حركية الكتابة العربية في اللوحة التشكيلية

أ. أيمن حزّوري

أًشبعت صحفنا ومجلاتنا الفنية وكذا معاهد الفنون في البلاد العربية بكتب ومقالات عن الحروفية، المصطح الذي أطلق على استخدام الحرف العربي في اللوحة وفي العمل الفني بشكل عام وقد اختلف الكتاب عن الفن في العالم العربي ومازالوا في استخدام المصطلح الدقيق لهذا التوجه الفني.
أعمالٌ عبثيةٌ وأُخرى جدية عرفها هذا التيار لما لاقته من تسويق ودعم، لاسيما وأن هذا التيار يعزز مفهوم الهوية في الفن. عرف هذا التوجه الفني أعمالاً هامة لاقت وما تزال كل الاحترام والاهتمام المحلي والعالمي، كأعمال الرائد الأول شاكر حسن آل اسعيد من العراق والسوري محمود حماد، والتونسي نجا المهداوي ورشيد قريشي الجزائري وكمال بلاطة من فلسطين وآخرين .. إلاّ أن هذا التيار عرف اعمالا عبثية أيضا خاصة منذ نهايات القرن الماضي وكان أحد أسباب انتشار هذه الظاهرة الاخيرة سياسات الحكومات التي دعمت هذا التوجه باعتباره معبراً عن هوية فن المنطقة العربية.
إلاّ أن شيئاَ لافتاً للانتباه في الأعمال القيمة والجدية من هذا الاتجاه كان لابد لنا أن نقف عنده لما يحمله من قيم تشكيلية ودلالات فنية تستحق الدراسة والتحليل: ألا وهي حركية الخط والكتابة التي وسمت أعمالاً هامة في هذا التوجه الفني.
كنت طالباً في المرحلة الإعدادية ،أكتب واجبي المدرسي، حين اقترب والدي الأمي وأخذ قلماً من أقلامي وراح يخط بيده كتاباته وتواقيعه اللا مقروءة. سألته: ماذا تكتب؟ أجابني: ألقيت نظرة على ما تكتبه فحاولت فعل الشيء نفسه.
كنت أعرف جيداً أن أبي اقتبس حركة الحروف العربية وراح يكتب بحرية متجاهلاً المعنى مركزاً على صورة الكتابة التي طُبعت في ذهنه، حيث قام باختزال الأحرف إلى خطوط عفوية تشبه كتابتنا العربية.
إنّ للحرف العربي حركة تشكيلية تميزه عن غيره في اللغات الأخرى، فلو قمنا برسم حركات الحروف لحصلنا على رسم يشبه الكتابة العربية وان لم يكن مقروءاً، من هنا فالحركية هي عملية تفريغ للكتابة من محتواها اللغوي والتركيز على القيمة الفنية لرسم الحرف.
لم يكن نجا مهداوي خطاطاً ولم يكتب نصاً مقروءاً بل راح يخط لغةً تشكيلية قائمة ليس فقط على حركية الكتابة العربية، وإنما على إعادة إنتاج النماذج الخطية التقليدية بأسلوبه الخاص متجاوزاً بذلك قواعدها الفنية واللغوية ومحافظاً في نفس الوقت على جوهر النموذج التقليدي. لم يعد الكوفي هندسياً بقدر ما يعبر عن شكل الحرف وشكل الكتابة، يمتزج تارةً باستطالات الديواني ليخدم تكوينات الكتابة. تمتلئ أعماله المنجزة على الجلد المدبوغ بكتابات نصية مجردة من المعنى اللغوي وإن أوحت به، كتابة ميكانيكية تحمل إيقاعاً موسيقياً قائماً على تكرار المتنوع، تكسرها عادةً طلاسم كتابية تتربع على الخط الأمامي لسطح العمل.
كما واشتغل على حركية الخط العربي حسين ماضي من لبنان صانعاً أبجديةً خاصة به ،بينما تميز حسن مسعودي بأمشاقه العفوية وحركة حروفه الحرّة حيث تكاد تخلو الكلمة من معناها حاملةً جمالية الحركةَ الخطيةِ وقوتها.
إن حركية الكتابة العربية في اللوحة التشكيلية لهي ظاهرةٌ هامة فيما اصطُلح عليه بالحروفية ،سواءً كانت هذه الكتابة امتداداً لأنماط الخط العربي التقليدي أو كانت ذاتية غير خاضعة لقواعد الخط، ذلك أنها بنيت على رؤية تشكيلية بحتة انطلاقاً من الموروث الثقافي الخاص بالبلاد العربية ألا وهو الخط العربي.
إن هذه الحركية أعطت جمالية معاصرة للخط والكتابة العربية وأعادت إنتاجها بصيغٍ تجريدية وتشكيليةٍ جدية تستحق الاحترام والاهتمام.

القدس العربي