|

على الأقل: شعرية برج بابل
أ. نور الدين محقق
الحديث عن شعرية برج بابل هو حديث بصيغة أخرى عن شعرية الترجمة، عن هذا الانتقال الجميل بين الثقافات عبر اللغات الحية منها وتلك التي في سبات، حتى لا نقول بموتها. الترجمة هي ميزان حرارة تفاعل المجتمع وانفتاحه على الآخر.
فكلما كانت الترجمة مزدهرة كلما كان المجتمع في كامل صحته الثقافية. دلك أن فعل الترجمة هو فعل حضاري بامتياز، فرغم ازدهار الثقافة الفرنسية والثقافية الانجليزية نجد أنهما يستقبلان عن طريق الترجمة آلاف الكتب من الثقافات الأخرى، ولا يكتفيان بما لديهما من كتب أو كتاب. وإذا نحن أردنا على سبيل المثال أن نقف على الآثار الايجابية التي تخلفها ترجمة الكتب على ثقافة معينة، فما علينا سوى أن نتمعن فيما فعلته ترجمة الكتب النقدية الفرنسية والانجليزية في تطور الثقافة العربية وجعلها ليس فقط منفتحة على العالم، بل حتى على ذاتها وعلى تراثها الخاص. إن من يقرأ كتب المفكر الكبير عبد الله العروي يجد أثر الثقافة الفرنسية واضحا فيها، وهو ما أهله ليس لأن يكون مثقفا عربيا كبيرا فحسب بل لأن يكون مثقفا كونيا أفاد بكتبه حتى الثقافات الأخرى في ربوع العالم بأسره. وقل ذلك على كل كتابنا العرب المتميزين من أمثال عبد الكبير الخطيبي وعبد الفتاح كيليطو ومحمد برادة واللائحة طويلة .لقد استطاع النقد العربي أن يتطور بفضل الترجمات الكبرى لكتب النقد الفرنسي الحديث بالخصوص والغربي عموما نمثل لذلك بكتب كل من بارت وجنيت وتوطوروف وغريماس وسواهم كثير، بل إن الكتب النقدية التي أثرت في الثقافة العربية الحديثة وهي في الغالب كتب نقدية مغربية، كانت تخصص فصولها الأولى لتحديد المفاهيم اعتمادا على هذه الدراسات الغربية، وهو أمر ما كان ليتم لولا فعل الترجمة الذي كان حاضرا حتى في هذه الكتب النقدية نفسها.
من هنا، كلما رأيت كتابا كبيرا في القيمة طبعا في لغة أخرى تمنيت لو يجد مترجما عربيا جادا ينقله إلى اللغة العربية حتى يخصب تربتها. هكذا سرني الأمر وأن أجد على سبيل المثال كتاب «سيميائيات الأهواء» لكل من ألجيرداس جوليان كريماس وجاك فونتنيي، والذي قام بترجمته الباحث السيميائي المغربي سعيد بنكراد، في المكتبة العربية ، كما سرني الأمر وأنا أرى كتاب «الغصن الذهبي» يترجم من جديد إلى اللغة العربية ويتم نشره في طبعة جميلة. إن الترجمة هي مرآة الثقافة فمن خلالها ترى كل ثقافة صورتها الحقيقة في ظلال الثقافات الأخرى المتواجدة معها، ومن خلالها تتوحد اللغات من جديد وهي تعيد بناء برج بابل، أو بتعبير الكاتب المغربي حسن بحراوي في كتابه الرائع الذي خصصه لقراءة تاريخ الترجمة عبر كل عصورها، تعيد بناء «أبراج بابل».
هكذا تكون الترجمة فعل تلاقح ثقافي كبير بين مختلف الشعوب وبوابة حوار ثقافي يسعى للتعرف على الآخر عن قرب، فلا شيء يتيح للإنسان التعرف على شعب من شعوب العالم مثل التعرف على ثقافته ومكوناتها في محتلف المجالات الإنسانية، من شعر وقصة ومسرح ورواية وتشكيل وسينما وفلسفة وما إلى ذلك. لذا فمسألة الاهتمام بالترجمة وإيلائها الاهتمام الجديرة به،هي مسألة أصبح يفرضها العصر الحديث بشكل قوي ولم تعد تخص اهتمام الأفراد فحسب .و لنا في التاريخ الإنساني برمته علامات مضيئة ساهمت الترجمة فيها بالتقدم الحضاري وبالانفتاح العالمي الخصب والمثمر بين مختلف شعوب الأرض. فلنترجم إذن، كما سبق أن أعلن ذلك منذ زمن بعيد الكاتب اللبناني الشهير ميخائيل نعيمة.
القدس العربي
|
|
|
|