|

الترجمة.. عصب التواصل الحضاري
أ.أمنية عادل
اللغة هي العنصر الفاعل الذي يحدد نمط ثقافة أي دولة وهويتها، وما إبداعاتها ومنجزاتها الثقافية والفكرية إلا طاقات خلاقة متجسدة في موروث الماضي ودراسة الحاضر واستشراف المستقبل، وتظل اللغة رابطاً أساسياً يجمع الثقافة والحضارة في مكونات أي مجتمع.
ولكي تتواصل الحضارات وتتقارع اللغات لا بد من أن تتم ترجمة المحتوى من وإلى هذه اللغة أو تلك، ومن ثم تجسد الترجمة عصب الحياة الذي تستمد الحضارات منه كينونتها وبقائها وعطائها وتأثيرها، لدرجة أنه يمكن القول، إن الترجمة غيرت وجه العالم من جزر منفصلة منعزلة إلى شبكات متداخلة.
تناقل المعارف
«الترجمة هي صيغة وصل بين البشر على وجه الأرض، وتمثل تناقل العلوم والفنون بين البشر أيضًا»، بهذه الكلمات بدأ شيخ المترجمين العرب د.محمد عناني، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، حديثه، موضحًا أن رواية «حي بن يقظان»، التي كتبها ابن طفيل، جسدت أول تصور لحياة الإنسان وسط الغابات وتجرده من كل معالم الحضارة.
والعودة للبدائية للوصول للصوفية المطلقة، وتم ترجمتها للغات أجنبية خلال عهد النهضة الإيطالية، كذلك كتب البيروني الرحالة والفيلسوف والرياضي، الذي حسب محيط الأرض، تم الاستعانة بمؤلفاته لفهم فيزياء الأرض.
وذلك في أغلب دول العلم المتقدم الآن، وأيضًا لا ننسى جابر بن حيان، أو كما هو معروف في حقل العلماء بـ«أبو الكيمياء»، هذا العربي الذي قدم نظريات في علم الكيمياء لا تحصى، وأثرت فكر العلماء ووسعت من دائرة الاختراع والاكتشاف في الكون الفسيح، كل هؤلاء وغيرهم من الكتاب والفلاسفة والمفكرين والعلماء، الذين كانت لهم إسهامات في العلم والأدب، تم نقلها للعالم بعد ذلك؛ لتكون ميراثًا إنسانيًا متجانسًا.
مبادرات رائدة
وأشار إلى الدور الريادي لمصر في الترجمة، موضحًا أن المركز القومي المصري للترجمة تبنى مشروعاً رائداً، نرجو أن يتوسع في المستقبل حتى تتضمن الترجمة من العربية إلى اللغات الأجنبية، كما كان الحال، وكما هو الحال عليه الآن في هيئة الكتاب سواء في مشروع ترجمة الأدب العربي إلى الانجليزية.
أو في نشاط تصدير الفكر العربي، أما في الهيئة المصرية للكتاب فإن مشروع الألف كتاب الثاني لا يزال مستمراً وإن كان مقصوراً على الكتب العلمية وتاريخ مصر وفنون السينما وهذا المشروع يعتبر استكمالاً لمشروع المجلس الأعلى للثقافة قبل إنشاء المركز القومي للترجمة، لأن اتجاهات الكتب في المشروع الأول كان متعدد التخصصات، ويحتاج إلى ما يستكمله في العلوم وتاريخ المصريين.
أيضًا هناك منافسة شديدة مع أكثر من جهة عربية لديها مشروعات ناجحة للترجمة مثل مركز الترجمة العربي في بيروت ومشروع «كلمة» للترجمة في الإمارات، وغيرها من دول المغرب العربي، لذلك فإن حركة الترجمة في العالم العربي بصفة عامة، وفي مصر بصفة تتجه نحو الازدهار.
أساس الحضارات
أما د.يوسف نوفل، الذي يُعد أحد أعلام النقد العربي الأدبي الحديث، فيرى أن الترجمة مهمة جدًا في كل العصور، وقد أثبت تعاقب الحضارات أنه ما من حضارة قامت وأسهمت وأثرت في غيرها إلا من خلال الترجمة، ويُمثل على كلامه بالحضارة العربية، التي كانت خير ناقل للثقافة والحضارة الإغريقية، التي تهدد تراثها كثيرًا بفعل الزمن، ولكن بفضل نمو حركة الترجمة في الوقت العربي، لاسيما مع العصر العباسي.
وتابع: ظل الأمر على هذا الوضع حتى استلمت الراية الحضارة الغربية، ونمت حركة الترجمة خلال عصور النهضة التي عقبت عصور الظلام، التي سادت أوروبا، حيث تم ترجمة كل ما حوته الكتب العربية للغة اللاتينية، ومنه للغات الأجنبية المختلفة، وانتشر علم العرب المطور من العلم الإغريقي، وهو ما أسهم بدوره في نهضة الجامعات الأوروبية، وهو ما يُثبت أن الترجمة هي أساس الحضارات وتناقل المعرفة والعلم والثقافة.
خيانة النص
وحول قضية خيانة المترجم للنص الأصلي قال نوفل: «يعتبر إلى حد ما هذا الكلام صحيح، حيث إن الخيانة تنبع من الابتعاد عن روح وجوهر النص، فمن الأمانة أن ينقل المترجم أصل الكتاب وروحه للقارئ أيًا كانت اللغة التي يقرأ بها، فلكل لغة جمالياتها الخاصة، التي تحول القارئ لفهم معين، وهذا هو السبب الأول في وصول الرسالة كاملة في اللغة الواحدة، حيث معرفة أبعاد اللغة وحضورها في المجتمع».
وفي السياق ذاته أشار نوفل إلى أن الترجمة لا تعد خيانة في ذاتها، حيث إن المترجم حينما يتمتع بمعرفة ومقدرة على النقل من لغة إلى أخرى، وتمكنه من ملكات اللغتين والأساليب المناسبة يجعل أحياناً الترجمة أقيم من الكتاب الأصلي.
لكن وبحسب تعبيره، لا بد من اهتمام الدولة بالمترجمين ودعمهم ماديًا ومعنويًا، حتى تنمو حركة الترجمة في المجالات كافة، ليتفرغ المترجمون لهذه المهمة الشاقة والممتعة في آن.
مهمة جليلة
من جانبه، أوضح الكاتب والناقد المسرحي والعميد الأسبق للمعهد العالي للفنون المسرحية في مصر د.أحمد سخسوخ، أن الترجمة «فن» قائم على أساس علمي، يمكن أن تنقل عملاً من مستوى إلى مستوى آخر، لذا يجب على من يتصدى لهذه المهمة الجليلة أن يكون على علم بخفايا اللغتين، التي يترجم منها والأخرى التي يترجم إليها.
وأن يكون على قدرٍ عالٍ من الاطلاع والخبرة في المجال الذي يترجم له، حتى لا يشعر القارئ بالفجوة في مضمون الكتاب المنقول، ومنه أشار إلى ضرورة الالتفات إلى الشعرية في اللغة والأيدولوجيا التي يقوم عليها الكتاب الأصلي، وذلك لفهم المحتوى وتسهيل عملية الترجمة.
ولفت سخسوخ، إلى أهمية الترجمة أو دوافعها، مشيرًا إلى أنه أحيانًا ما تعاني ثقافة ما من فقر أو قلة في الإنتاج التأليفي باللغة نفسها، لهذا يتم التوجه للترجمة كبديل، مثلاً كما هو الحالي في النقد، حيث يتم التوجه لترجمة الحركة النقدية في بلاد مثل فرنسا، التي تتمتع بنمو وازدهار كبير في حركة النقد، مشيرًا إلى أن الترجمة أيضًا تكون لمواكبة التطورات الحاصلة في العالم، وهو شيء إيجابي.
جسر تواصل
من جانبها، أشارت الكاتبة سكينة فؤاد، إلى أهمية دعم الدولة لحركة الترجمة، والتي تساهم بدورها في تكوين وخلق أفق جديد وجسر من التواصل بين البشر حول العالم، فالترجمة أحد إسهامات المترجمين والدولة معًا، فلا يمكن طرق باب الترجمة من دون الدعم، كما أشارت إلى أهمية تنمية المترجم لمهاراته الخاصة، التي تبدأ من تمكنه من اللغة التي يترجم منها، ومعرفة كبيرة لا تقبل للنقاش للغة التي يترجم لها، كما أكدت نقطة التخصص، التي اعتبرتها من بديهيات الترجمة التي لا نقاش بها أو جدال من قبل المترجمين.
عقبات تعترض مسيرة الترجمة العربية
د. محمد عناني، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، ألمح إلى عدد من العقبات التي تعترض مسيرة الترجمة العربية على الرغم من تأكيده أنها بدأت تزدهر، موضحًا أنه لا تزال العقبة الأولى هي النشر والتوزيع، لأن هذه المشكلة تتعلق بما يسمى «لوجيستيات»، أي مشروع ناجح، بمعنى سهولة النقل والإمداد والتسويق، وهذه مشكلة معقدة لأن أمامنا عقبات جمركية وغيرها من العقبات التي تحول دون تيسير وجود الكتب المترجمة في كل مكان في الوطن العربي.
أيضًا هناك صعوبة في ترجمة الأعمال المتخصصة، فالمعروف أن خريج كليات الآداب بأقسام اللغة الأجنبية وغيرها يسهل عليهم الترجمة العامة، لكن تصعب الترجمة التخصصية، وهذا ما يستلزم تشجيع الترجمة أكاديمياً.
وعن دور الدولة في دعم حركة الترجمة، أشار سخسوخ إلى أن مصر تمتعت خلال فترة الستينيات من القرن الماضي، بحركة ترجمة مزدهرة، وأثمرت بدورها عن عدد مهول من الترجمات في مجالات عدة، لكنها خفتت في السبعينيات واندثرت أكثر خلال العقود التي تلتها، وهو ما يعد تخاذلاً في مجالات عدة.
أهمية التخصص في الترجمة
الباحث والناقد د.يوسف نوفل أشار إلى أهمية التخصص في الترجمة، مؤكدًا أنه على المترجم أن يكون متخصصًا في مجالٍ بعينه حينما يُقدم على ترجمة كتاب ما، سواء كان علمياً أو أدبياً، لأن هذا يمنحه قدرة على تضفير العلوم معاً وخلفية لا يملكها غير المتخصص، مما يحيل الترجمة إلى مجرد نقل حرفي من لغة إلى أخرى وهو ما يفقد الكتاب جوهره ويشتت القارئ.
ويستشهد نوفل بترجمة كتاب «نظرية الأدب» لأوستن وارن،والتي يملك منها ترجمتين لكاتبين مختلفين، واصفًا الترجمتين بأنه شتان بينهما، فالتمكن من اللغة والتخصص جعل كل مترجم منهما يتفوق على الآخر بفارق كبير.
ولفت نوفل، إلى أن مصر تملك الكلية الأولى والوحيدة في العالم العربي المتخصصة للترجمة، وهي كلية الألسن، التي انتبه لها ولأهميتها رفاعة الطهطاوي، والتي تمثل عاملاً مهماً ومثمراً في حركة الترجمة في مصر. وطالب بتكثيف عمل المترجمين، ما سيساعد في تبلور صحوة جديدة في مجال الترجمة والعلوم والمعرفة.
البيان
|
|
|
|