اللغة والسياسة

أ. دوان موسى الزبيدي

ديننا الحنيف لايسمح بالنميمة والغيبة والسخرية بل يحرمهما في محكم التنزيل  ؛ يقول الله تعالى : " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلَا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ" سبحان الله العظيم..
هذه آية في قرآننا نزلت علينا نحن المسلمين بكل ماتحمل من تحذير ونهي شديد عن هذه السلوكيات الذميمة أقول لايكاد يُصدَّق  مانحن فيه من مخالفة صريحة لهذا النهي الإلهي، فهاهم المسلمون يسخر بعضهم من بعض وينتقص بعضهم بعضاً ،
ويستبيحون دماء بعضهم ، الوحوش تعاف لحوم بعضها ، وبنو البشر يأكلون لحوم بعضهم بعضا؛ يقول الشاعر:
وليس الذئب يأكل لحم ذئب **** ويأكل بعضنا بعضاً عيانا  
السخرية والتعالي والنظرة المنتقصة ، وكلمات الهمز واللمز والنكت والتعليقات الجارحة كثيرا ما نسمعها تطلق على قبيلة أوقبائل معينة أوعلى جنسية من الجنسيات ، فجماعة يسخرون من جماعة أخرى ويطلقون عليهم النكات والتعليقات التي يتهمونهم فيها بالغباء ، وآخرون يعدون أنفسهم أفضل من أهل البلد الفلاني لأنهم أغنى منهم وأولئك فقراء وأولئك يسخرون من هؤلاء بأنهم بدو جهلة غير متعلمين، وآخرون ينتقصون أقواماً بسبب أنهم يرون أنهم أفضل منهم حسباً ونسباً وآخرون يسخرون من أناس بسبب ألوانهم وغيرها من المسببات الواهية التي لاتولد إلا الكره والبغض والحقد والحزازات التي تزيد الفرقة وتشق الصف وتورث البغضاء بين المسلمين الذين ينبغي أن يكونوا أمة واحدة على قلب رجل واحد يسعى بذمتهم أدناهم.
ونظراً لأن هذا الأمر خطر، وأن عاقبتهم سيئة فقد حذرنا الرسول الكريم في الحديث الشريف: (يامن آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لاتغتابوا المسلمين ولاتتبعوا عوراتهم ‘ فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته ومن يتّبع الله عورته يفضحه ولو في جوف بيته) أخرجه الحافظ .
  كان كل شيء يهون على  قريش ، إلا تحطيم الفخر بالأنساب ، والاغترار  بالآباء والأجداد ، وما كان يخفى عليهم ما في عقائدهم من سخف ، ولم يخفَ عليهم أن ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم خير مما هم عليه من عقيدة ، ولكنهم كانوا يدفعونها بكل ما يملكون من قوة  لماذا ؟ وما هو السبب ؟ لأن ما يدعوهم إليه محمد صلى الله عليه وسلم فيه تحطيم لسيادتهم وفوارقهم واعتزازهم بأنسابهم . فقد كانت جمهرة الحجيج تقف بعرفات وتفيض منها..أما قريش .. فكانت تقف بالمزدلفة ومنها تفيض ، فجاء محمد صلى الله عليه وسلم وهو من أشراف قريش يقف بعرفات ، ويأمر الله قريشاً فيقول : ( ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ) " سورة البقرة ، الآية : 199 "
  تحقيقاً للمساواة بين المسلمين . وكان الرجل من أشراف قريش يأنف أن يزوج ابنته أو أخته من الرجل العربي من عامة الناس؛ فجاء محمد صلى الله عليه وسلم – وهو من قريش – فزوج ابنة عمته زينب بنت جحش من مولاه زيد وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : ( يا بني بياضة ، أنكحوا أبا هند ، وانكحوا إليه ) " رواه أبو داود والحاكم بسند جيد " وكان حجاماً رضي الله تعالى عنه .
وبهذا كله .. يقف الإسلام فريداً بين جميع أنظمة الدنيا، التي عرفها البشر قديماً وحديثاً لدرء جميع أسباب النزاع والخصومات في الأرض ، وإرهاصه لجميع القيم التي يتكالب عليها الناس ، ليرفع لواء ضخماً واحداً ، يتسابق الجميع ليقفوا تحته ، ألا وهو لواء التقوى ؛ الذي رفعه الإسلام لينقذ البشرية من أخطبوط العصبية للجنس ، والعصبية للأرض والعصبية القبلية ، بل والعصبية ضد الرق ليقول صلى الله عليه وسلم: ( من قتل عبده قتلناه ، ومن جدع عبده جدعناه ، ومن أخصى عبده أخصيناه ) " رواه أحمد والأربعة " وينقذ البشرية من عصبية الرجل ضد المرأة ، في الوقت الذي كانت الجاهلية تئد فيه البنات ، فيقول الله عز وجل : ( وإذا الموءودة سئلت ؛ بأي ذنب قتلت )" سورة التكوير ،
إنه في الوقت الذي جاء الإسلام فيه محارباً للعصبية ، ومبطلاً لها ، لم يترك باباً من أبوابها إلا أغلقه ، ولا نافذةً من نوافذها إلا طمسها ، سوى نافذة واحدة ،نافذة الدفاع عن العقيدة ، وفي هذا  الإطار  أبدع شعراء الإسلام الأُوَل قصائدهم ، وأطلوا بهجائهم أمثال حسان بن ثابت ومن نسج على منواله  من تلك النافذة ؛فقد دافعوا عن معتقدهم في شعرهم دون إقذاع ،لكن في فيما بعد تحولت القصيدة من هجاء أحادي كما كنا نرى في نقائض جرير والفرزدق مثلا ، إلى هجاء جماعي، إلى وصف قبح الواقع، وإلى تعريته، وكشف المسكوت عنه، وفضحه. لا من أجل صنع مفارقة جزئية أو كلية كما قد يتوهم بعض الدارسين، ولكن من أجل التحفيز على النهوض، فسيكولوجيتنا العربية لا تتحرك أو تبادر إلى الفعل عبر الأوامر أو بيان الخصال الحميدة ، والسجايا الطيبة، ولكنها تبادر إلى ذلك الفعل المؤثر بعد كيِّها، أو تعييرها، أو ذمها . ويعد شعر دعبل الخزاعي، وهجائيات المتنبي لكافور صورة مثلى محفزة، على الرغم من أنها هجائيات فردية أحادية، ويجيء بيت دعبل الشهير:
إني لأفتح عيني حين أفتحها
على كثير ولكن لا أرى أحدا
بيتا حادا مسنونا، ضاربا بأعناق الدلالات ، إذ إنه ينفي تماما أن أحدا موجودا أمامه، في فعل تغييب، وفعل سخرية، وفعل مفارقة معا، وهو البيت الذي تناص معه الشاعر أحمد عبدالمعطي حجازي في قصيدة له معبرا بقوله:" هذا الزحام .. لا أحد" .
وكما كانت قصيدة المدح لا تتقدم – في تحليلها الأخير – لوصف الممدوح مباشرة ( خليفة كان أم واليا) حيث كانت تنشد القيم الخلقية العامة، أو تقدم النموذج الذي ينبغي أن يكون عليه الخليفة أو إمام المسلمين ( على حد تأويل الدكتور شوقي ضيف) ، فإن قصيدة الهجاء أيضا لا تهجو بالضرورة الشخص الذي تكتب فيه قصيدة الهجاء، ولكنها تهجو الواقع نشدانا لعالم أفضل،
لقد ورث الشاعر المعاصر هذه الذهنية، لكنه في عصر القومية مارس دوره الهجائي بإتقان، خاصة حين تعرضت هذه القومية لنكبة العام 1948 ثم نكسة العام 1967من هذا المنظور انطلقت الكتابات الشعرية السياسية لدى أبرز شعراء الهجاء السياسي المعاصرين: نزار قباني، مظفر النواب، أحمد مطر، أمل دنقل ،فالهجاء  تطور شعريا في العصر الحديث من هجاء فردي أو قبلي كما تمثل في شعريتنا العربية القديمة ، إلى هجاء سياسي شامل، يهجو الواقع السياسي ، فساد العالم، وخرابه، يهجو أقزامه وخصيانه الذين استعبدتهم المادة واستعبدهم العصرما جعل لقصيدة الهجاء السياسي سمات عدة :أولها: أنها قصيدة موجهة للمجموع: الوطن، القادة ، الجماهير. ..يقول مظفر النواب موجها كلامه اللاذع لأمته وبلدانها:
لم يعد يليق بك يا أمة مؤتمراتها مؤامرات وكلامها تفاهات وقراراتها وهمية
 لم يعد يليق بكِ التحيةّ .. يا أمة بدلت إسلامها بدين الديمقراطية!!
ما أخبار فلسطين ؟! .. شعب بلا وطن .. وطن بلا هوية
ما أخبار العراق ؟! .. بلد الموت اللذيذ والرحلة فيه مجانية ..
ما أخبار ليبيا ؟! .. بلدّ تحولّ الى معسكر اسلحة وأفكار قبلية
ثانيها: أنها قصيدة تأتي غالبا بعد حدث مأساوي: النكبة والهزيمة العربية مثلا أمام إسرائيل، النكوص والهروب من المواجهة وتكلس الجيوش العربية وتقاعسها كما في غزو إسرائيل للبنان في العام 1982 ، الانكسار العربي الجماعي كما في حرب الخليج الثانية، وتداعياتها حتى غزو جيش الاحتلال الأمريكي العراق وسقوط بغداد الأليم.
يقول نزار بعد الهزيمة:
أنعي لكم، يا أصدقائي، اللغةَ القديمه والكتبَ القديمه
 أنعي لكم..  كلامَنا المثقوبَ، كالأحذيةِ القديمه..  ومفرداتِ العهرِ، والهجاءِ، والشتيمه
     أنعي لكم.. أنعي لكم  نهايةَ الفكرِ الذي قادَ إلى الهزيمه


ثالثها: أنها قصيدة تعتمد على آليات المفارقة، والسخرية، كما أنها تعتمد على جماليات المباشرة.
يقول أحمد مطر ساخرا:
أكثَرُ الأشياءِِ في بَلدَتِنـا  الأحـزابُ     والفَقْـرُ     وحالاتُ الطّـلاقِ .

عِنـدَنا عشرَةُ أحـزابٍ ونِصفُ الحِزبِ        في كُلِّ زُقــاقِ !

كُلُّهـا يسعـى إلى نبْـذِ الشِّقاقِ !     كُلّها يَنشَقُّ في السّاعـةِ شَقّينِ

يَنشَـقُّ على الشَّقّينِ شَـقَّانِ      وَيَنشقّانِ عن شَقّيهِما ..

من أجـلِ تحقيـقِ الوِفـاقِ !     جَمَـراتٌ تَتهـاوى شَـرَراً

والبَـرْدُ بـاقِ      ثُمّ لا يبقـى لها
إلاّ رمـادُ ا لإ حتِـر ا قِ !     لَـمْ يَعُـدْ عنـدي رَفيـقٌ
رَغْـمَ أنَّ البلـدَةَ اكتَظّتْ     بآلافِ الرّفـاقِ !
ولِـذا شَكّلتُ من نَفسـيَ حِزبـاً
ثُـمّ إنّـي مِثلَ كلِّ النّاسِ –
أعلَنتُ عن الحِـزْبِ انشِقاقي !
رابعها: أنها تصل الماضي بالحاضر، تتناص مع الموروث كما تتناص مع الواقع الراهن.،ولاتلتزم بأخلاقيات الدين الحنيف، بل تغوص في أعراض المهجوين ويجد الشاعر لهذا الغوص مايبرره..يقول نزار:
شنقوا التاريخ من رجليه      باعوا الخيل و الكوفية البيضاء
باعوا أنجم الليل وأوراق الشجرْ   سرقوا الكحل من العين
  وباعوا في عيون البدويات الحورْ
 
خامسها: أنها تعتمد شعرية اللقطة أو الومضة  غالبا ، والوصول إلى المعنى من أقصر طريق.
يقول أمل دنقل:
 يا ساكناً سقط اللوى
 قد ضاع رسم المنـزلِ
 بين الدخول فحوملِ
 مقيم هنا أشرب الخمر في حانةٍ
 قرب رأس المجيمر..كل مساء.
ضاع ملكي وأنا في بلاد الروم ،أمشي ، أتعثر
 من ترى منكم يغيث الملك الضليل في ليل العويل
 أنت يا صخر يغوث
 أرسل الموت لكوخ الندماء
 ضيعوني...ومضوا في دربهم
 يشربون الخمر في كل مساء
 قرب غنجات الإماء
 ضاع ملكي
 أكلتني الغربة السوداء، يا قبر عسيب
 جارتي، إنا غريبان بوادي الغرباء
نجد في كل تركيب  ومضة واخزة  ومضيئة
سادسها: تستخدم الترميز والإسقاط الرمزي على الواقع الراهن، عبر القناع، عبر توظيف الشخصيات التراثية وغيرها من
 الآليات.  
نزار يلجأ إلى الترميز:
يا صلاح الدين..هذا زمن الردة..
والمد الشعوبي القوي  ..أحرقوا بيت أبي بكر..
وألقوا القبض في الليل على آل النبي
فشريفات قريش ...صرن يغسلن صحون الأجنبي..
هذه السمات تجدها تتكرر في كثير من شعر نزار وأمل دنقل و أحمد مطر ،
لكن نزار ألقى نفسه في دائرة النار عندما بدأ مبكرا يخرج على المألوف ويخالف السلوكيات الإيمانية فكفروه  حين قال :
(من أين يأتي الشعر يا قرطاجة..والله مات وعادت الأنصاب)
 فقالوا :ادعى بأنَّ الله تعالى قد مات وأن الأصنام والأنصاب قد عادت..وتساءلوا: أليس هذا كفرا؟
وكما  قالوا:يصف هذا الشاعر (الشعب) بصفات لا تليق إلا بالله تعالى فيقول في ديوانه (لا غالب إلا الحب) صفحة 18:
( أقول : لا غالب إلا الشعب للمرة المليون لا غالب إلا الشعب
فهو الذي يقدر الأقدار وهو العليم، الواحد، القهار)..
لكن نزار أحس فيما بعد أنه تجاوز مانهى الإسلام عنه، فبادرإلى الاعتذار في القصيدة التي نسبت إليه يقول فيها:
أدنو فأذكـــــــر مـــا جنيت .. فأنثني ،،،
 خجـلا .. تضيـق بحمــــلـي الأقــــدامُ ...
أمن الحضيض أريد لمسا للـــذرى؟؟ ،،،
 جل المقـــــــــــام .. فلا يطـــال مـقامُ ...
وزري يكبلني .. ويخـــرسني الأسى ،،،
 فيموت في طرف اللســـان كـــــــلامُ ...
يممت نحوك يا حبيــــب الـلـــه! في ،،،
 شـوق .. تقض مضاجـعي الآثــــــامُ ...
أرجو الوصول فليل عمـري غابـــة ،،،
 أشـــــــــواكـــــــــها الأوزار .. والآلامُ ...
لافتات أحمد مطرتقرع الحاضر والمستقبل بكلمات لاذعة لذعا مراً، وتراكيب لغوية قوية موجعة، لكن لها مايبررها أحيانا ،فالواقع المر يجعل الكلمات أكثر مرارة في الأفواه، والأسى يدفع إلى تراكيب موجعة واخزة...
وأحمد مطر ليس لديه  من التجاوزات ما يعتذر عنه كنزار قباني،لكن هناك شعراء أفقدوا الكلمة حدتها ،والتركيب وقعه،لأنهم
لفساد مبتغاهم ، ورخص غاياتهم المادية التي يعرفها القاصي والداني، وأصبح حال الواحد منهم ينطبق عليه الوصف القديم لأحد المطربين الذي قيل :إنه (لا يغني إلا بدرهم.. ولا يسكت إلا بدينار)! فهؤلاءيخرجهم الجمهور بذائقته من دائرة الشعراء أصحاب الهمم العالية الذي قاتلوا بكلماتهم ،وأوجعوا بمعانيهم..