اللغة والتبعية

أ. فريدة النقاش

رغم أنني زرت معظم بلدان الخليج العربي، وحضرت فيها مناسبات سياسية ومهرجانات ثقافية إلا أنني لم ألتفت إلى الظاهرة التي تحدث عنها الزميل "محمد المنشاوي" في رسالة له من واشنطن لجريدة "الشروق" قال فيها "إن نخبة الحكم والمال في الخليج تستخدم اللغة الإنجليزية في تعاملاتها حيث تدهورت اللغة العربية وسط مواطنيها" واعتبر الكاتب أن ذلك هو أخطر درجات تفاقم النفوذ الأمريكي، وأقول أنا إنها مظهر واحد للتبعية الثقافية.

وأضاف "المنشاوي" "للأسف لا يريد العرب لأنفسهم أن يسيطروا على مقدراتهم ومصائرهم، واختاروا أن يعطوا مفتاح حياتهم لواشنطن" وهو وصف دقيق للوضع المأساوي الذى وصلنا إليه.
وكنت قد لاحظت في الآونة الأخيرة استخدام بعض الشبان والشابات من خريجي الجامعات الخاصة والأجنبية للغة العربية بحروف إنجليزية، ولاحظت أيضا أنهم يتباهون بالحديث باللغة الإنجليزية، فضلا عن أن معظم المحلات الجديدة من أصغر الدكاكين في الأحياء الشعبية إلى أكبر المولات في الأحياء الثرية أخذت تكتب أسماءها باللغة الإنجليزية المشوهة في الغالب الأعم.
ويعبر هذا الاستخدام للغة الأجنبية بديلا عن اللغة القومية عن أحد مظاهر التبعية الثقافية في صورتها السيكولوجية حيث الإحساس بالدونية إزاء الأجنبي سواء كان محتلا أو متفوقا اقتصاديا وعسكريا، وقبل خمسة قرون قال عالم الاجتماع "بن خلدون" إن المغلوب يقلد الغالب.
ووصل العرب إلى وضع المغلوب للهيمنة الأمريكية منذ نصف قرن، بعد أن كانوا قد أنجزوا تحررهم الوطني في ملاحم نضالية مشرفة ضد الاستعمار القديم، ثم سرعان ما دخلوا بعد الاستقلال في مرحلة من التبعية الاقتصادية والسياسية التي تترتب عليها بالضرورة تبعية الثقافية، فحين تقوم البلدان المتطورة صناعيا بتصدير البضائع وإملاء السياسات فإنها أيضا تصدر الأفكار والقيم للشعوب المغلوبة.
وتحديد نصف القرن الأخير باعتباره بداية للتبعية يرتبط ببدء ما سمى سياسة الانفتاح والاقتصاد الحر بلا ضوابط التي بدأها الرئيس السادات بعد عام واحد من الانتصار المحدود على العدو الإسرائيلي في حرب 1973.
وتمثلت الملامح الأساسية للاختيارات الليبرالية الجديدة في انسحاب الدولة من ميدان الإنتاج والخدمات، وتقليص الصناعة وما سمى بتحرير الزراعة وهو ما سمى بالتثبيت والتكيف الهيكلي كسياسة ثابتة للأذرع الأربعة للعولمة الرأسمالية، أي البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، ومنظمة التجارة العالمية، وهيئة المعونة الأمريكية، وهى المؤسسات التي وضعت شروطها لإدماج اقتصاديات الدول النامية في العولمة الرأسمالية رغما عنها، إن لم يكن باستمالة الساسة الحاكمين وخداعهم كما حدث مع "السادات" فبالحرب المدمرة كما حدث في العراق.
وهي السياسات التي أدت لتحويل هذه الأوطان إلى أسواق وتحويل مواطنيها إلى زبائن لكل السلع التي تنتجها هذه البلدان بعد تدمير صناعاتها الوطنية باسم الخصخصة حينا وباسم التطوير حينا آخر، وتحول ما سمّي بالإصلاح الاقتصادي إلى إصلاح مالي ومحاسبي، وتدهورت الحالة العامة للبلاد في كل الميادين.
وترتب على هذه السياسات التدهور العام في القدرة الإبداعية للشعوب عامة بعد تفوق الاستهلاك على الإنتاج، وتفاقم الانقسام الطبقي ففي المجتمعات، وانهيار التعليم العام الذى هو تعليم الفقراء وغربة العلم وتراجع الفكر الإبداعي النقدي أمام التلقين والإملاء وهو ما مهد الأرض لمبدأ طبقته المدارس واقعيا وهو مبدأ السمع والطاعة الإخوان الذي يلقن الإجابات ويحرم الأسئلة وينتج التطرف.
وتراجع كل الإنتاج الثقافي بالضرورة، وتحول كبار المثقفين إلى جزر معزولة تعمل بشكل فردي، وغرقت الأجيال الجديدة منهم ففي مشكلات الفقر والبحث عن قوارب نجاة ففي قلب عاصفة التقلب الاجتماعي والانهيار الثقافي والعدمية السياسية، وانغلاق الآفاق.
وانفجرت الثورة المصرية ففي الخامس والعشرين من يناير 2011 لتستكمل مسيرتها فى الثلاثين من يونيه 2013 وهى تقلب التربة الوطنية من أجل زرع عفى جديد فى كل الميادين الاقتصادية والاجتماعية، السياسية والثقافية، وهو ما يحتاج إلى ثورة جديدة هادئة طويلة المدى بصورة تطرح كل هذه المهمات على جدول أعمال القوى الوطنية بدءاً بالحكومة ذاتها، وصولا إلى الأحزاب والنقابات ومنظمات المجتمع المدني ومؤسسات المثقفين من أجل النهوض الشامل بالثقافة وفى القلب منها اللغة القومية وعاء الروح للهوية، وصناعة السينما التي سبق أن لعبت دورا أساسيا ففي تاريخ بلادنا اقتصاديا وثقافيا.ومن حسن حظ كل من الثقافة واللغة أن مثقفا كبيرا هو الدكتور "جابر عصفور" قد تولى موقع وزير الثقافة، وهو يعي جيدا أنه ليس هناك مفتاح واحد لعالم الثقافة الشاسع فما بالنا إذا كانت هذه الثقافة تواجه محنة حقيقية.


المدى