بلقنة اللغة

أ. زليخة أبو ريشة

ربّما أن الشعب الاردني لا يدرك تماماً أن لغته العربية من اجمل لغات الأرض وأرقاها، لأنه لم يعد يصغي الى موسيقا أعماقها البعيدة، ولا إلى تلك التي تشرق من محياها، ولذا، فإنه لا تمر مناسبة من دون ان ينتهزها في السخرية منها، والعبث بها، والحط من قدرها، وكأنه له ثأر عندها، ويحتاج الى استعادة حقه! او كأنها أنثى ضالة حمّلته شبهات تمس شرفه الرفيع، فانتضى البعض بيدٍ خنجر جهله، ومضى يشرّح وجهها الجميل، وباليد الأخرى كان يرفع -ويا للدهشة - لافتة انتمائه العربي، ويزيد عليه "الإسلامي"!.

فلافتة إثر لافتة.. وإعلان من بعد إعلان.. تلك التي عمّت وطمّت وملأت الشوارع وجدران العمائر وفضاءات أسطحها، كما ملأت الصحف والمجلات وكل وسيلة إعلام، كما صفحات التلفزة وفسحات الفضائيات.. نبحث عن العربية بمنظار مكبر، ولا نجد، فقد توارت توارياً قسرياً خلف اي محكيةٍ هزيلة، او انجليزية ركيكة وحروفها العجماء. واذا كانت الشقيقة مصر قد سبقتنا في هذا التداعي، فإن لها عذراً في محكيتها الرشيقة التي لها - من دون سائر محكيات العرب - خاصية فريدة هي "طغيان العدوى".. فما عذرنا في محكيتنا التي تخلو من اي صفة من صفات الجمال والبيان والبلاغة؟

وما هذا الفيض الإعلامي الذي ينوء بحمله من اللغة الهجينة الجديدة، الا وثيقة تاريخية تنذر بخطر قادم وهو "بلقنة اللغة" في بلاد العرب، اي احلال المحكيات المتعددة بدل اللغة الواحدة، وقطع من ثَمَّ قادم الاجيال عن معارفها وتاريخها وتراثها، وتحويل العربية الى لغة النخبة فحسب، بعد ان كانت - وبرغم انتشار الأمية - لغة الناس جميعاً، إن لم تتكلمها فإنها تفهمها وتفهم بها العالم، تفهم بها الاخبار والمسلسلات الدرامية الفصيحة وندوات النقاش التي لم يكن لها ان تدور الا بها! والخطب العصماء التي كان يلقيها الساسة والقادة في المناسبات التي لا تنتهي.. بل الأهم من ذلك كله: كانت تفهم بها القرآن الكريم.

ولقد حدث ان ضربنا الزمان بضع ضرباتٍ موجعات، فتراخت قبضاتنا بفعل هوان النفس، عما هو جوهري، الى أن اوصلنا الحال الى القبض على فكرة الاستهلاك كحل ناجع! فقررنا ان نستهلك كل شيء حتى كرامتنا.. وكان منها لغتنا..!

من قال: إذا أردتم محو شعبٍ فامحوا لغته؟ وهذا ما يحدث الآن وتحت انظار ساستنا العظام، والاكاديميين الكبار، ومنظّري الخلاص. فأي خروجٍ من مأزق -ومأزقنا تاريخي - يتم بأن نخلع اولاً واحدةً من ألصق ملامح هويتنا بنا؟ في حين لا يتوقف الزعيق في المنابر والمساجد والمدارس والجامعات ومجلس الأمة وكل ما يتيحه الإعلام، من أننا نتمسك بهويتنا؟

وما هي هذه الهوية التي اقتصرت سماتها على تغطية محكمة لجسد المرأة، في حين أن اخاها - الذي يكبرها وذاك الذي يصغرها - في محزّق الجينز وفي الـ "نيولوك" شديد ضبط قصة شعره وتدليله بالـ "واكس"، ولا بأس من سلسال ذهبي او فضي في العنق او الرسغ! (مبدئياً, لست ضد حرية المرأة أن تختار مظهرها - لو كان لها أن تختار، ولا ضد أن يختار الشاب "نيولوك" له!! بل المسألة تتعلق بالكيل بكيلين من جهة، وبأدلجة الحجاب من جهة اخرى).

وما هي هذه الهوية التي لا نرى من مظاهرها إلا التآكل في الهمة، والتدهور في صحة الروح، بحيث بات من المستحيل أن نأمل أن تتحرك أجهزة الدولة لإيقاف طغيان هذا الفساد المكتوب، والإفساد العلني للغة؟

بات من المستحيل ان نزيل صمم أمانة عمان الكبرى والبلديات الأخرى التي تسمح بانتشار هذا الوباء اللغوي، لأنها ببساطة: لا تعرف، مع أنه من أيسر الأمور أن نطبق عليها نظرية "التآمر" ونستريح! (ولكنه في الحقيقة تآمر سالب. فاذا كان يراد بنا أن نظل أفقر شعوب الارض إمكانات وكرامة.. فإن لدينا من الفساد الإداري والعماء التنظيري، وجهل السلطة وأولوياتها الغريبة، بحيث نضمن ان يتحقق فينا ما يراد).

في هذا الجو المشحون بالجهل والتجاهل، كيف لنا أن نطمع من الحكومة ونواب الأمة المشغولين الآن في إعفاءات سياراتهم (!!) ان يُسَنَّ "قانون اللغة العربية" الذي يخول علماء الأمة في مجمع اللغة العربية من حماية اللغة، على نحو ما فعلت الشقيقة مصر؟

وهل بالإمكان يا ترى ان بصيراً واحداً او بصيرة واحدة (ولآمل أنّها وزيرة الثقافة) تتصدى لهذه المهمة التي تحمي الوجود العربي في عقول أبنائه وبناته وألسنتهم، وفي مستقبل العالم؟

الغد