لغتنا.. اللغة العربية

أ. فريهان الحسن

ليس من دليل أوضح على ما وصلت إليه لغتنا العربية من حالة أسى، ما تتعرض له هذه اللغة من إنكار، ولربما خجل كثير من أبنائها ممن يعتبرون التحدث باللغة الإنجليزية في المناسبات الاجتماعية، كما بين بعضهم بعضا، أساسا للنجاح والتقدم، بل واكتساب "إعجاب واحترام" المحيطين بهم!
الأسبوع الماضي، حضرت في أحد فنادق عمان الفاخرة مناسبة خيرية، هدفها جمع التبرعات من أجل مساعدة المرضى، وسط حضور جماهيري كبير.
وكما العادة، رحب مقدم الحفل، في البداية، بالضيوف، معرفاً بالهدف من وراء إقامة الحفل، والأهداف الإنسانية المنوي تحقيقها من ورائه. وإذ كان المعنيون، حضوراً ومرضى، من الأردنيين العرب، إلا أنه وجه كل خطابه باللغة الإنجليزية، ولم ينطق بكلمة عربية واحدة؛ وكأن جميع الحاضرين من الغرب، فلا يمتون للعرب بصلة!
انتظرت كلمات القائمين على هذا الحفل الإنساني الخيري الذي يستحق المتابعة. لكنها لم تكن أيضا إلا باللغة الإنجليزية، وكذلك حال مشاركات الحضور، إلى درجة أحسست معها أنني لست في الأردن!
واكتشفت أن "عدوى" التنكر للغتنا العربية أو "الترفع عنها!" قد انتقلت إلى الحضور الذين كانوا يتبادلون الحديث فيما بينهم باللغة الإنجليزية. فهؤلاء كانوا لا "يمررون" كلمة عربية إلا عن طريق الخطأ، ما يوحي بتقصد واضح لتجاهل اللغة العربية أو الخجل منها.
لم تكن هذه المناسبة هي تجربتي الحزينة اليتيمة؛ فقد حضرت قبل ذلك العديد من المؤتمرات الصحفية والمناسبات الاجتماعية والحفلات الخيرية "العربية" التي تكون لغة الخطاب الأولى فيها هي الإنجليزية، في تجاهل تام لحقيقة أن جميع الحضور من هنا! وكأن القائمين على تلك المناسبات لديهم قناعة، أيضاً، بأن المتواجدين لا بد وأنهم يتحدثون اللغة الإنجليزية بطلاقة!
جميعنا يشجع على تعلم لغات عدة، تسهل حياتنا، وتفتح لنا آفاقا جديدة تطور مساراتنا العلمية والعملية، لكن على أن لا يكون ذلك على حساب لغتنا الأم؛ أي على حساب هويتنا وحضارتنا، في الماضي والمستقبل.
نحن نعيش الآن في مجتمع ربما فيه عائلات كثيرة لم ينطق أفرادها، منذ سنوات، بكلمة عربية واحدة في حديثهم مع بعضهم بعضا، داخل المنزل أو خارجه مع من يقابلون من البيئة ذاتها!
ثمة من يعتبرون التحدث بالإنجليزية نوعا من "البرستيج" الاجتماعي، أو سبيلاً لإعطاء "قيمة أكبر للحدث"، وهو في أحيان كثيرة نوع من "الاستعراض"! والحقيقة أن ذلك لن يمنح "البرستيج" الاجتماعي، بقدر ما هو "اغتراب" عن أنفسنا ومجتمعاتنا، و"انسلاخ" عن الهوية. ولذلك تجد في المقابل كثيرا من الأشخاص الذين قضوا حياتهم في الخارج، لكنهم ما عادوا ينطقون كلمة من اللغة الإنجليزية التي يتقنونها تماماً، تعبيراً عن اعتزازهم وفخرهم بلغتهم.
وعند زيارتنا لأي من الدول الأجنبية المتقدمة من غير الناطقة بالإنجليزية، نلمس كيف يجبر الزائر أو المقيم على التحدث باللغة الرسمية لكل واحدة من الدول، وإن كان المواطن هناك يتقن اللغة الإنجليزية. وقبل سنوات، قابلت في دبي مديراً فرنسياً لإحدى الشركات العالمية الكبرى، لإجراء حوار معه. وقد رفض أن تكون إجاباته باللغة الإنجليزية التي يجيدها، وطلب توفير مترجم ينقل الحوار من الفرنسية إلى الإنجليزية. وإذ استأت منه يومها، إلا أنني أدركت مع الوقت كم هو متمسك بلغته الأم، بما يعني الحرص على الحفاظ على هويته.
التحدث في مناسبات وطنية محلية بلغة غير العربية لا يمكن أن يكون نوعا من التمدن والتطور، بقدر ما هو اغتراب وأمية حضارية! فلغتنا تعلو بنا، تماما كما نعلو نحن بها.

الغد