سكّان ربض التاريخ: أيّة أمّة؟ أيّة لغة؟

أ. منصف الوهايبي

يذهب المستشرقون إلى أنّ الأدب العربي الحديث أدب ناشئ.، وأنّ تاريخه يبدأ بكتاب رفاعة رافع الطهطاوي» تخليص الإبريز في تلخيص باريس». بل إنّ هذا المفهوم لم يظهر إلاّ في بدايات القرن العشرين

وكان أوّل من استعمله في روسيا كريمسكي وكرتشكوفسكي. والسؤال الذي في الظنّ للولة الأولى أنْ لا وجه له هو:بأيّ حقّ يُدعى الأدب العربي الحديث أدبا ناشئا؟
هذا سؤال كان قد طرحه المستعرب هاملتون جيب منذ النصف الأوّل من القرن الماضي بعد أن بدأ الأدب العربي ينسجم مع حركة الآداب العالميّة، في مركزين كبيرين هما مصر وبلاد الشام حيث نهضت الترجمة بدور كبير في نقل الآداب والعلوم الانسانيّة من الإيطاليّة والفرنسيّة والأنقليزيّة، بعد أن كانت في بداياتها مع محمّد علي مقتصرة على نقل العلوم والهندسة والطب والصيدلة والفلك. وكان ذلك جزءا من مشروع تنويريّ كبير في مصر. على حين كان الأمر في الشام لا يتعدّى المبادرات الفرديّة، إلاّ مع الشوام الذين وفدوا على مصر هربا من الاستبداد العثماني.

وأخذت العربيّة منذ ذلك التاريخ، أي منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أو قبله بقليل؛ تبرح مداراتها المألوفة، لينخرط كتّابها وشعراؤها في اتجاهات ومدارس غربيّة وافدة من رومنسيّة ورمزيّة وسرياليّة وواقعيّة وتصويريّة... ويتّسع الأدب لأجناس من الكتابة، حديثة مثل الرواية والمسرحيّة خاصّة. صحيح أنّ للأدب العربي تاريخا يمتدّ على مدى أربعة عشر قرنا أو أكثر. وهو من أطول الآداب العالميّة، بل هو أطول من أيّة فترة تستطيع أيّة لغة أوروبيّة أن تفخر بها؛ كما يقول جيب نفسه. ولكنّ هذا مظهر خارجيّ خادع .

صحيح أنّ الأدب ينتسب إلى اللغة والأمّة أو الشعب، وليس إلى الجغرافيا. ولكن أيّة لغة؟ أيّة أمّة؟ أيّ شعب؟
اللغة أداة الشعروالأدب والعلم أي صورة «الأمّة». ولعلّ جوهان غوتيفريد هيردر هو الذي عدّل الاستراتيجيّات الأدبيّة، على أساس من تعريفه الأمّة واللغة والأدب والشعب من حيث هي في نظريّته مرادفات، يمكن أن ينوب بعضها بعضا. وهو ما أتاح للأوروبيّين جمع تراثهم الشعبي وإعادة تصنيفه: روايات وقصص وقصائد وأساطير شعبيّة ومسرح قومي أو شعبي. وهيردر يسمّي كلّ ذلك «حكاية اللغات». وهذه تسمية مجازية، ولكنّها قد تكون أنمّ وأدلّ على ما نحن فيه من أمر العربيّة التي هي أقرب ما تكون إلى صورة «الرواية النهر» التي تستعرض حياة أسرة بأجيالها، وما يتخلّلها من سرد المغامرات ودراسة الأخلاق والطبائع وتحليل العواطف والمشاعر.

على أنّ مفردة»الأمّة» في لسان العرب، على ذيوعها وانتشارها يكتنفها الخفاء ويحفّها الغموض. ف»الإمّة» ـ بالكسرـ الحالة والشرعة والدين والنعمة والهيئة والشأن والسُّنَّة والطريقة... وبالضمّ «الأُمّة» هي الرجل الجامع للخير والإمام وجماعة أُرسل إليهم رسول والجيل من كلّ حيّ، والجنس والقوم والخلق... ويقال للأمّ: الأمّة والأمّهة...ف»الأمّة» بنية إيديولوجيّة أو سياسيّة، أكثر منها حقيقة ملموسة. وأصلها الاشتقاقي في اللاتينيّة، على صلة بمفهوم الولادة كما هو الشأن في العربيّة. ولذا كانت فكرة الأمّة تحيل في العصر الوسيط إلى القوم الذين ينتمون إلى أصل واحد أو عرق واحد.

أمّا في الأزمنة الحديثة فقد عصف مفهوم الأمّة بكلّ ما هو إثنيّ أو قبليّ، وأصبح مصدره مجموعا معقّدا من العلاقات التي تتظافر في صياغة شعور بالانتماء الجماعيّ وإرادة العيش معا؛ حتى صار من المتعذّر في كثير أو قليل من الحالات، حدّ الأمّة في عناصر بعينها مثل الأرض والعرق واللغة والدين والثقافة والدولة طبعا. وقد لا يخفى أنّ المفهوم بهذا المعنى، يتخارج عن الأفراد، بذات القدر الذي يداخلهم فيه.

والتداخل شأنه شأن التخارج، ممّا يضع العلاقة بين اللغة والأدب والأمّة أو الشعب ـ وهذا أيضا مفهوم مبهم ـ على حافّة إشكال، وربّما في قلب مفارقة؛ بما يسوق إلى القول إنّها علاقة تُقلَّب على أجناب عدّة. بَيْد أنّ هذا المقال، يكتفي بترشيح قلبل منها للإثارة فحسب. فقد كان العرب القدماء مثلا يستخدمون كلّما تعلّق الأمر بالشعر أو بنظريّته مفهوم «طريقة العرب»؛ ولعلّهم كانوا بذلك يحيلون على جماعة قوميّة بعينها، وليس على الطبقات أو الفئات التي نسمّيها شعبيّة. أمّا عند الأوروبيّين فإنّ النموذج الألماني، مع هيردر كما أسلفت، هو الذي أفضى إلى هذا التعريف: فالشيء لا يُعدّ شعبيّا إلاّ إذا كان قوميّا.

أمّا نحن عرب اليوم،سكّان ربض التاريخ.. الضيوف الذين قدموا من أقاصي التاريخ.. الندماء الذين لم يدعُهم أحد.. فقد جئنا على ما يبدو بعد الأوان..أو في وقت متأخّر من الزمن؛ وقد بدأت الأضواء ـ كما كتب أوكتافيو باث ـ توشك على الانطفاء.. ربّما كان لدينا ماضٍ.. لكنّه الآن لم يعد أكثر من فزّاعات الحقول.. رحم الله العرب.

المغرب