
التعريب بين الوطنية والتغريب
د. رزاق محمود الحكيم
من أهم الأسباب التي تعلي من شأن الأمم عنايتها بلغتها ، وتراثها ، وتاريخها ، والتعريف به إلى الأجيال الجديدة للانتفاع منــه ، ثم الاجتهــــاد والبحث ، والتأليف والإنتاج ، للإضـــافة إليـه ، وتعزيزه ، بمــــا يتلاءم مع الحاضـــر وتطوراته . أما الاقتصار على الفخر بالماضي ، وأمجاده ، فحسب دون الاجتهاد والعمل والإضافة والإنتاج فإنه لايكون مجدياً . قال معروف الرصافي :
وشر العالميـــن ذوو خمولٍ إذا فاخرتهم ذكروا الجدودا
وخير الناس ذو حسب قديم أقام لنفسه حسباً جديــــــدا
إن الاعتزاز بلغتنا العربية ، وأمجادنا ، وإنجازاتنا الحضارية والعلمية لايمنعنا من الانفتاح على لغات العالم الحية ، والانتفاع من تجاربها ، وإنجازاتها العلميــــة ، بل العكس فإن ذلك سيدعـــم مكتسباتنا العلميـــة والفكرية ، ويســـاهم في تطويرها ورقيها . إن اللغة وسيلة للتعبير ، والتبليغ والخطاب ، ومهما اختلفت لغــــات العالم وتنوعت ، فإن الأحاسيس الإنسانية والقيــم ، والفضائل لاتختلف ، بين البشـــر مهما اختلفوا في الموقع الجغرافي ، أو في الأصـــول والأعــراق والأجناس ، كالإحساس بالخير والجمال ، والحق والعـــــدل والإنسانية ، والرحمـــــة والمعروف ، هذه القيم الجمالية ، والإنسانية واحدة بين النــــاس ، غير أن الاختلاف هو في نسبة الإحساس بها ، والاستجابة لها ، والتعبير عنها ، والتعاطف معهـا من شخص إلى آخر ، ومن مجتمع إلى مجتمع ، فالنفس التي تتربى على الخيـــر لاتنتج سوى الفضائل والمكارم أما النفوس الشـــــــريرة التي تتربى على القبـــــح والرداءة ، فلا تنتج سوى الرذائل والمساوىء والآثام . قال الشاعر العربي القديم ابن الصيفي :
فحسبكمُ هذا التفاوت بيننا وكل إناء بالذي فيه ينضح إن الاعتزاز باللغة العربية الفصيحــــة ، وتعميم استعمالها في وســـائل التعبير والإعلام ، وتقريبها من حياة المواطن اليومية من شأنه أن يعزز الحس الوطني لديه فاللغة مرتبطة بالمكان والإنسان ، إنها وعاء للعلوم والمعارف والأفكار ، ومستودع للتاريخ والأحداث ، زاخرة بتراث الآباء والأجداد ، وإنجازات العلماء في الماضي والحاضر ، ومما يعزز مكانة اللغة العربية ، ويمنحها الحيـــــاة والديمومة أنها لغة اشتقاقية ، تشتمل على تراكيب متنوعة ، وبإمكانهـــــــا احتواء الإنجازات العلمية ، والمصطلحات التقنية والصناعية الجديدة والمتجددة ، حينئـــذ ينبغي على العلماء أن يبادروا إلى استخدام اللغة العربيــــة في البحث العلمي، والتأليـــف وترجمة العلوم والمعارف والآداب ، من اللغات الأجنبيــــة إلى اللغة العربية ، ووضعها في متناول الطلاب والأساتذة والباحثين .
اللغة مرتبطة حميمياً بالإنسان ، وبالأسرة التي نشأ فيها ، والمجتمع الذي تربى فيه ، والناس الذين نشأ معهم بين أحضان الوطن الأم ، ورضع وإياهم حنان الألفـــة والجوار ، والعادات والتقاليد ، ومن هــذا الكل المركب ، يتعمق الإحساس بالوطنية ، ويتجذر في القلب والعقل ، والذاكــــــرة والوجدان ، ويزداد ارتباط الإنسان بوطنه وسعيه الدؤوب إلى ترقيته، واستعداده للتضحية من أجلــــــه لأن كرامته وعزة نفسه مرتبطة به ، وعلى قدر رعاية الوطن لأبنائه، وتوفير مستلزمات الحياة الكريمة لهم يزداد ارتباطهم به ، وحرصهم على ترقيته ، وتطويره وتعميره . إن جمال الأوطان ، ونظافة المحيط يؤثر على مزاج الإنســــان ، وعلى شخصيته ، وتفكيـــــره وعمله وعلاقاتـــــه الاجتماعية مع الناس . قال المفكــــــر الجزائري مالك بن نبي في كتابه شروط النهضة : ( إن الجمـال هو وجه الوطن في العـــــالم ، فلنحفظ به وجهنا لكي نحفظ كرامتنا ) .
|
|
|