|

الشعر العربي ومأزق الحداثة
أ. محمد ناصر
إن الكتابة عمل أدبي فني يجعل من ذات الكاتب نافذة، منها يمكنك أن تطل على عالمه الخارجي، ومنها أيضا يمكنك الولوج إلى أعماقه وكوامنه، هكذا إذن تحقق هذه الذات المبدعة تلك المعادلة بالضرورة بين الذات والآخر، بين عالم باطني ذاتي وعالم موضوعي.
ربما طغت عند بعض الكتاب النزعة الفردية المطلقة التي تعتبر الذات محورا للكون والعالم والرؤيا، فتلتجئ بذلك إلى تغييب ما خارجها والتخلي عن كتابته، مثلما فعلت في رأيي المدرسة السوريالية، لكن هذا النمط في رأيي يمثل فضاء مغلقا وموهما، هو مغلق لأنه يكتفي باستهلاك الذات وعزلها عن مسارها التاريخي بشكل قسري، وواهم لأنه لا يمكن عزل الذات الكاتبة بشكل مطلق مهما حاولت، فهناك منجز لغوي حضاري نبتت فيه ولا يمكن انتزاعها منه. ثم هناك من يقول بإلزامية تسخير الكاتب لنفسه وكتاباته للآخرين، كأن يكتب عن قضايا مجتمعه حصرا ويكون صوتهم كما كان الشاعر العربي من قبل «لسان قبيلته»، لكن هذا يسقطنا بدوره ،إما في أن تتحول الذات الكاتبة إلى مجرد بوق تكتفي بقضايا الآخرين رغم أنها قد تضطر إلى تغليف ذلك ببعض من النزعة الفردية المموهة، لكن في النهاية تظل هذه الذات ممرا مفتوحا من جهة واحدة نحو الآخر لا تراعي في ذلك تلك النرجسية التي دفعتها إلى الكتابة دون غيرها. إذن نقر أن الكتابة في الأصل فعل تفاعلي لا يمكن فيه تغليب جهة أو رؤية على أخرى أو تصبح بمشية عرجاء في مسارها التاريخي.
الحداثة مفهوم متأصل
إن الحداثة مفهوم متأصل ينبت وينمو في مناخ متكامل، فلا يمكن أن نتحدث عن حداثة منعزلة، فالحداثة حضارية تمس كل مكونات تاريخها الجغرافية والفعلية والزمنية، لهذا تعد الحداثة، أدبية كانت او غيره، مفهوما مرتبطا أساسا بالغرب وثورته الصناعية والاجتماعية. كيف يمكننا الحديث إذن عن حداثة في الأدب العربي والمجتمعات العربية مجتمعات استهلاكية بامتياز خارج أغلبها عن التاريخ؟ من يقرأ اليوم لشعراء وكتاب عرب يمكنه أن يلتمس النفس التحديثي، من قصيدة التفعيلة إلى قصيدة النثر ومن الرواية الكلاسيكية إلى الرواية التجريبية، يعد المنجز الأدبي وما زخرت به المدونة الادبية من اعمال تخلى فيها أصحابها عن الزخرف اللغوي القشري والغنائية المطلقة التي تسكن الخواء الفكري، وساهموا في اندفاع الأدب العربي إلى مجاهل وأقاصي جديدة. لكن إلى أي مدى ترتبط الحداثة الأدبية بحداثة مجتمعاتها؟ واضح انه ما من رابط بين كتاب أسسوا لحداثة أدبية عربية ومجتمعات لا تقرأ ولا تنتج. وإن سألتني أقول لك ان معظم الكتاب العرب المحدثين يستوردون منابعهم وروافدهم من الخارج ثم يحاولون تأصيلها وقد نجح قلة منهم في ذلك، لكن على المدى القصير، إذ تظل القطيعة بين المدونة الأدبية والمجتمع والبيئة الحضارية التي تعيش فيها قطيعة جذرية. وهذا ما يجعل من الكاتب العربي رازحا تحت وطأة كبرى فهم يكتبون في أوطان لا تقرأهم ولا تمثلهم ولا ينهل أغلبهم منها، وكأنهم يكتبون هنا بينما هم هنالك. وهذا ما خلق أزمة التغريب عند بعضهم وفوضى المنجز عند آخر. ربما يكون للكاتب عامة دور الريادة والاستشراف لكن هذه الريادة يجب أن تتبع آثارها على الأقل وهذا ما لا يحدث في مجتمعات عربية لا تقرأ أكثر من ثلاث صفحات في السنة.
خلل وفوضى دون هوية أو بصمة
إن القطيعة بين الكتاب العرب بمنجزهم الحداثي ومجتمعاتهم تجعل بعض الكتاب يميلون أكثر إلى الذات، هذا ما يجعل من بعضهم يتخلى عن دور النافذة ويكتفي بذاته ليستهلكها دون أثر لفعله رغم أهميته. أو يحدو آخر إلى التجريب بشكل فوضوي دون أسس قاعدية أو كشف حقيقي رغم أن التجربة أساس العمل الإبداعي وقوامه الأول. كما أن هذه القطيعة تخلق أدبا هجينا لا يحمل هوية أو بصمة، هذا الأدب الهجين الذي تكاثر كالبكتيريا مع انفتاح آفاق النشر الإلكتروني خاصة. نعم الفايسبوك والمواقع الإلكترونية تمثل فرصة هامة ومتاحة للنشر والتعريف بأصوات جديدة بعيدا عن تعقيدات النشر الورقي القائم أغلبه على العلاقات والمصالح، لكن للفضاءات الإلكترونية تبعات أيضا، حيث ساهمت في فوضى كم هائل من النصوص التي منها من يدعي الشعر ومنها من يدعي النثر. العيب الأكبر في هذه الكتابات هو انعدام البصمة والهوية والذات بمحيطها وحضارتها وبيئتها، وأيضا التشابه المطلق بينها ذلك لأحادية مشاربها وانعدام التجربة الذاتية الحقيقية في منجزها نظرا إلى أنها لا تعيش في عالمها الحقيقي بل عالم آخر تتشربه من الترجمات التي رغم أهميتها إلا انها ساهمت في توحيد الرؤية، فأصبحنا نقرأ أدبا هجينا موحدا هو انعكاس طبيعي لذوات هجينة أحادية الرؤية، ولعل الأخطر في الأمر هو ضرب اللغة العربية ككل، والتي وإن بقيت جامدة ومن الضروري ضخ دماء ومصطلحات جديدة فيها باستمرار، إلا انها تضررت بفقدانها للتوازن رفقة ما يكتب من ادب حديث فاقد لهويته و بصمته الخاصة.
إذن لا بد من ثورة وحداثة حضارية حقيقية، فتتبعي أدبك أيتها الشعوب، تتبعي فنك لتلتقيا وتتعانقا في طريق الفعل الإنساني المحدث.
القدس العربي
|
|
|
|