وهي موجودة حية وفاعلة وغير مغيبة ولا محجور عليها، بل إن المفارقة التي تعيشها هذه العربية هي عدم وجود سند "قواعدي" يدعمها ويمدها بالرأي ويوجه بعض مساراتها، لأن المؤسسات البحثية المتعلقة بها مهملة ومغيبة وعاجزة عن ملاحقة ذلك التطور .

الخليج