جماليات التجريب وتشكيل اللغة في النص الشعري الجديــــد

د. رزاق محمود الحكيم

        في مطلع القرن العشرين ، اتصل العرب بالثقافــة الغربية ، واطلعوا على المناهج الجديدة ، وتأثروا بها ، ونقلوا وترجمــوا علوم الأدب والمسرح والفـــن ، وحين تأملوا في الإرث الثقافي العربي وجدوه غنيـــاً بالفن والمواقف الإنسانيــــــة وقضايا المجتمع والعلم والفلسفة ، فبدأ عصر الإحياء الأدبي ، وبعث أمجــــاد الفكر العربي ، وفي العشرينيات من القرن الماضي ، تأسست المدارس النقدية ، كمدرسـة الديوان ، ثم مدرسة أبولو ، ومدرسة شعراء المهجر واحتدم الصراع بين المحافظين على الأساليب القديمــــة ، وبين المجددين ، وهذا الصراع بين القدم والحداثة صراع قديم ، ولكنه يتجدد في كل عصر .
        أما النص الشعري فقد استفاد من كل هــذه الروافد الجديدة وظهرت التلوينات الأدبية والبلاغية فيه ،  سواء في تشكيل الصورة الفنية أو تشكيـــل اللغة . وسأتناول كمثال على ذلك موقف ثلاثة شعراء محدثين ، من ظاهرة طبيعية مألوفة هي ظاهرة الغروب ، الشاعر الأول خليل مطران . قال :
             ياللغروب ومابـه من عبرة           للمستهام وعبــــرة للرائي
            أوليس نزعاً للنهار وصرعة          للشمس بين مآتم الأضواء
            أوليس طمساً لليقين ومبعثـــاً          للشك بين غلائل الظلمــاء
      الشاعر الثاني الذي تناول وصف ظاهرة الغروب هو معروف الرصـافي، وهومن شعراء الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي . قال :
          نزلت تجر إلى الغروب ذيولا          صفراء تشبـــه عاشقاً متبولا
          تهتز بين يد المغيب كأنهـــــا          صب تململ في الفراش عليلا
     أما النص الثالث الذي يصف ظاهرة الغروب ، فهو للشاعر بدر شاكر السيــاب
وهو من رواد مدرسة الشعر الحديث بالعراق . قال :
     تثاءب المساء والغيوم ماتزال
     تسح ماتسح من دموعها الثقال
     كأن طفلا بات يهذي قبل أن ينام
     بأن أمه التي أفاق منذ عام
     فلم يجدها  . . .
     فنحن الآن أمام ثلاث تجارب إبداعية، وثلاثـة مساءات للطبيعة:المساء المكان، والمساء الزمان ، والمساء الإنسان ، وحين نستجلي فضـــــــاءات الصورة  الشعرية وتشكيل اللغــــة عند الشاعرين خليل مطران ومعروف الرصافي ، فإننا نجده فضاء انفعالياً ، ووصفياً وإشهارياً ، فيه سرد متتابــع للمناظر الخارجية للطبيعة ، وإن ذلك الوصف قد يستغرق أحياناً أبياتاً كثيرة ، فإذا تحقــــق ذلك جاء الحديث عن الصورة التشخيصية في حيز ضيق من النص ، ربما يكـــــون في بيت أو بيتين ، وهذه ميزة ثابتة في نظام النص الشعري القديم ، إذ لايصل الشاعر إلى الصورة الحدث إلا بعـد مقدمات وتفاصيل كثيرة . إن النص الشعري المعتمد على أنغام عمود الشعـرالعربي القديم ، وإن كان قد استغنى عن المقدمات الطللية والغزلية ، ولكنه لم يتخلص نهائياً من المقدمات الوصفية والإشهــارية للمعنى ، فهـــذا نمط من الخطاب يتبعه تقليد في  القراءة والفهم والتلقي .
    غير أن النص الثــــالث للسياب يكون قد خطـــا بالنص الشعري خطــوة طيبة ، متجاوزاً المقدمات الإشهارية ليدخل في صميــــــم التجربة ، مستفيــــداً من النغمية الحروفية لصوت الألف الممتد امتداد المسافات الزمانية ، ومن التكرار والتتابـــــــع المتعدد لهذا الصوت : ( تثاءب المساء والغيوم ماتزال . . تسح ماتسح من دموعهـــا الثقال . . ) وهكذا أصبحت القصيدة عملا يلجــــــــأ إلى اللغة لتقوم بمهمة إيحاءات متوالية ، كل إيحاء يفجر إيحاء آخر ، فالسيـــــــــاب الذي يصف الفضاءات الممتدة للمساء لايكتفي بوصف ماهو كائن ، بل يعــــــود إلى ماكان ، يداعب خيال المتلقي ، حيث يلقي أمامـــه مجموعة من الصور المتعاقبة : صورة المساء المتثائب ، صورة السحاب الباكي ، صورة الطفل اليتيم الذي يسأل عن أمه باستمرار ، صورة المودع الحزين الذي يتألم ساعة الرحيل ، فاحاسيس الشاعر هنا هي التي تصف، وهي التي تنطق ، ومشاعره هي التي توضح عمق المعاناة ، وفداحة الماساة ، مأساة الفــــراق ووحشة الرحيل .
    أما تشكيل اللغة ، فبينما لجـــأ خليل مطران إلى صيغ المفرد الصارمة ، لوصف منظر الشمس الغاربــــة وهي تصارع الطبيعة عند الشفق ، لجأ الرصافي إلى صيغ الجمع والصفات المشبهة ، واصفاً وجــــــــه الشمس الغاربة التي تشبه وجه العاشق المريض .  
    غير أن تشكيل اللغة عند السياب كـان أكثر طواعية ، مرتبطاً بالمكان الذي يبتعد عنه ثم يعود إليه من جديد ، لكن الشيء الذي تتشابه فيه النصوص الثلاثة هو مسحة الحزن والأسى في وصف الغروب ، وقد يعود ذلك إلى سـوء حالة الشاعر النفسية ، وتردي الحياة  الاجتماعية ، وشيوع ظاهرة القلق والتوتر وعدم الاستقرار .