اللغة العربية والأمن القومي العربي والقرار السياسي

أ. حسن نافعة

1- مقدمة
للقومية العربية وجهان: أحدهما ثقافي: يتمحور حول واقع اللغة العربية, لسان الشعوب العربية والمحدد الرئيسي لهويتها الحضارية, والآخر سياسي: يتمحور حول طموح الشعوب العربية في الوحدة والرغبة في تجاوز واقع التجزئة الذي تعيشه. ورغم استحالة الفصل بين الثقافي والسياسي عند تناوله الأحوال أو الأوضاع العربية العامة, إلا أن الهوية الثقافية للعالم العربي أسبق في نشأتها وأكثر وضوحا وتجذرا ورسوخا عن هويته السياسية. وإذا كانت اللغة العربية هي المرآة العاكسة لحالة الثقافة العربية والمحدد الرئيسي للهوية الحضارية للشعوب الناطقة بها, فمما لا شك فيه أن التهديدات والتحديات المشتركة للأمن القومي العربي كانت أحد المحفزات الرئيسية لظهور وتطور الحركة القومية العربية المطالبة بالوحدة وأحد العوامل الدافعة لتجاوز حالة التجزئة السياسية.
وفي هذا السياق يمكن النظر إلى قضيتي "اللغة العربية" و"الأمن القومي العربي" باعتبارهما وجهين لعملة واحدة أو ذراعين في كيان واحد أحدهما يجسد قوته الناعمة والآخر يجسد قوته الصلبة أو الخشنة. وبهذا المعنى من الطبيعي أن ترتبط أوضاع اللغة والثقافة في العالم العربي ارتباطا عضويا, ازدهارا واضمحلالا, بالأوضاع الأمنية لشعوب هذه المنطقة من العالم. ففي فترات المد القومي, والتي عادة ما تشهد جهودا حثيثة لحشد طاقات الشعوب لمواجهة الأخطار والتحديات المشتركة التي تواجهها, تزدهر اللغة العربية وتضرب بجذورها عميقا في التربة الثقافية والفكرية, أما في فترات الجزر القومي تضمحل اللغة العربية وتتراجع مكانتها وتفسح الطريق أمام زحف لغات وثقافات الدول والقوى الأخرى الطامحة إلى الهيمنة على العالم العربي.
وسنحاول في هذا البحث إلقاء الضوء على جدلية العلاقة بين اللغة العربية والأمن القومي العربي, وذلك في ضوء الآفاق الجديدة التي يتيحها "الربيع العربي" التي تؤذن بدخول العالم العربي عصرا جديدا أكثر إشراقا. ونقترح تقسيمه إلى ثلاثة أقسام رئيسية:
الأول: يرصد حالة الأمن العربي في مرحلة المد القومي, وهي المرحلة التي بدأت مع نشأة جامعة الدول العربية واستمرت حتى حرب أكتوبر 73, وانعكاساتها على أوضاع ومكانة اللغة العربية في تلك المرحلة.
الثاني: يرصد حالة الأمن القومي في مرحلة التفكك أو التراجع القومي, وهي المرحلة التي بدأت بالبحث عن تسوية سياسية للصراع مع إسرائيل عقب حرب أكتوبر 1973 وامتدت حتى مقدم "الربيع العربي", وانعكاساتها على أوضاع ومكانة اللغة العربية في تلك المرحلة.
والقسم الثالث: يحاول إلقاء نظرة مستقبلية على ما يتيحه "الربيع العربي" من آفاق بالنسبة لاحتمالات تصحيح أوجه الخلل القائم حاليا سواء على صعيد الأمن القومي العربي المفتقد أو على صعيد اللغة العربية المتراجعة المكانة.
أولا: مرحلة المد القومي:
وهي المرحلة التي انطلقت على استحياء مع نشأة جامعة الدول العربية عام 1945, ووصلت ذروة تألقها خلال الخمسينات والستينات من القرن الماضي, ثم دخلت مرحلة الأفول عقب هزيمة يونيو 67, وأصبحت على شفا الانهيار عقب رحيل عبد الناصر عام 1970 إلى أن لفظت أنفاسها الأخيرة بعد حرب أكتوبر 1973.
ففي عام 1945 تأسست "جامعة الدول العربية" وأصبح للنظام الإقليمي العربي إطار مؤسسي رسمي يتحدث باسمه في المحافل الدولية, وبعد اندلاع ثورة 1952 بقيادة جمال عبد الناصر تزعمت مصر الناصرية حركة القومية العربية المطالبة بالوحدة، ومنحتها زخما هائلا أسهم في وصول حالة المد القومي إلى ذرى لم يصل إليها من قبل. وعلى الرغم من أن هزيمة 1967, من ناحية, ورحيل عبد الناصر عام 1970, من ناحية أخرى, أوقفا هذا المد, إلا أن النظام الإقليمي العربي ظل متماسكا, على الصعيدين الرسمي والشعبي, حتى حرب أكتوبر 1973, والتي سعى السادات لتوظيف إنجازاتها في خدمة سياسة قطرية قصيرة النظر شكلت بداية لمرحلة أخرى مختلفة تماما. وقد شهدت هذه المرحلة اهتماما كبيرا بالأمن القومي العربي كما شهدت اهتماما مماثلا باللغة العربية وفنونها وآدابها في الوقت نفسه.  
 1- الأمن القومي العربي:    
ارتبط ظهور وتطور مفهوم "الأمن القومي العربي" في هذه المنطقة من العالم ارتباطا وثيقا بالنضال ضد الاستعمار الأوربي, من ناحية, وضد المشروع الصهيوني, من ناحية أخرى. وكانت فكرة "العروبة" قد ظهرت لأول مرة في أوساط الدارسين العرب في أوروبا في وقت تميز بانتشار الأفكار القومية ليس في أوربا وحدها وإنما في تركيا نفسها والتي كانت ما تزال حتى ذلك الوقت عاصمة للخلافة الإسلامية والعمود الفقري لإمبراطورية عثمانية شكلت الولايات الناطقة بالعربية جزءا لا يتجزأ منها. لذا كان من الطبيعي أن يؤدي ظهور وانتشار الأفكار القومية في تركيا إلى ظهور وانتشار الأفكار القومية في مناطق مختلفة من الإمبراطورية العثمانية, ومنها المنطقة العربية, كما كان من الطبيعي في سياق هذا الانتشار, خصوصا وأن أجزاء عديدة من العالم العربي كانت قد تعرضت من قبل للاحتلال الأوروبي, أن تبرز الفكرة القومية العربية وأن تتبلور حولها حركة سياسية تستهدف ليس فقط تحقيق استقلال العالم العربي عن الإمبراطورية العثمانية، وإنما أيضا تحقيق وحدة الشعوب العربية وبناء دولة العرب الموحدة والمستقلة. ولأن زعماء "الثورة العربية الأولى" ركزوا مطالبهم في البداية على الاستقلال عن الإمبراطورية العثمانية فقد اعتقدوا أن التحالف مع بريطانيا ضد تركيا في الحرب العالمية الأولى سيقربهم من تحقيق هذين الهدفين, غير أنهم وقعوا ضحية خديعة كبرى لم يتبينوا تفاصيلها إلا بعد أن أفرجت الثورة البلشفية عن جانب من الوثائق السرية لتلك الفترة, ومنها "اتفاقية سايكس-بيكو" التي تعاملت مع العالم العربي باعتباره تركة عثمانية يحق لكل من بريطانيا وفرنسا, الدولتان المنتصرتان في الحرب العالمية الأولى, إرثها وتقسيمه إلى مناطق نفوذ. كما اتضح للعرب في الوقت نفسه أن بريطانيا تخطط لإنشاء دولة يهودية في فلسطين كحاجز يفصل مشرق العالم العربي عن مغربه, بدليل قيامها بإصدار وعد بلفور عام 1917, وحتى لا تقوم للدولة العربية الموحدة التي يتطلعون إليها قائمة أبدا.
هكذا كتب على العرب أن يحاربوا على جبهتين: جبهة النضال ضد استعمار تقليدي راح يتغلغل في معظم أنحاء العالم العربي, وجبهة النضال ضد مشروع صهيوني استهدف ليس فقط بناء "وطن قومي" لليهود على أرض فلسطين التاريخية، وإنما أيضا إقامة إمبراطورية إسرائيلية على كل الأرض العربية الممتدة "من النيل إلى الفرات".
وإذا كان النضال العربي في مواجهة الاستعمار الأوروبي قد اعتمد في البداية على حركات سياسية وطنية استهدف كل منها تحقيق الاستقلال الوطني داخل حدوده القطرية, إلا أن ظهور الحركات الوطنية لم يضعف من حركة قومية عربية كانت قد ظهرت ورسخت من أقدامها كثيرا إبان الثورة العربية التي سعت للتحرر من الهيمنة العثمانية عقب اندلاع الحرب العالمية الأولى. فقد راحت هذه الحركة القومية تصحح من مسارها وتتحول من حركة نخبوية تقودها أسرة حاكمة إلى حركة شعبية تتبناها أحزاب سياسية جماهيرية وتروج لها تيارات فكرية فاعلة مثل حزب البعث وغيره من الأحزاب ذات التوجه العروبي أو الوحدوي. وحين لاحت أعاصير الحرب العالمية الثانية وخشيت من احتمال انحياز حكومات عربية إلى ألمانيا ودول المحور الأخرى في الحرب, سعت بريطانيا من جديد لاستقطاب التيار القومي وأعلنت عن استعدادها دعم أي صيغة وحدوية تتفق أو تجمع عليها الدول العربية, وهو ما أفضى في النهاية إلى قيام جامعة الدول العربية عام 1945, وبقيامها أصبح للدول العربية, ولأول مرة في تاريخها, إطار مؤسسي يجمعها ويهدف إلى تنظيم العلاقة بينها على أسس وقواعد متفق عليها سلفا. وعلى الرغم من أنه ولد ضعيفا وبدا وكأنه يكرس واقع التجزئة بأكثر مما يفتح آفاقا جديدة نحو الوحدة, إلا أن مجرد وجوده شكل أداة مهمة لتعبئة الجهد العربي المشترك في مواجهة التحديات الخارجية التي تواجهها الأمة العربية وفي مقدمتها التحدي الصهيوني, والذي كان مشروعه قد قطع خطوات كبيرة على طريق إقامة دولة لليهود في فلسطين.
لقطع الطريق على مشروع صهيوني رأت فيه تهديدا وتحديا لها جميعا, وليس للشعب الفلسطيني وحده, قررت الدول العربية خوص الحرب عام 1948, تحت راية الجامعة العربية, غير أنها منيت بهزيمة كبيرة. فقد استطاعت إسرائيل ليس فقط أن تحكم سيطرتها على المساحة المخصصة لليهود في قرار التقسيم الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1947, ولكن أن تحتل أيضا نصف المساحة المخصصة للعرب في القرار نفسه. ولمحاولة تدارك أوجه قصور عديدة كشفت عنها حرب دخلتها دون استعداد أو تنسيق ميداني كاف, سعت الدول العربية لإبرام معاهدة للدفاع المشترك والتعاون الاقتصادي تم التصديق عليها ودخلت نظريا حيز التنفيذ منذ عام 1950, لكنها للأسف لم تفعل أبدا وظلت في الواقع حبرا على ورق لسنوات طويلة.
كانت الهزيمة العربية في فلسطين عام 48 بمثابة زلزال ترتبت عليه آثار سياسية بعيدة المدى. فقد وقعت انقلابات عسكرية عديدة, بدأت بانقلاب حسني الزعيم في سوريا, وانفجرت ثورات عديدة, ربما كان أهمها ثورة يوليو المصرية التي قادها عبد الناصر. ولأن قائد الثورة المصرية تمتع بكل سمات القيادة الكاريزمية وكان يؤمن إيمانا عميقا في الوقت نفسه بأهمية تحقيق الوحدة العربية, فقد كان من الطبيعي أن يصبح هو رمز الفكرة القومية العربية وقائد حركتها السياسية. وفي هذا السياق بدأت تتبلور تدريجيا نظرية للأمن القومي العربي تقوم ركائزها على الأسس التالية:
 1- انتماء الشعوب العربية المتعددة إلى أمة عربية واحدة رغم واقع التجزئة الذي تعيشه.
 2- حق هذه الشعوب في الحصول على استقلالها وفي إقامة دولتها الموحدة وفقا لأي صيغة أو نظام سياسي تراه ملائما لتخطي واقع التجزئة المرير.
 3- حق الشعوب العربية الواقعة تحت الاحتلال في مقاومة الاستعمار بكل الوسائل المتاحة, وواجب الشعوب والحكومات العربية المستقلة تقديم كل الدعم والمساندة لها إلى أن تحصل على حريتها واستقلالها.
 4- رفض وجود قواعد عسكرية على أي أرض عربية.
5- رفض انضمام أي دولة عربية إلى أي أحلاف عسكرية, شرقية كانت أم غربية.
 6- تقوية نظام الأمن الجماعي في إطار جامعة الدول العربية, وذلك بتفعيل معاهدة الدفاع العربي المشترك.
 7- تشجيع ودعم قيام أي شكل من أشكال الوحدة أو الاندماج بين الأقطار العربية, شريطة المحافظة على الثوابت العربية وأن تكون خطوة على طريق الوحدة العربية الشاملة.
ولا جدال في أن قيادة مصر الناصرية منحت الحركة القومية العربية زخما مكنها من تحقيق إنجازات عدة, أهمها:
1- تقديم دعم كبير لحركات التحرر الوطني في كل أرجاء العالم العربي مكن العديد من الدول العربية من الحصول على استقلالها.
 2- تحقيق وحدة اندماجية بين دولتين عربيتين كبيرتين هما مصر وسوريا وإعلان قيام الجمهورية العربية المتحدة.
 3- محاولة التصدي للمحاولات الإسرائيلية الرامية لسرقة المياه العربية وتحويل مجرى نهر الأردن.
 4- دفع العمل العربي المشترك خطوات إلى الأمام بالدعوة إلى عقد مؤتمرات قمة عربية منتظمة جرت في سياقها محاولة جادة لتفعيل معاهدة الدفاع المشترك وإنشاء قيادة عربية موحدة والبدء في وضع خطط عسكرية لمواجهة التحديات الإسرائيلية.
غير أن هذه الإنجازات ما لبثت, للأسف, أن تبخرت تباعا. فقد انهارت الوحدة مع سوريا بعد حوالي ثلاث سنوات فقط, ونجحت القوى المعادية لعبد الناصر وللحركة القومية العربية في استدراج مصر إلى حرب بالوكالة مع السعودية بسبب استجابتها لمساعدة ثورة اليمن التي اندلعت في بداية الستينات, وفتح الباب واسعا لاستدراج مصر إلى حرب مع إسرائيل في ظروف غير مواتية مصريا وعربيا. ولأن إدارة أزمة 67 اتسمت بالارتجال, بعكس ما كان عليه الحال في أزمة 1956, فقد انتهت بهزيمة قاسية تمكنت إسرائيل على إثرها من إكمال احتلال ما تبقى من فلسطين بالإضافة إلى أجزاء من دول عربية أخرى ممثلة في سيناء المصرية وهضبة الجولان السورية.
كانت هزيمة 67 أكبر ضربة وجهت للحركة القومية العربية منذ نشأتها وتسببت بالتالي في إضعافها كثيرا, لكنها لم تؤد إلى انهيارها على الفور. فقد أعلن الشعب المصري, ومن ورائه شعوب عربية عديدة, رفضه للهزيمة, وطالب عبد الناصر بالعدول عن قراره بالتنحي, وهو ما انعكس إيجابيا على الجهود التي استهدفت إعادة بناء القوات المسلحة المصرية, وبإصرار منقطع النظير مكن مصر من بدء حرب استنزاف بعد أسابيع قليلة من الهزيمة ومهدت لتحرير الأرض المحتلة بالقوة وقادت في النهاية إلى حرب أكتوبر 1973, والتي تجلت فيها على أروع صورة ممكنة حقيقة "الأمن القومي العربي" على الصعيدين النظري والتطبيقي.
فقبل الحرب جرى تنسيق مصري سوري لكي يكون الهجوم العسكري ومتزامنا منسقا وفقا لخطة متفق عليها سلفا, وساهمت دول عربية عديدة بقوات على الجبهتين المصرية والسورية وصلت قبل الحرب وشاركت فيها بمجرد اندلاعها, وتم استخدام النفط كسلاح في المعركة..إلخ. ومع ذلك فقد تكشف فيما بعد عدم وجود خطط متفق عليها لإدارة سياسية موحدة لمرحلة ما بعد اندلاع الحرب, وتبين أن لدى الرئيس السادات رؤية لطريقة إدارة الصراع مع إسرائيل ولعلاقة مصر مع العالم العربي اختلفت إلى حد التناقض مع رؤية مصر الناصرية أو حتى مصر الليبرالية, اتضح أن حرب أكتوبر لم تكن بالنسبة للرئيس السادات سوى حرب "تحريك" وليست حرب "تحرير" تلتزم بالثوابت العربية وتحافظ عليها. وهكذا بدأت عقب الحرب مباشرة مرحلة جديدة في تاريخ المنطقة شهدت عملية انهيار تدريجي لمقومات الأمن القومي العربي وانتهى باندلاع ثورات عربية في مناطق مختلفة من العالم العربي.
 2- اللغة العربية
شهدت الثقافة العربية بشكل عام, واللغة العربية بشكل خاص, ازدهارا في مرحلة المد القومي العربي لم تعرفه منذ قرون. فبعد نجاحها في الحصول على استقلالها السياسي تباعا, بدأت الدول العربية تنخرط في محاولات جادة لتحقيق التنمية في جميع المجالات, وعلى الأخص في المجال الثقافي. بل إن هذه المرحلة شهدت إرهاصات "مشروع جديد للنهضة العربية", قادته مصر الناصرية, عكس نفسه إيجابيا على قضية اللغة العربية من زوايا وأبعاد عدة, أهمها:
أ- التعريب:
 لمصطلح التعريب في الثقافة العربية المعاصرة معان متعددة ومختلفة. فقد يقصد به:
 1- إعادة صياغة الأعمال والنصوص الأجنبية, بشيء من التصرّف في معناها ومبناها, بحيث تتوافق مع الثقافة العربية لتصبح عربية السمة.
 2- الترجمة إلى العربية، رغم أن البعض يرى أن هذا المعنى ليس دقيقا, لأن الترجمة ليست تعريبا ولا تتعدى نقل النصوص من لغة والتعبير عنها بلغة أخرى.
3- نقل المفردات الأجنبية كما هي, مع شيء من التعديل الشكلي في صورتها الخارجية بحيث تتماشى مع البناء العام والقواعد الصوتية والصرفية للغة العربية, وهو المعنى الأوسع انتشارا.
 4- التدريس والتأليف باللغة العربية في مختلف المراحل التعليمية من كليات ومعاهد ومدارس, وهو المعنى الأقرب إلى الموضوع الذي نحن بصدد معالجته في هذا البحث.
 من المعروف أن لغة المستعمر الأوروبي كانت قد هيمنت على الحالة الثقافية في العديد من الدول العربية طوال الحقبة الاستعمارية, التي طالت في بعض الأحيان لأكثر من قرن كامل, كما هو حال الجزائر وغيرها من بلدان المغرب العربي. واستطاعت اللغة الأجنبية المهيمنة أن تفرض نفسها على هذه الدول، وأن تصبح هي لغة التخاطب والتعليم والتأليف والمراسلات الرسمية, وبالتالي أن تهمش اللغة العربية وأن تطردها من مواقعها الطبيعية بل وكادت تمحوها من الأذهان تماما. ولو لم تكن اللغة العربية هي لغة القرآن في بلاد يدين معظم سكانها بالإسلام لاندثرت تماما. ساعد على صمودها عوامل عديدة, منها:
1- حرص معظم الأسر العربية على أن يتلقى أبناؤها قسطا من التعليم الديني وحفظ القرآن.
2- إصرار أئمة المساجد على إلقاء خطبة الجمعة باللغة العربية.
 3- وجود عدد من الجامعات القديمة المهتمة بعلوم القرآن والفقه والشريعة وغيرها, مثل جامعة الأزهر في مصر وجامعة القرويين في المغرب,..إلخ.
ولأن اللغة الأجنبية المهيمنة على الحياة الثقافية في العديد من البلدان العربية كانت قد أدت إلى إصابة الشخصية الوطنية بتشوهات كبيرة, فقد كان من الطبيعي أن يركز الحكم الوطني في مرحلة ما بعد الاستقلال الوطني على تصحيح ما أحدثته تلك الهيمنة من تشوهات ومحاولة إعادة التوازن المفقود إلى الحياة الثقافية, خاصة من خلال تعريب التعليم. وقد بذلت جهود مضنية لتعريب العلوم والتعليم خلال فترة الاستقلال, لكنها لم تكلل دائما بالنجاح بسبب تجذر الموروث الاستعماري, من ناحية, وبسبب تخلف علمي وتكنولوجي حرم اللغة العربية من فرصة مواكبة علوم العصر, من ناحية أخرى.
ب- التعليم:
 اقتصر التعليم طوال الحقبة الاستعمارية على شرائح وطبقات اجتماعية معينة وحرمت منه النسبة الأكبر من المواطنين في معظم البلاد العربية. لذا لم يكن غريبا أن تصل نسبة الأمية في بعض البلدان العربية إلى ما يقرب من 70% في بداية مرحلة الاستقلال. وفي سياق كهذا كان من الطبيعي أن يحظى التعليم, خاصة التعليم قبل الجامعي, باهتمام كبير من جانب جميع الحكومات العربية في مرحلة ما بعد الاستقلال, وما هي إلا سنوات قليلة حتى تضاعف عدد المدارس ومعه أعداد الطلاب بطبيعة الحال. ثم حدثت قفزة نوعية أخرى عندما امتدت مجانية التعليم في بعض البلدان العربية إلى مرحلة التعليم الجامعي, فتضاعفت أعداد العلماء العرب وكذلك أعداد الفنيين والمتخصصين في كل المجالات, كما زادت أعداد بعثات الطلاب الموفدين للحصول على درجات الماجستير والدكتوراه في الخارج زيادة كبيرة, مما بشر في البداية بنهضة علمية كبري. ولأن هذا النشاط تواكب, من ناحية, مع اهتمام خاص باللغة العربية, باعتبارها أحد أهم أدوات بناء الشخصية الوطنية المستقلة, كما تواكب, من ناحية أخرى, مع خطاب قومي عربي مطالب بالوحدة ورافض لكل صور الهيمنة الأجنبية, فقد كان من الطبيعي أن يساعد على دعم الأمن القومي على الصعيدين النظري والعملي.
ج- الترجمة:
 اهتمت السلطة الوطنية في العالم العربي, إلى جانب اهتمامها بالتعريب وبتطوير التعليم وتحديثه, بالترجمة باعتبارها أحد أهم وسائل متابعة ما يجري في العالم المتقدم في جميع المجالات, خاصة في العلوم والفنون والآداب. وإذا كان الاستقلال الوطني, وهو الهدف الأسمى لحركات التحرر الوطني وللحركة القومية العربية على السواء, قد جسد إرادة الشعوب في قطع كل صلة لها مع كافة صور الاحتلال والهيمنة الأجنبية ومع الاستغلال وامتصاص مقدرات الشعوب, إلا أنه جسد في الوقت نفسه إرادة الرغبة في التواصل مع كل ما من شأنه المساعدة على تحقيق التقدم في كافة المجالات. لذا كان هناك حرص شديد في العالم العربي على أن تبقى صلاته حية مع مراكز البحث العلمي والإبداع الفني والأدبي في كل دول العالم, وليس فقط في الدول الاستعمارية القديمة, ونقل أفضل ما تنتجه هذه المراكز إلى اللغة العربية. وقد ساعد ذلك على تحقيق هدفين رئيسيين. الأول: تطوير اللغة العربية وتمكينها من مواكبة وتطويع المصطلحات الجديدة في كل المجالات, والثاني: تمكين القارئ العربي من متابعة التطورات التي تحدث في كل بقاع العالم, كل في مجالات اهتمامه.
ثانيا: مرحلة التراجع والانحسار:
وتمتد هذه المرحلة منذ انطلاق عملية التسوية السياسية مع إسرائيل, عقب حرب أكتوبر 1973, وحتى مقدم "الربيع العربي", والذي لاحت تباشيره عقب اندلاع الثورة التونسية في نهاية عام 2010. وقد شهدت هذه المرحلة تراجعا لفكرة القومية العربية, ببعديها الأمني والثقافي, وأصبحت على شفا الانهيار تماما بعد أن سعت كل دولة عربية على حدة لحل ما تواجهه من مشكلات بشكل منفرد، ووفقا لمنطق قطري بحت لا يأخذ في اعتباره حقيقة انتماء الشعوب العربية إلى أمة واحدة لها تاريخ مشترك ويربطها مصير واحد. وقد أسهمت عوامل عديدة في وصول العالم العربي إلى هذه الحالة, أهمها:
1- خروج مصر عمليا من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي عقب إبرامها معاهدة سلام منفردة.
2- عجز أي من الدول العربية, منفردة أو بالتحالف مع دول عربية أخرى, عن ملء فراغ القيادة الذي تركته مصر عقب انكفائها على نفسها.
3- حدوث خلل جوهري في موازين القوة التي تحكم عمل النظام الدولي عقب تفكك المعسكر الاشتراكي وانهيار الاتحاد السوفيتي.
4- تسارع معدلات العولمة في ظل انفراد الولايات المتحدة والرأسمالية العالمية بقيادة النظام الدولي على الصعيدين الأيديولوجي والعملي.
5- تفشي الفساد والاستبداد في العالم العربي خلال تلك الفترة.
وكان لهذه العوامل المتداخلة انعكاسات بالغة السلبية على الأمن القومي العربي, من ناحية, وعلى اللغة العربية, من ناحية أخرى.
1-    الأمن القومي العربي:
بخروج مصر من معادلة الصراع العربي الإسرائيلي, عقب توقيعها على معاهدة سلام منفصلة مع إسرائيل, تراجع وضع القضية الفلسطينية في النظام العربي، ولم تعد هناك قضية قومية جامعة تستدعي عملا مشتركا, كما تراجع البعد "القومي" في الصراع مع إسرائيل و بدأت كل دولة عربية على حدة تنظر إلى هذا الصراع من منظور إدراكها لتأثيره على مصالحها "الوطنية" أو "القطرية" الضيقة وتديره كل حكومة بالطريقة التي تتناسب مع رؤيتها الخاصة لهذه المصالح. وهكذا تحول الصراع "العربي-الإسرائيلي" إلى صراع "فلسطيني_إسرائيلي" و"أردني-إسرائيلي" و"سوري-إسرائيلي"..إلخ.
كانت الدول العربية قد حاولت إقامة "جبهة للصمود والتصدي", سعى صدام حسين لقيادتها, لملء الفراغ الناجم عن خروج مصر من معادلة الصراع مع إسرائيل. وسارعت الجبهة باتخاذ إجراءات غلب عليها الطابع "الانفعالي", شملت قطع العلاقات الرسمية مع مصر وتجميد عضويتها في جامعة الدول العربية ونقل مقر الجامعة من القاهرة إلى تونس..إلخ. لكن هذه الجبهة لم تصمد طويلا وما لبثت أن انهارت عند أول اختبار عقب اندلاع الثورة الإسلامية في إيران عام 1979. فقد تمكنت الولايات المتحدة وإسرائيل من استدراج العراق إلى حرب طويلة مع إيران, وبينما انحازت دول مجلس التعاون الخليجي إلى العراق اصطفت سوريا إلى جانب إيران وأصبحت أهم حليف لها في المنطقة. وبعد انتهاء الحرب وبداية ظهور شواهد على قرب تفكك المعسكر الاشتراكي وانهيار الاتحاد السوفييتي, تم استدراج العراق مرة أخرى, ولكن لغزو الكويت هذه المرة, فتشكل تحالف دولي ضدها بقيادة الولايات المتحدة شاركت فيه معظم الدول العربية بما فيها سوريا!. وتصورت الدول العربية أن هذا التحالف يتيح لها فرصة جديدة للتوصل إلى تسوية متوازنة للصراع العربي الإسرائيلي من خلال المؤتمر الذي دعت إلى انعقاده في مدريد, لكنها ما لبثت أن اكتشفت أنها خدعت من جديد, حيث لم ينجح مؤتمر مدريد سوى في تأكيد نهج التسويات المنفردة الذي جربه السادات من قبل.
وفي غياب استراتيجية عربية بديلة للنهج الساداتي لم يكن غريبا أن تشرع دول عربية أخرى, ولكن بعد فترة ممانعة طالت لحوالي عقد من الزمان وانتهت بكارثة عربية جديدة, في الدخول في تسويات منفردة جديدة مع إسرائيل: فأبرمت منظمة التحرير الفلسطينية اتفاقية أوسلو عام 1993, وأبرمت الأردن اتفاق وادي عربة عام 1994, وكادت سوريا أن تبرم بدورها اتفاقا مع إسرائيل, لاحت بوادره في جنيف قبل رحيل حافظ الأسد, لكن التعنت الإسرائيلي حال دون إتمامه في اللحظة الأخيرة. وعلى الرغم من أن عدم توقيع سوريا عرقل مسار التسوية لبعض الوقت, إلا أن إسرائيل واصلت محاولات اختراقها للدول العربية وتمكنت من فتح مكاتب تمثيل ومكاتب تجارية وقنوات اتصال دبلوماسية مع العديد من الدول العربية, شملت تونس وقطر وسلطنة عمان وغيرها.
 لقد أفضى هذا الفصل المأساوي من التاريخ العربي, الذي شهد قرارين عربيين عشوائيين, هما قرار السادات زيارة القدس وقرار صدام غزو الكويت, إلى كوارث عربية يصعب قياس آثارها. فقد دخل العالم العربي في تيه عملية سياسية لم يحصد منها سوى السراب, وتم تدمير العراق ثم احتلاله, وانفتح باب العالم العربي على مصراعيه لانقسامات طائفية ومذهبية أصبح النظام العراقي نموذجا ثانيا لها بعد لبنان, وزحفت القواعد العسكرية الأمريكية داخل العديد من الدول العربية, وفاقم تسارع معدلات العولمة بشكل غير مسبوق عقب سقوط الاتحاد السوفييتي من تبعية العالم العربي الذي تحول إلى ساحة مستباحة للنفوذ الغربي. وهكذا حوصرت الشعوب العربية بين مطرقة الأطماع الخارجية وسندان الاستبداد الداخلي, بل وبدا الأمر وكأن هناك توزيع مخطط للنفوذ والمصالح بين القوى المهيمنة على العالم العربي من داخله والقوى المهيمنة عليه من خارجه, أطلقت بموجبه يد الحكام العرب في ممارسة الفساد والاستبداد ضد شعوبها في الداخل, مقابل الالتزام بالمحافظة على مصالح إسرائيل والولايات المتحدة في المنطقة.  
نخلص مما تقدم إلى أن مرحلة الانحسار القومي شهدت:
 1- تراجع موقع القضية الفلسطينية على جدول أعمال النظام العربي وتحولها من قضية جامعة إلى قضية تقبل المعالجات الجزئية والتسويات المنفردة مع دول الجوار العربي.
 2- تغير إدراك الدول العربية لمصادر تهديد أمنها الوطني بعد الغزو العراقي للكويت, فلم يعد الخطر الإسرائيلي هو مصدر التهديد الرئيسي للأمن الوطني لكل الدول العربية التي أصبح بعضها يرى أن الخطر يمكن أن يأتي من داخل النظام العربي نفسه وليس من خارجه.
 3- تراجع مكانة الجامعة الدول العربية وتحولها إلى إطار مؤسسي شكلي لنظام إقليمي فارغ من أي مضمون قومي 4- تجميد فعلي لمعاهدة الدفاع العربي المشترك وإصابة آليات حماية الأمن القومي العربي بما يشبه الشلل التام.
كان من الطبيعي, في سياق كهذا, أن تتراجع فكرة العروبة بل وأن تنهار آليات الأمن القومي من الأساس أيضا, مما شكل خطرا جسيما على الهوية العربية نفسها.
2 – اللغة العربية:
سادت خلال العقود الطويلة التي سبقت مقدم "الربيع العربي" حالة من التدهور المستمر في أداء النظم العربية في مختلف المجالات السياسية والأمنية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية, بسبب: أ- استبداد هذه النظم وعدم قابليتها للتحول الديمقراطي ب- تفشي الفساد والمحسوبية في المجتمعات العربية, خاصة في الأوساط الرسمية وعلى أعلى المستويات. ج- غياب المشروع الوطني أو القومي الجامع وضعف مشاعر الانتماء لدى النخبة الحاكمة.      د- إعلاء قيمة كل ما هو أجنبي أو مستورد, على حساب كل ما هو وطني أو محلي, والاستسلام لمظاهر التبعية وتغلغل النفوذ الأجنبي في أحشاء المجتمع.
 وقد انعكست هذه المظاهر سلبا على مختلف القطاعات في كافة أنحاء العالم العربي, خاصة على القطاعات ذات الصلة والتأثير المباشر على وضع اللغة العربية, الذي تدهور بشكل كبير خلال هذه المرحلة لأسباب عديدة, بعضها يعود إلى السياسات التعليمية, وبعضها الآخر يعود إلى السياسات الإعلامية, وبعضها الثالث يعود إلى السياسات الثقافية, وبعضها الرابع يعود إلى الأوضاع الاجتماعية ونظام القيم السائد.
فعلى صعيد السياسات التعليمية, أمكن رصد عدد من الظواهر اللافتة للنظر, منها:
1- تدهور واضح في مستويات التعليم بصفة عامة, انعكس بدرجة ملموسة على تدريس اللغة العربية في مراحل التعليم المختلفة حيث نالت قسطا أقل من الاهتمام, خاصة في مرحلة التعليم الأولى أو الأساسية, وبالتالي تدنت درجة إتقان اللغة العربية في أوساط عديدة.
2- زيادة ملموسة في درجة الاهتمام بتدريس اللغات الأجنبية, جاء كالعادة على حساب اللغة العربية في كافة المراحل, بما في ذلك المراحل الجامعية, مما أدى إلى المزيد من تدهور مكانة اللغة العربية.
3- تراجع في سياسة التعريب في دول عربية كانت قد قطعت شوطا كبيرا في هذا الاتجاه, خاصة في دول المغرب العربي, وبداية ظهور حركة في الاتجاه المعاكس داخل العديد من الدول العربية تسعى إلى عودة التدريس باللغة الإنجليزية أو الفرنسية, بدلا من اللغة العربية, ليس فقط في فروع العلوم البحتة, كالطب والهندسة والعلوم والرياضيات وغيرها, ولكن أيضا في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية.
4- توسع هائل في إنشاء المدارس الأجنبية المشتملة على جميع مراحل التعليم قبل الجامعي, وهي مدارس يتم التدريس فيها بكل لغات العالم تقريبا, ولا مجال فيها لتعلم اللغة العربية إلا بطريقة عارضة ومحدودة جدا, بالتوازي مع توسع هائل في إنشاء فروع للجامعات الأجنبية تديرها كوادر وخبرات أجنبية وليست وطنية.
وعلى صعيد السياسات الإعلامية, لوحظ:
1- تدهور حاد في مستويات الإعلاميين من حيث قدرتهم على إتقان اللغة العربية حديثا وتحريرا.
2- توسع كبير في استخدام اللغات واللهجات المحلية على حساب اللغة العربية الفصحى, خاصة في البرامج الحوارية.
3- تمدد في المساحة الزمنية المتاحة للمواد الإعلامية المنتجة بلغات أجنبية, على حساب المساحة الزمنية المتاحة للمواد الإعلامية المنتجة باللغة العربية.
4- عدم اهتمام وسائل الإعلام المختلفة, المسموعة والمرئية والمقروءة, بالترويج لقيم الانتماء والفخر بالثقافة وبالهوية الوطنية
5- التوظيف المتزايد لكلمات ومصطلحات أجنبية في البرامج الإعلامية المختلفة.
وعلى صعيد السياسات الثقافية, لوحظ:
1- تبني سياسات ثقافية نخبوية تخاطب شرائح محدودة في المجتمع وتعمل على إشباع احتياجات غالبا ما تكون بعيدة عن اهتمامات الغالبية العظمى من المواطنين.
2- تراخ كبير في حركة الترجمة إلى اللغات العربية في السنوات الأخيرة, وسيادة قيم الكم على حساب الكيف.
3- سيطرة اللهجات الدارجة والمحلية على معظم الإنتاج المسرحي والمسلسلات الدرامية وتراخي الاهتمام بروائع المسرح العالمي سواء على صعيد الترجمة أو على صعيد الإنتاج المسرحي.
4- عدم وصول قوافل الثقافة والتنوير إلى مناطق التكدس السكاني في المدن أو المناطق الريفية والنائية وتركيزها على المناطق الحضرية والأحياء الراقية.
5- تراجع التيارات التنويرية والتجديدية والإبداعية في الثقافة أمام زحف وسيطرة التيارات المحافظة في الثقافة والفكر.
في سياق كهذا, كان من الطبيعي أن يطغى مناخ عام يروج للقيم السلبية, ويحرض على استخدام لغة دارجة وسلوك هابط على حساب القيم النبيلة ووسائل التعامل الراقية, وأن يجري إطلاق الأسماء الأجنبية بكثافة, وبلا أي مبرر, على المنشآت والمؤسسات وحتى على واجهة المحلات في الشوارع والميادين..إلخ. كما كان من الطبيعي, في ظل أجواء كهذه, أن يسود شعور بعدم الرضا وبالرغبة في التغيير, وأن يؤدي تراكم هذا الشعور لفترات طويلة لدى غالبية المواطنين البلدان العربية إلى حالة من الغضب والثورة.
 واندلعت الشرارة بالفعل من تونس.
ثالثا: آفاق الربيع العربي:
رغم الاختلاف الكبير في الأوضاع الداخلية للدول العربية على كافة الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية, إلا أنها تتشابه في أمور كثيرة وخاصة في مسألتين رئيسيتين: استبداد النظم الحاكمة, من ناحية, وفسادها, من ناحية أخرى. وفيما يتعلق بمظاهر الاستبداد فهي كثيرة, ربما كان أهمها: هيمنة شخص واحد على النظام السياسي لفترات طويلة, بلغت 42 عاما بالنسبة للقذافي في ليبيا وأقل قليلا منه بالنسبة لعلى عبد الله صالح في اليمن ومبارك في مصر, وغياب أي أفق لتداول السلطة أو لتعددية حزبية حقيقية أو لمجتمع مدني قوي..إلخ, بل ونزوع الكثيرين منهم إلى "توريث السلطة" لأحد أبنائه أو أقاربه. أما فيما يتعلق بمظاهر الفساد فحدث ولا حرج. فقد تعاملت الغالبية الساحقة من الأنظمة العربية الحاكمة مع مقدرات وثروات شعوبها وكأنها ملكية خاصة تستطيع أن تغرف منها ما تشاء وأن تمنح منها ما تشاء لمن تشاء أو تمنعها عمن تشاء. وقد أدى شيوع هذا الفساد والاستبداد إلى ضحالة ما حققته هذه الأنظمة من إنجازات سواء على صعيد السياسة الخارجية أو على صعيد السياسة الداخلية. فعلى صعيد السياسة الخارجية فقد أدت سياسات هذه الأنظمة إما إلى ارتكاب جرائم وحماقات مهدت للتدخل الأجنبي وساعدت على استدعائه، وإما إلى الخنوع الكامل والتبعية المطلقة للإملاءات الأمريكية والإسرائيلية. وعلى الصعيد الداخلي لم تنجز هذه النظم سوى الظلم الاجتماعي والتخلف والفقر وتدني مستويات المعيشة والخدمات وسطوة أجهزة أمنية أهدرت حرية الإنسان وكرامته وأذاقته صنوفا من العذاب. لذا لم يكن غريبا حين اندلعت شرارة الثورة في تونس أن تنتقل بسرعة إلى مصر ومنها إلى معظم الدول العربية. ومن الجدير بالملاحظة هنا أن هذه الموجة الثورية هي ظاهرة عربية بامتياز وليست إقليمية, وهو أمر بالغ الدلالة في حد ذاته ويؤكد أن ما يجري في عالمنا العربي اليوم يجسد أحد الأبعاد القومية التي كنا نعتقد أنها اختفت أو تلاشت.
لم يعد هناك مجال للشك في أن قطار الثورات العربية الكبرى الذي انطلق منذ شهور, ونجح حتى الآن في الإطاحة بكل من زين العابدين بن علي وحسني مبارك ومعمر القذافي, ما زال يملك من قوة الدفع ما يمكنه من قطع مسافات جديدة نحو الإطاحة بما تبقى من أنظمة الفساد والاستبداد. لكن السؤال: هل سيتمكن هذا القطار من الوصول إلى محطته النهائية التي تتيح للشعوب العربية تأسيس نظم ديمقراطية حديثة ومستقرة تمكنها من الانطلاق نحو التنمية والتقدم؟.
 تتطلب الإجابة عن هذا السؤال إدراك مجموعة من الحقائق الأساسية أهمها:
 1- أن العالم العربي بات يشكل كتلة استراتيجية واحدة مترابطة الأطراف لا تسمح بقيام جزر معزولة فيها, فإما أن تنجح الديمقراطية في تثبيت أقدامها في جميع البلدان العربية وإما أن تفشل فيها جميعا.
 2- أن مستقبل "الربيع العربي" بات يتوقف على مدى نجاح مصر في إقامة وتثبيت الدعائم الأساسية لنظام حكم ديمقراطي قوي.
3- أن الطريق أمام قطار "الربيع العربي" ما زال طويلا ومحفوفا بالمخاطر والتحديات قبل أن يتمكن من الوصول إلى محطته النهائية, مما يفرض على الشعوب العربية التحلي باليقظة.
ولكي تتضح أمامنا طبيعة المخاطر والتحديات التي نتحدث عنها, علينا أن نطرح على أنفسنا سؤالين آخرين: هل سيصل قطار الربيع العربي إلى دول الخليج, خاصة السعودية؟ وهل ستتمكن الدول التي أسقطت أنظمتها القديمة, أو في طريقها لإسقاط هذه الأنظمة, من بناء أنظمة ديمقراطية حقيقية بديلة حتى لو لم يصل الربيع إلى دول الخليج العربي, خاصة السعودية؟
يعتقد البعض أن وصول الربيع العربي إلى منطقة الخليج ما زال أمرا مستعصيا, غير أنني لا أتفق مع وجهة النظر هذه, لأن معدلات وسرعة ما يطرأ الآن من تغيير على المجتمعات الخليجية تبدو كبيرة جدا. ولأن النظم السياسية والاجتماعية السائدة فيها لا تحتوي على ما يكفي من القنوات والآليات لضبط وتنظيم إيقاع التفاعلات في الاتجاهين وتحقيق التأقلم والانسجام المطلوبين بين بنيتها التحية والفوقية, لا يخالجني أي شك في أن هذه المجتمعات تعيش فوق بركان لا بد وأن ينفجر يوما ما, خصوصا وأن أبناء الطبقات المتوسطة الذين يتلقون تعليما عاليا حديثا في الدول الغربية, أو حتى في أوطانهم نفسها, يتزايد بسرعة كبيرة جدا. كما لا يخالجني أي شك في أن الأنظمة الحاكمة في دول الخليج, خاصة في السعودية, تسعى بكل ما أوتيت من قوة لحماية نفسها ومنع تفجر الثورات داخلها, وذلك بالعمل على إجهاض الثورات التي نجحت في إسقاط أنظمة الحكم في دول عربية أخرى ومنعها من تأسيس نظم ديمقراطية قوية وفاعلة, خاصة في مصر. وتملك دول الخليج وسائل عدة للتدخل: المال, والأيديولوجية الوهابية, ورصيدا متراكما من نفوذ سياسي واجتماعي داخل أوساط بعينها. ومن الواضح أن جهدها في هذا الصدد يصب في نفس المجرى الذي تصب فيه جهود قوى دولية, في مقدمتها إسرائيل والولايات المتحدة, وقوى محلية, تمثلها شبكة المصالح المرتبطة بالنظم القديمة التي سقطت رؤوسها, وهي قوى تعمل في ذات الاتجاه ولا تريد لقطار الربيع العربي أن يصل إلى محطته النهائية.
في سياق كهذا, يبدو المستقبل العربي مرشحا للتطور وفق سيناريوهات ثلاثة, تتراوح بين الأفضل والأسوأ والأقل سوءا, وذلك على النحو التالي:
أولا: السيناريو الأفضل: هو السيناريو الديمقراطي, حيث يواصل قطار "الربيع العربي" مسيرته المظفرة إلى أن تتحقق الديمقراطية في كل الدول العربية أو في معظمها. ولأن هذه الدول ستحكمها حينئذ مؤسسات فاعلة, بدلا من أن تتحكم فيها أهواء شخصية, فمن المتوقع أن تتمكن من العثور مستقبلا على صيغة تسمح لها بالتنسيق السياسي وبالتكامل الاقتصادي بما يمكنها من تحقيق انطلاقة تنموية كبرى تصب في صالح كل دولة على حدة وفي صالح الأمن القومي العربي في الوقت نفسه. و قد يصبح هذا السيناريو هو السيناريو الأرجح في حالة واحدة فقط وهو نجاح مصر في تأسيس نظام ديمقراطي يوظف ثقلها الإقليمي وقوتها الناعمة في دفع آليات التحول الديمقراطي في كل أنحاء الوطن العربي.
ثانيا: السيناريو الأسوأ: هو سيناريو التفتيت. حيث تصبح الثورات العربية, وفقا لهذا السيناريو, مرشحة للدخول في فوضى شاملة يعلو فيها صوت المطالب الفئوية وتغلب المصالح الطائفية والقبلية على المصالح الوطنية والقومية في غياب قوى قادرة على المحافظة على تماسك النسيج الاجتماعي, وهو ما قد يفتح الباب أمام تفتت عدد كبير من الدول العربية الكبرى إلى دويلات صغيرة تقوم على أسس مذهبية وطائفية. وهذا هو السيناريو الذي تسعى إليه إسرائيل بكل ما أوتيت من قوة, وتحرص على أن يصبح هو سيناريو المستقبل. وهو ليس بالمستبعد, خصوصا إذا سقط النظامين السوري واليمني وعجزت القوى الإقليمية عن مساعدة قوى الداخل لإجراء مصالحات تمكنها من إقامة نظم بديلة قوية تحافظ على تماسك النسيج الاجتماعي وعلى وحدة التراب الوطني.
ثالثا: السيناريو الأقل سوءا: هو سيناريو الديمقراطيات الناقصة أو غير المكتملة. وسوف يتحقق هذا السيناريو إذا نجحت القوى الكبرى المتحكمة في النظام الدولي, خاصة الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي, في العثور على نظم بديلة للنظم المنهارة, خاصة في مصر, تلتزم بالمحافظة على مصالح الغرب الاستراتيجية في هذه المنطقة الحساسة من العالم وبعدم إحداث تغيير جوهري في سياساتها الخارجية على نحو يمس بأمن إسرائيل, مقابل حصولها على مزايا تشبع مطالب الفئات الاجتماعية التي تمثلها.
من بين الدول العربية التي نجحت في الإطاحة بالنظم القديمة تبدو تونس وحدها مرشحة لوصول قطار "الربيع العربي" إلى محطته النهائية. ولأنها محدودة التأثير نسبيا, فلن يكون لها تأثير حاسم على صنع المستقبل العربي. وإلى أن يحدث تغير جوهري في طريقة إدارة ما تبقى من المرحلة الانتقالية في مصر, سيظل مستقبل النظام العربي محكوما بالسيناريو الأسوأ, أو الأقل سوءا, إذا حالفنا الحظ.


مجمع اللغة العربية الأرني