البلاغة في آية النّور من سورة النّور

د. نوال بنت سيف البلوشية

تتميز أمثال القرآن بأنّها تركيز لصورة حيّة تنصهر فيها كلّ الأنسجة والخيوط والأفكار الّتي قام عليها البناء اللّغويّ للسورة كلها، وهذا بدوره يحتاج إلى أن نحكّم فهمه من حيث هو فكرة بنائيّة مستنبطة، من أمثال القرآن الكريم، ومن حيث هو لغة بيانيّة أسلوب وطريقة بيانيّة جرت في الكلام الشّريف، لما تحوية تلك النّصوص المقدسة من دقة في اللّفظ والأفكار والصّور البيانيّة الّتي تنساب في طياتها القوانين الكونيّة .     
لذا تجد الباحث الأسلوبي يبدأ تحليله للنّصّ الّذي بين يديه من ملحوظة تظهر له ويشعر بأهميتها، ثم يتتبع السّمات اللّغويّة المتشابه، وبناءً على ذلك يفترض تفسيرًا داخليًا نفسيًّا لتلك الظّاهرات الخارجيّة. ثمّ يعود إلى النّصّ ليرى إن كان هذا التّفسير مستقيمًا مع سائر جزئياته، ويمكن أن يُكرر هذه الحركة بين ظاهرة النّصّ وباطنه عدّة مرات حتى يستقيم له تفسير النّصّ الّذي بين يديه.
وما أعظم النّصوص حينما تكون من القرآن الكريم؛ لما تحمله من المعاني الأصيلة والقيّم النّبيلة والدّروس المؤثرة الّتي تحقق الحياة الصّالحة لبني البشريّة وفق شرعه ودستوره المتين؛ من المنطلق السابق عزمت في هذا المقال تناول جانب بلاغيّ في نصّ قرانيّ ما؛ مختارة بين الآيات العظيمة الآية 35 من سورة النّور: قال تعالى:
" اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ زَيْتُونِةٍ لَّا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُّورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " {35} سورة النور
وقبل أن أتناول الجانب البلاغيّ من الآية؛ لابد أن أبيّن ما  ذهب إليه علماء اللّغة في التّعامل مع دلالات الكلمات، "أن لكلّ دال مدلولاً واحدًا في أصل الوضع"، لكن عبقرية الأداء الجمالي في كلمات القرآن  هي الّتي تزحزح ذلك الوضع، لتعمل على تفريغ الطّاقات الانفعاليّة والشّحنات الدّلاليّة الّتي اكتسبتها للكلمة من استعمالها في مواضع غير مألوفة فتنحرف عن أصل الوضع، وقدّ كان المجاز تحوّلاً عن المواضعة وانتهاكًا للمألوف، تعددت معه الدّلالات تبعًا لتعدد واختلاف تكوينهم، من خلال تلك الدّلالات المتنوعة للفظ القرآني يظهر الجانب البلاغي والاعجاز القرآني بين الكلمات في مختلف العلوم .
وحتى لا يكون هناك أيّ لبس في فهم الصّور التّمثيليّة الواردة في الآية؛ سأتطرق إلى عرض الجانب الصّرفيّ أولاً بعدها سأبين الجوانب البلاغية فيها:
أولاً: الجانب الصّرفيّ
مشكاة: اسم للكوّة غير النافذة أو الأنبوبة وسط القنديل، وزنه مفعلة بكسر الميم على وزن اسم الآلة من (شكا) ، فيه إعلال لأنّ أصله مشكوة، تحرّكت الواو بعد فتح قلبت ألفا، وفي المشكاة أقوال كثيرة في معناها.
مصباح: اسم آلة جاء من الثّلاثيّ اللّازم (صبح) على غير قياس، وزنه مفعال بكسر الميم.
زجاجة: واحدة الزّجاج اسم جمع للجنس، هو معروف وزنه فُعالة بضمّ الفاء، قيل يجوز في الفاء الكسر والفتح، ومثل ذلك الزجاج.
درّيّ: اسم منسوب إلى الدرّ، الجوهر المعروف لضيائه ولمعانه، ووزن دريّ فعليّ بضمّ الفاء.
غربيّة: مؤنّث غربيّ، اسم منسوب إلى الغرب، وزنه فعليّة بفتح الفاء.
زيتها: اسم للسائل الّذي يؤتدم به ويخرج من الزّيتون وغيره، وزنه فعل بفتح فسكون.

ثانيًا: الجانب البلاغيّ

1.    التّشبيه المرسل: في قوله تعالى «مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ..» الآية فقد جاء التّشبيه هنا بواسطة الأداة وهي الكاف، والمراد أنّ النّور الّذي شبه به الحق، نور متضاعف، قد تناصر فيه المشكاة والزّجاجة والمصباح والزّيت، حتى لم تبق بقية، مما يقوي النّور ويزيده إشراقًا ويمدّه بإضاءة، وذلك أنّ المصباح إذا كان في مكان متضايق كالمشكاة كان أضوأ له وأجمع لنوره، بخلاف المكان الواسع فإنّ الضّوء ينبث فيه وينتشر.
وأبدع الكرخي في تحديده هذا التّشبيه التّمثيلي فقال: «ومثل الله نوره، أي معرفته في قلب المؤمن، بنور المصباح دون نور الشّمس، مع أنّ نورها أتمّ، لأن المقصود تمثيل النّور في القلب، والقلب في الصّدور، والصّدر في البدن، بالمصباح والمصباح في الزّجاجة، والزّجاجة في القنديل.
2.    الطّباق: في قوله تعالى «لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ» وقد تكلّم علماء البيان كثيرًا عن هذا الطّباق. قال الزّمخشريّ: وقيل: لا في مضحى ولا في مقنأة «وهو المكان الذي لا تطلع عليه الشّمس» ولكن الشّمس والظّل يتعاقبان عليها، وذلك أجود لحملها وأصفى لدهنها،قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) «لا خير في شجرة في مقنأة، ولا نبات في مقنأة، ولا خير فيهما في مضحى» .وقيل: ليست مما تطلع عليه الشّمس في وقت شروقها أو غروبها فقط، بل تصيبها بالغداة والعشيّ جميعا، فهي شرقيّة وغربيّة.
3.    التّنكير: في قوله تعالى "نُورٌ عَلى نُور" :ضرب من الفخامة والمبالغة، لا أرشق ولا أجمل منه، فليس هو نورًا واحدًا، معينًا أو غير معين، فوق نور آخر مثله، وليس هو مجموع نورين اثنين فقط، بل هو عبارة عن نور متضاعف، من غير تحديد، لتضاعفه بحد معين.
4.    تشابه الأطراف: وهو أنّ ينظر المتكلّم إلى لفظه وقعت في آخر جملة من الفقرة في النّثر، أو آخر لفظة وقعت في آخر المصراع الأوّل في النّظم، فيبتدئ بها.
تأمل في تشابه أطراف هذه الجمل المتلاحقة: "اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ، مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ، الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ"
نستنتج مما سبق:
سبحانك اللّهم ما أعظمك-  لقد سهل الله تعالى على عباده فهم كثير من المعاني الدّينيّة والسّنن الكونيّة فجسمها لبني البشر من خلال نقلها من الحيز الذّهنيّ المجرد إلى الحيز المادي المحسوس بواسطة الصّور التّمثيليّة؛ لتقريب اللامحدود إلى المحدود، يؤيد ذلك ما جاء في حديث  أَبِي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَامَ فِينَا رَسُولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ ، فَقَالَ : "إِنَّ اللهَ لا يَنَامُ ، وَلا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ ، يَخْفِضُ الْقِسْطَ وَيَرْفَعُهُ ، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ ، حِجَابُهُ النُّورُ ". وَفِي رِوَايَةٍ : "النَّارُ ، لَوْ كَشَفَها لأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ".
ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ــ ـ
المراجع
أبو موسى ، محمد محمد . (1989). أمثال سورة النور . مجلة الوعي الإسلامي - وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت , مج 26, ع 305, , ص ص.12 - 17 .
الجبالي ، ابراهيم . (1990). تفسير سورة النور . هدي الإسلام - الأردن , مج 34, ع 9,10, , ص ص.10 - 19.
الحسن ، محمد علي . (1984). مكتبة المجلة : تفسير سورة النور . هدي الإسلام - الأردن , مج 28, ع 4, , ص ص.83.
(2005). من نور كتاب الله الكريم . التربية الأسلامية - العراق , س 36, ع 8, , ص ص.4 - 10.
خليفة ، محمد الأباصيري . (1977). تفسير سورة النور . مجلة الوعي الإسلامي - وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية - الكويت , مج 13, ع 156, , ص ص.8 - 12.
محمود ، المثنى عبدالفتاح . (2013). الدلالة السياقية في تفسير القرآن العظيم للحافظ ابن كثير . مجلة جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية - العلوم الشرعية - السعودية,ع 29, , ص ص.409 - 460 .
الحمصي محمد صافي . (2013) إعراب القران الكريم. نسخة الكترونيا